بيو باروخا Pío Baroja - القطار.. وأصحاب الخان.. ت: الطاهر مكي

عندما تسافر في قطار خلال مقاطعات الشمال من اسبانيا ترى بعض البيوتات المظلمة، في مفترق طريق ضخم موحش، الى جانب قرية معتمة.
وربما لاحظت أن أمام البيت تقف عربة ركاب تجرها خيول، وأن بابه مفتوح مضاء، وأن السقيفة عريضة، لها طابع حانوت أو خان.
وربما توهمت، على حق، ان هذا البيت هو خان القرية فانبثق في أعماق روحك اشفاق ما على أولئكم الغلابا من الناس ممن يعيشون هناك في ذلك المكان المنعزل.
ويخرج اصحاب الخان الى الطريق يرقبون القطار، ويرونه وهم حزانى يمرق، فيلوحون له بمناديلهم.
وبين الذين ظلوا والذين رحلوا، يبدو ان الآخرين هم اكثر حظاً، الذين مروا سراعاً وربما كان الذين تخلوا هم الأكثر سعادة.
هؤلاء الذين يجرون هاربين ليدوبوا سريعاً في اعصار المدينة لا يعرفون خانات مقاطعة البشكنس، الخانات الأكثر قرى، الألطف معاملة في الدنيا.
انتم الذين طفتم العالم على أقدامكم، انتم ايها المتسولون الباعة الجوالون، السريحة، المشعبذون، انتم ايها المطرودون ممن لا وطن لكم سوى ما تطئون، انتم الأذلاء، ليس لكم من مال سوى ما تحملون فوق ظهوركم، انتم المتشردون الرحل ليس لديكم ما تحبون إلا جمال الحقل والحرية، أجيبوني: أليس حقاً ما أكدته؟. قولوا لي في صراحة: أليس صدقاً أن خانات مقاطعتي هي الأكثر حلاوة، الأنقى صفاء في هذا العالم، وأنها خير ما في الدنيا؟
نعم. يوجد بينها ما هو حزين كئيب، وسط حقول خربة قاحلة، ومناظر ككابوس تعس، لكن الأغلبية بهجة مبتسمة، تبدو نوافذها كما لو كانت تنظر إليكم في حنان!!.
هؤلاء التعساء الذين يعبرون مهرولين في هذا القطار الأسود، عبر الطريق دون أن يعرفوه، الذاهبون لكي يذوبوا في إعصار المدن الكبرى، لا يشعرون بذلك الإحساس الأكثر فتنة، الأعمق لذة في الحياة الوصول الى خان بعد رحلة طويلة في عربة تجرها خيول. أوه!.
لذة؟!.. إنها الكلمة الوحيدة التي تتسع لهذه اللحظة، لقد امضيتم ساعات في العربة، الدنيا تمطر، والجو الأشهب يلف أرض الشتاء العارية، الطريق مليء بالبرك ذات المياه المصفرة تمتد وسط الضباب على طول تقدم العربة، خلال صفوف من الشجر عارية من الورق، وعلى ضفاف النهر المعكر من الفيضان، الى جانب سفح الجبل المملوء بالأحراش والشوك الجاف.
ويخيم عليكم سبات عميق من البرد، ولقد فكرتم في عدة مواقف غريبة لكي تناموا قليلاً، لكنكم لم تبلغوه، بينما رنين اجراس الخيل الرتيب يرن في آذانكم متتابعا، وما هناك من وسيلة أبداً لكي تغفلوا عن البرد والجوع والتبلد!.
وإن المرء ليتصور ان الرحلة لن تنتهي ابداً، وأن الجبال والعزب والشلالات وبعض البيوتات المنعزلة في مفترق الطرق، والتي ترى من خلال زجاج النوافذ المضمخ بالبخار، تبدو لنا، قد تركناها وراءنا كأنها ترافق العربة في سيرها.
وتصل الى قرية فتبدأ عجلات العربة تتنطط في ثقل، على قارعة طريق حافل بالمطبات، ويسأل واحد مطل من النافذة: أترانا وصلنا؟.. ولكن الحوذى لا ينزل، وإنما يلقي حزمة من الرسائل لرجل، ثم يسلم سلة لامرأة ويعود سوطه يفرقع من جديد، ومرة اخرى تبدأ العجلة تتعثر في حصى الطريق، الى ان تصل الى آخر غاص بالبرك فتتدحرج في سلاسة.
وبعد كثير من الضجر، عندما يبدأ النوم يداعب أجفانكم، وتبدأون في التفكير جدياً ان هذه الرحلة قد لا تنتهي أبداً، إذا بالعربة تتوقف، واذا بالحوذي يثب من مقعده الى قارعة الطريق، لقد وصلنا.
وينزل المرء من العربة مطحونا منحنياً، لا يكاد يستطيع ان يمسك بالحقيبة بين أصابعه.
ويدخل الى الخان..
- تفضل، من هنا.. من هنا، سوف ترسل ذلك كله الى غرفتك، يأخذون منك المعطف ويحملون لك الرحال، ويسألونك عما اذا كنت تريد ان تستدفىء في المطبخ، وتدخل فيه فيبدأ الدخان يقرص عينيك منذ اللحظة الأولى.
ويقولون لك: انها المدخنة، هي تالفة غير صالحة، كما ان الريح شديدة، ولكن من يهتم بذلك!.
وعندما ترى العجوز انك تتكلم البشكنسية تفسح لك في لطف عظيم، مكاناً الى جانب النار، وبينما يعدون لك العشاء، تشوي قدميك، وتحكي لك هذه العجوز ذات الأنف الأقنى، ومنديل يلف رأسها قصة تافهة من ايام شبابها، عندما كانت تخدم راهب القرية، منذ اكثر من خمسين عاماً خلت وتضحك من ذكرياتها، فتبدو لثتها عارية من الأسنان، كما لو كانت لثة أطفال.
وخلال ذلك كله تنتقل سيدة البيت من مكان الى آخر، ويلعب صاحبه عشرة ورق مع ثلاثة آخرين، وقد جلسوا الى منضدة تعادل في ارتفاعها نفس المقاعد التي يجلسون عليها. ويمسك الأربعة بالورق في جد وصرامة، وقد اتسخ بعضه، وتحرتف البعض الآخر، وتتابع أصوات: »ارم..«، »كمان..« في رنين رتيب ويزداد عدد حبات الفاصوليا البيضاء والحمراء لدى الفريقين المتنافسين.
وعند النار تجد مضحك القرية، مهنته الكسل وشاعر الكنيسة ومغنيها، يكاد يعيش على الصدقات التي يتلقاها في الخان، يتحدث مع قناص سمك، قناص غير صياد، كما تعود هو ان يؤكد، لأنه يقتل السمك بطلقات نارية من بندقيته، ثم يخوضان معاً حديثاً طويلاً غريباً عن عادات السلمون وكلب البحر والخنزير البري والقنفذ.
وتسأل صاحبة البيت، وقد فهمت انك شخصية هامة، سمساراً تجارياً على الأقل، سيدي.. ستتعشى هنا أو في صالة الطعام؟
- هنا.. هنا.
ويضعون مائدة صغيرة، ذات فراش أبيض، ويأتي العشاء، تخدمكم بنت اسمها »مارتثيلينيا« وينادونها »إيناسي« فتاة لعوب فتية.
وتأكلون الطعام، تغمسون الخبز في الصلصة، من غير أناقة دوق من سان جرمان على الإطلاق وتأكلون في نفس القدر، أمر ربما لا يجري في البيوت الأرستقراطية.
تأكلون كل شيء، وتشربون أكثر مما يجب قليلاً، وبينما تسقيكم »مارتثيلينيا« من النبيذ الطيب تداعبونها: أنت جميلة، وأنت.. وتضحك هي في ابتسامة بهجة بيضاء، حين ترى عيونكم الملتهبة وأنوفكم المحمرة.
ثم تصعد بعد العشاء الى الطابق الرئيسي، لتنام في غرفة صغيرة، يكاد يشغلها كلها سرير هائل من الخشب، عليه أربع حشيات أو خمس وعدد آخر من البطاطين، وعندما تتسلق هذا البرج، وتلتف داخل الملايات التي تعبق برائحة العشب، تسمع ضجيج المطر على السطح، والريح التي تصر، فيلين قلبك، وتكاد عيناك تمتلآن بالدموع، وتؤمن اكثر من اي وقت مضى بأنه يوجد هناك في أعلى، أب طيب، ليس له من شاغل غير ان يضع اسرة رغيدة في خانات الطرق، وان يقدم عشاء لذيذاً للمسافرين الغلابا.

* ترجمة الدكتور الطاهر مكي عن الأسبانية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى