أيمن مارديني - عطر ماما.. قصة

أيمن مارديني - عطر ماما.. قصة


فتحت صندوقي الأسود لأجد فيه: بقايا من نزق طفولي أحتفظ به بعيداً عن أيام الكهولة، بعضاً من طيش مازلت أمارسه بحذر شديد خوفاً أن ينفد مخزونه لدي، طفولة أمارسها عندما أكون وحيداً: أقفز ببلاهة مثلاً في غرفة نومي،أو أرقص بعفوية و رشاقة على موسيقى باخ، أتدحرج على العشب في الصباح الباكر عندما أمارس الرياضة، أغني الى الداخل عند سماعي أغنية جاز أحبها، وأتخيل الجميع يطرب لصوتي الخشن والدافيء معا، أشبك كف يدي مع كف ابني وأحاول أن أهزمه بعد جهد، و أكتم غضباً عند هزيمتي أمام فتوته. يرى انكساري واضحاً ويحاول ارضائي، وأدعوه لجولة أخرى ويتصنع الهزيمة أمامي، وأفرح أنا.
ولكني أختبيء في غرفة نومي وأراقب جسدي جيداً: أين اختفت عضلات ذراعَيّ وصدري وبطني، وكيف ظهرت بدلاً عنها تجاعيد التجارب والانهزامات و الفشل؟ ولكن ... أقول لنفسي:
هي الخبرة والحكمة والعقل الراجح، هذا هو النضوج بعد عمر مديد، و حياة طويلة.
تداهمني زوجتي وفي يدها كأس من الماء وحبات الطبيب اللعين: عليك اللعنة أيها الطبيب ...أنت تعاني من اسقاط فرويدي واضح، وعليك معالجته في الحال.
تأتي ابنتي و في عينيها ولادة دمعة زهرية اللون و تقول: أبي... أنا كبيرة الآن ويحق لي أن أختار طريقي كما أشاء ويحلو لي... ولن أسمح لأحد أن يتحكم بي ويملي علي ارادته و هذا حقي، و خبرتي في الحياة تكفيني وسنين عمري الخمس عشرة خير دليل و .....
لا ...لا تكبري يا ابنتي ...لا تذهبي بعيدا في الحياة ...خذي معك طفولتك ولا تنكريها،لا تلقي بها بعيداً عنك. النضوج والخبرة والعقل خدعة كبيرة، ووهم زائل نضحك بهما على أنفسنا.
- أبي ... أنت قلت لي أن ....
- أنا كاذب يا ابنتي ...كل قولي لك وللآخرين محض كذب.
- أبي ...أنا قرأت لك أن ....
- لا تصدقي يا ابنتي ...كل كلماتي ماهي الا هندسة كلمات .
- أبي .... أنا شاهدت لك موقفاً حدث أمامي عندما ....
- وهو مشهد رأيته يا ابنتي في فيلم على التلفاز .
- أبي ....أنا أحبك ...أحبك كثيراً .
- وأنا أيضاً يا ابنتي أحببت أبي، ولكني نسيت ملامح وجهه الآن بعدما غادرني منذ سنوات.

وأعود الى صندوق أيامي القديمة، و تداهمني ذكرى أول قبلة على خد فتاة في الصف الخامس الابتدائي:
كان اسمها "حنان"، و كان جسدها يسرقني من طفولتي الى بلوغ مبكر، الا أن عينيها كانتا تعيدانني الى ماهو سام و علوي و يسمو فوق الهرمونات.
قطفت لها الكثير من الياسمين، إذ كان طعم شفتي بعد قبلتي لها... ياسميناً.
اشتريت لها بمصروفي القليل مشطاً و فرشاة للشعر، لتنثر فوق كتفي خصلات شعرها الأشقر المجعد.
فتحت أمامها صندوق أسراري الطفولية، و جعلتها ترى مايحتويه من صور لاعبي كرة قدم، مغنين، ممثلات: سعاد حسني، رومي شنايدر، و مارلين مونرو. و بعضاً من كرات الدحل الزجاجية التي ربحتها في احدى مسابقات الشارع، و ........
و لكن أذكر أنها انتبهت أكثر الى قطعة ساتان زرقاء مطوية بعناية، و مليئة بعطر .....أمي.
و عندما سألتني عنها، قلت لها وبكل صراحة: هي ماتبقى لي من رائحة أمي التي أعرف، أو أذكر. قالت: و هل ماتت؟ . قلت: لا ...بل أنا من مات. قالت لي: كيف هذا؟ و ضحكت ضحكة شفافة، مليئة بالوجل و الدهشة. قلت لها بعد أن حملت عنها صندوق طفولتي: هذا هو كنزي، هذا هو ماتبقى لي لأحمله معي في موتي... اذ أتكلم معك الآن في موتي، و كل ما قلته لك ماهو الا ......لو كنت حياً.


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى