ابتسام إبراهيم تريسي - جذور ميتة ...

ستة ألوان لوجه مدينة منسية

1 ـــ رمادي ...
استيقظت مذعورة ، كعادتي كل صباح ، عندما يخنق السعال طفلي بأصابعه الشرسة ، حملته بين ذراعيّ هززته قليلاً ، بللت فمه بقطرات من الماء محاولة مساعدته على طرد البلغم المتشبث بخلايا حنجرته ، امتدت الزرقة حول عينيه الجميلتين وفمه الصغير ، يرافقها صوت المؤذن في الجامع الكبير الملاصق لبيتنا : ــ (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) أخوكم المرحوم ياسين الحداد ، انتقل إلى رحمة الله تعالى . الصلاة على الجنازة الساعة السابعة .

تشنجت يد طفلي الممتدة إلى أنفه في محاولة يائسة لدفع الهواء إليه . يتابع المؤذن :

ــ (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )) ... الفاتحة .

ارتديت ملابسي بسرعة ، وخرجت قاصدة طبيبة الحي ..



2 ـــ أبيض ...
كان الصباح الربيعي يبسم في عيون الأطفال المتجهين إلى مدارسهم ، بقلوب تتقافز فرحاً وخطوات ترقص لمستقبل قادم من بعيد ، الشرائط الحمر والبيض في شعور الفتيات تضحك لزهرات المشمش الصغيرة في أوّل تفتحها .

الصبيان يتراكضون في مرح مشاكس ، يسبقون الزمن المقيت ، وأنا أحث الخطى حاملة طفلي باتجاه الساحة التي تبدو مزدحمة على غير العادة في الصباح الباكر .

عند بيت محمود السعيد كانت سلال الورد تقف في الطابور ، وابنه الشاب حسن يغسل السيارة ويلمعها استعداداً لزفة العروس هذا المساء ، أطلت أم حسن من النافذة ، نادت ابنها :

ــ أريدك أن تذهب إلى السوق ، ما زال لدي الكثير من الأعمال . والتفتت إلى المستخدمة التي كانت تنظف النوافذ ، أعطتها ملحوظة صغيرة بصوت عال ورفيع .. ودلفت إلى البيت .



3 ـــ أخضر ...
عندما وصلت إلى الساحة المتفرعة إلى أربع جهات ، كانت الزمامير تعلو صاخبة والأعلام الخضراء والحمراء تزين السيارات ، وأعواد الورد والغار في أيدي الصغار المحتشدين لاستقبال زائر بيت الله الحرام ، كان الحاج محمد بلحيته البيضاء ، وقامته المهيبة يتوسط مستقبليه ، بينما فرقة السيف تقوم باستعراض راقص على أنغام المزاهر والدفوف ، بإيقاع منتظم بسيط ...

صوت قائد الفرقة ينادي : الفاتحة على روح النبي ، وعقبال العودة .

سارت قافلة المستقبلين شرقاً ، تداخلت أصوات الراقصين الفرحة بعودة الحاج مع صوت نائح :

ــ الفاتحة على روح المرحوم .

وعلا صوت قائد الفرقة الذي أصبح بمحاذاة القافلة التي تشيع المرحوم باتجاه الغرب :

ــ الفاتحة على روح النبي .



4 ـــ أصفر ...
عركت الطبيبة هند عينيها من آثار النوم وتمطت ، أخذت الطفل من يدي ، فحصت الصدر بسماعتها و بكسل واضح ، نقلت خطوة متثاقلة باتجاه النافذة ، نظرت إلى البعيد ، لم يكن الطفل ولا أنا ما تنظر إليه :

طفلك بحاجة إلى أوكسجين , الأفضل نقله إلى المشفى سأعطيه مهدئاً ، لا أستطيع عمل شيء له .

قلبي ينتفض بين ضلوعي ، الصفرة تغطي وجه طفلي ، يداه الصغيرتان المرتعشتان استسلمتا ، وارتمتا بعيداً عن صدري ...



5 ـــ أحمر ...
كانت أغرودة طويلة تمدّ عنقها الأفعواني من نافذة إحدى غرف المشفى ، تبعتها أخرى حلزونية منكمشة ، وثالثة كصافرة إنذار ..

صالة الاستقبال متخمة بباقات الورد الملونة التي يرقص الربيع في أجفانها الناعسة ، وتضج البهجة في وجناتها ..

استقبلتني الموظفة بابتسامة عريضة :

ــ إنه أول مولود لمدير المنطقة جاءه بعد سبع سنوات ...

ــ طفلي يعاني من تشنج في القصبات ، الزرقة تحتل وجهه وهو بحاجة لأوكسجين .

ــ لم يأت الطبيب بعد !

ــ الطبيب المقيم ؟

ــ في الخارج ...

أغرودة عالية تشق صدري .. سعال ، ضحكات ، تشنج صدر طفلي بقسوة ، اختلج بين يدي ، اجتاحه عرق بارد ... و ... تصرخ حنجرتي الذبيحة :

ــ أرجوكم أوكسجين .

ــ سيأتي الطبيب في التاسعة .

طفلي يتمتم بصعوبة : ما ...



6 ـــ أسود ...
أنكفئ على درجات المشفى محتضنة طفلي محاولة إرجاعه إلى رحمي .. ! أصوات تدق رأسي بمطرقة نحاسية عتيقة ، أحذية ملمعة .. دفوف .. مزاهر .. طبول .. أغاريد .. صوت المؤذن : الفاتحة على روح .... خطوات أنيقة تطرق البلاط الناعم :

ــ ماذا تفعلين هنا أيتها السيدة ؟

أغص بالكلمات فتخرج تمتمة مبهمة من بين شفتي .

وجه الطبيب الشمعي المصقول يطالعني بابتسامة باردة مشيراً إلى الطفل : ما به ؟

ــ طفلي كان ... بحاجة ... للأوكسجين .

يمد يده المنشاة إلى شعره الأملس :

ــ آ ... على كلٍ هدئي من روعك لا يوجد لدينا في المشفى سوى حاضنة ، شُغلت هذا الصباح بابن مدير المنطقة ..تعلمين ... المشفى ذو إمكانيات متواضعة .

تستمر الدفوف .. دقات القلب تعلو .. تطرق أذني .. أعلام سوداء نساء متشحات بالسواد ... وباقات الورد في كل مكان !!


ابتسام إبراهيم تريسي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى