هدى بوحمام - أمٌّ وطفل توحّديٌّ ومجتمعٌ متخلّف

في مثل هذا الْيَوْمَ من السنة الماضية، تعرفت على عائلة كانت قد انتقلت حديثا إلى منطقتي السكنية، تتكون من أب وأم وخمسة أطفال. أحببت أطفالهم وصارت علاقتي جميلة مع كل واحد منهم، أشعر بحبّهم لي في أحضانهم الغامرة المطولة عند باب البيت حين آتي لزيارتهم، وسردهم الحماسي لقصص يومياتهم الطفولية، واطلاعي على أعمالهم المدرسية.

كانوا كلهم في كفّة وأصغرهم في الكفّة الأخرى. كانت تربطني بالوسيم ذي الثلاث سنوات علاقة خاصّة منذ أول لقاء بيننا. قبل الغوص في تفاصيل العائلة، والحصول على المعرفة بدل التخمين، كنت ومازلت أراه طفلا فريدا من نوعه، مستقّلا يعيش في عالمه الخاص، لا يفكّر كثيرا في العواقب ولا يبالي بما يحيط به ويسعى دائما إلى فعل ما يريد، فهو في الأخر طفل!

لكن شدّتني فيه تصرفاته وحركاته -الغريبة-، لم يسبق لي أن رأيتها بطفل في سنّه من قبل. كان وكأنه يكلّم أحداً لا أراه، يراقب السقف وكأنه يستقبل إشارات من الأعلى. عندما أناديه باسمه، يتجاهلني ولا يستجيب لندائي، يرفع يديه الصغيرتين ويفرِّق أصابعه النحيلة ويحجب بها الرؤية في وجهه عندما أحاول النظر إليه. لاحظت أنه متعلّق بأمه بشكل مُلفت، يعبث في شعرها ويشّم رائحته بعمق، يلعب في وجهها وكأنه يرسم فيه شيئا، يحاول لفت انتباهها كلّما انشغلت عنه، وكأنه يدعوها إلى عالمه الخاص.

في مرّة زرتهم فيها، كان الأولاد يلعبون مع بعضهم البعض في زاوية، والصغير كعادته منفرد في الزاوية المقابلة، يلعب في عالمه الخاص. كنت أنا والأم في حديث شائق وإذا بالصغير يمسك رأسه بيديه الصغيرتين ويبدأ بالصراخ دون توقف. اعتقدت أنه تأذّى بشيء وهو يلعب، فأخذت الطبيبة التي بداخلي تفحص جسمه الضعيف، من الرأس إلى الرجلين، على أمل أن أَجِد ما كان قد تسبب في صراخه المفاجئ. لكن الأم خطفته إلى صدرها بسرعة، كأنها تعلم ما أصابه. حركتها تلك جعلتني أتراجع إلى الوراء، خوفا من أن أكون قد تجاوزت حدودي بفحصي لطفلها دون إذن منها.

بعد أن هدأ الصغير وإخوته الذين ذُعروا من صراخه أيضا، عاد كل منهم إلى جوَّه وعاد الصغير إلى زاويته. بدت على الأم ملامح الإحراج ممّا حدث أمامي واضطرت أن تخبرني بكل شيء. أخبرتني أن طفلها الصغير مصاب باضطراب طيف التوحد، وأنها تعاني معه لأنها لا تعرف كثيرا عن هذا المرض ولا تعرف كيف تتعامل مع الصغير حينما يصاب بنوبات الصراخ وحينما لا يستجيب إلى ندائها وحينما يتصرف وكأنه يكلّم أحدا في عالم خاص وحينما يشّم شعرها ويرسم على وجهها.. استسلمت إلى دموعها وبدأت بالحديث عن معانتها مع ابنها ومع مجتمعها الجاهل. فقد حاول الكثير إقناعها أن ولدها مسكونٌ بجن يجعله يقوم بتلك التصرفات الغريبة، والبعض حاولوا إقناعها أنه مسحورٌ ويجب أن يفكّ هذا السحر عند مشعوذ وفي ضريح لولّي من أولياء الله الصالحين.

أخذ تأثير المجتمع ومضايقات الناس حيّزا كبيرا من حديث الأم عن معاناتها مع مرض ابنها، عبّرت عن أحاسيس الإحراج والخجل حين يقوم صغيرها بتصرفاته الخاصة أمام الناس، وتفسيراتهم المحدودة التي لا تعبّر عن شيء سوى جهلهم، وتعب الأم في محاولتها لإقناعهم أن ابنها مصاب باضطراب نمائي عصبي. لم يستطع عقلهم استيعاب مرضٍ كهذا، ما هذا المرض الذي يجعل طفلا، لم ير من الدنيا شيئا بعد، يرى ويكّلم أحدا لا نراه؟ ويصرخ فجأة ودون سبب كالمجنون؟ للأسف فنحن لسنا فقط نعيش في مجتمع يملؤه المتطفّلون، بل ويشككون في الحقائق ويساهمون في نشر الجهل والرجعية. لم يرحموا الأم المسكينة من تعاليقهم المتبلدة وأعطوا لأنفسهم الحق في مضاعفة معاناتها.

تكلمّت الأم كثيرًا عن معاناتها مع المجتمع لكنها لم تتكلم عن معاناة الصغير، فهو ليس له ذنب في أي شيء من هذا المهرجان الذي يدور حوله. فهو الذي يعاني وليس المجتمع، لا يستطيع التكلّم عن معاناته لكنه وبدون شك يعاني من هذا الاضطراب بالدرجة الأولى. لم تتكلّم الأم عن معاناتها مع مرض ابنها، فهي التي تعاني وليس المجتمع، هي من تعيش الألم والخوف والترقب مع ابنها كل يوم. أما المجتمع فأمراضه لا تعدّ ولا تحصى، لكن الطّامة الكبرى أنه لا يعاني من شيء لأنه لا يحسّ بأمراضه ولا يراها، فتتفاقم وتتكاثر كالحشيش الذي يغزو الحقول ويذهب العقول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى