خير جليس نهى البلك - أصلي..

توقفت أمام كومة الكتب المتراصة على حامل من الخشب الرخيص، وبمقابلها كومة أخرى أمام “فاترينة” محل كبير، قديم وشهير، وعلى أرض الرصيف حولهما كومات أخرى، مرتبة، وبعضها مغلف ببلاستيك رخيص أيضا.

الكتب منسقة بشكل غير عشوائي، ليس بعناية فائقة، لكن الترتيب ينم عن درجة ما -لا تزال بسيطة- من المعرفة بالأسماء التي تحملها الأغلفة، ومن إدراك موضوعات المؤلفات وعلاقاتها ببعضها البعض.. يبدو من رتبها كأنه صاحب خبرة طويلة ببيع الكتب، وليس صاحب ثقافة أو علم بما تضمه بين صفحاتها.. يعرف كيف يرتب “الأغلفة” ولا يعرف كيف يثمن ما تحويه.

كنت خارجة لتوي من مكتبة شهيرة بميدان طلعت حرب، حملت منها ما استطعت وتركت ما عز على ميزانيتي وعلى قدرة ذراعي على الحمل، لكن عشق الورق والكتب إدمان، يعرفه أصحابه ويسعون خلفه بشغف وانتشاء حيثما كان، في مكتبة فاخرة، أو على الرصيف.

قلبت في الكتب ووجدت بالفعل الكثير مما لم أجده في المكتبة الشهيرة، كتب فكرية وروايات عالمية مترجمة، ووجدت بعض الكتب حديثة الإصدار، التي تركتها لثمنها الذي لم تستوعبه حافظتي وكان يتوق لها عقلي، وجدتها هنا بربع ثمنها هناك.

التفت حولي أبحث عن البائع، لأجده أمامي فجأة، كأنه خرج من تحت بلاط الرصيف لتوه، زاد من إضفاء هذا الشعور على ظهوره أن طلته بدت أشبه ما تكون بكتبه، ملامح محفورة، حادة وكبيرة، لكنها طيبة وسمحة، لحيته طويلة للغاية بلون رمادي، وعلى رأسه غطاء يفكر بأن يبلى وينهي صلاحيته.. ولا أعرف إن كانت الظلمة، حيث تعدت الساعة التاسعة مساء، هي السبب في أن أراه بتلك الغلالة المتربة، أم أن طول وقفته -وربما مشوار عمره- قد أهال على جسده وملابسه ووجهه هذا التراب ولونه بدرجات الرمادي.. مبتسما ابتسامة مرحبة استقبلني وحياني وتوجه إليّ بكامل ملامحه وتعبيراته.. تاجر لكنه يتواصل بشكل إنساني أيضا، كأنه فكرة قديمة سقطت من بين صفحات كتاب مهمل زهدته أيدي القارئين.. سألته عن بعض الكتب، ورشح لي من نفسه بعضا آخر.. يحدثني عن مؤلفه “العالمي” أو عن انتشاره الكبير، أو عن نيله لجائزة مهمة -لا يتذكر اسمها- يمد يده إلى إحدى الكومات ويخرج لي كتابا، أقلبه بين يدي اللتين غرقتا في التراب وتلونتا بالرمادي.

سألته عن الكتب منخفضة الأسعار، توسمت في مظهره، الذي بدا صادقا وغير زائف ولا مستعار ولا بدت لحيته وعلامة صلاته كعدة نصب، بل حمل وجهه صدقا كاملا، توسمت فيه أن يفهم ما أعنيه وأن يستجيب إذا ما لفت نظره إلى أن نسخه الرخيصة ليست دلالة “قناعة” وأمانة منه وإنما هي جسم جريمة تزوير وتعد على حقوق آخرين.

البعض قد يرى أن نسخ الكتب في طبعات منخفضة التكلفة والسعر هو حق لعموم القراء، وربما يزيد من الجدل حول هذا الأمر أن المؤلفين أنفسهم يشكون من معاملة أصحاب دور النشر، والبعض يتحدث عن حقوقهم المغبونة وعن تدليس بعض الناشرين؛ لكن على كل حال أجد أن القضيتين مختلفتان وأن على الأدباء والكتاب والمؤلفين أن يبحثوا عن ضمانات قانونية ويسعون لنيل ما يرضيهم، بالإنصاف، وما يحفظ جهدهم وما يليق به من تقدير، وسيكون هذا من صالح الجميع والناشر قبل الكاتب.. أما قبولنا ورضاؤنا بفتح الباب للالتفاف حول كل مظلمة لنيل الحق بطرق التزوير والتزييف والغش، فلن يحفظ لأحد حقه بل سيهدر حقوق الجميع، ويحوله من فعل شائن إلى فعل اعتيادي يقوم به الناس وهم يبتسمون مطمئنين لنظافة يدهم ونزاهة ضمائرهم وسلامة صدورهم.

كنت أتأمله بشعور غامض بالخوف مما تحمله الشوارع في بطونها.. هل كان الأمر سيختلف لو كنا بالنهار؟ هل أغواه الليل بعرض بضائعه التي لن تكتشفها الأعين؟ تذكرت البائع الشهير جدا في الميدان الأشهر، الذي رأيت عنده نسخا شبيهة، باهتة مطفأة البهاء، رخيصة، والشمس تسطع عليها وتؤلم عيني.. طال حوارنا بعض الشيء، وتعبيراته لم تتبدل، مبتسم مطمئن نشيط كما يليق بتاجر مجد.

ما رأيته على وجهه من تعبير ينم عن ثقة شديدة مع عدم فهم مطلق لما أعنيه، هو ما زادني خوفا.. لم يفهم الرجل فيما أناقشه، لم يفهم أم فهم ولم يثمن القضية؟ كان ما يحرص عليه هو أن ينبهني إلى فرق الأسعار وأنني سأكون رابحة إذا اشتريت، وكلما قلت له إنني أكره شراء النسخ المقلدة وأسأله إذا كان عنده نسخة أصلية يشير إلى الكتاب -الباهت إياه- قائلا بيقين وباندهاش من طلبي: إنه “أصلي”!

كررها وهو يوضح لي: إنها نسخ أصلية، لكنها ليست من دار النشر، إنما من ناسخيها أنفسهم.. هو يظن -يقينا- أنها أصلية طالما جلبها ممن طبعها.. ولما شرحت له أن ناسخها تعدى على حقوق غيره، قال لي باستهانة وهو يشير بيده -أن بسيطة-: دي حقوق فكرية!

تركته، لما لم أجد فائدة ولا جدوى من الحوار، وهو يعدني بأنني سأجد في الزيارة التالية المزيد من الكتب المتنوعة، زهيدة الثمن.

في طريق العودة كانت الشوارع تعج بالسائرين، وعلى الجانبين محلات عطور مقلدة، لا تكون أبدا كرائحة العطر الأصلي، وبضائع صينية رديئة، فوانيس لا تضيء ومراوح لا تدور ويبقى معها الهواء راكدا مخنوقا، ولعب بلاستيكية -يحذر المتخصصون منها الآباء والأمهات لأنها تجلب الأمراض للصغار- على شكل عربات ومسدسات وموازين بدت ردائتها متعمدة وبدا ميلها مقصودا.. فاترينات تعلن أن هذا التليفون المحمول “هاي كوبي” – نسخة مقلدة فاخرة – وشماعات تعلق ملابس و”باديهات” تقليد كارينا، وأخبار، كتبت في صفحات جرائد “عريقة”، ملقاة على الأرصفة وبين أيدي الناس على المقاهي وفي المواصلات العامة المزدحمة، عن مظالم في تقلد المناصب ونيل الوظائف.. وعن طلاب وأهالي يتذمرون من مراقبي لجان الامتحانات لشدتهم وحزمهم ومنعهم من الغش، ويمتدحون – علنا – اللجان “السهلة”.. ويمتنون للمراقبين “الطيبين”!


* عن موقع زائد18
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى