بنسالم حميش - "المهارات الجنسية" للرحالة ابن بطوطة

عن حياة ابن بطوطة قبل رحيله في 2 رجب 725هـ (13 يونيو 1325م)، وهو شابّ في الواحدة والعشرين، لا نعرف الكثير، ما خلا أنه ولد في طنجة شمال–غرب المغرب الأقصى (في رجب 703 هـ/ فبراير 1304م) وأن نسبه بربري لواتي، ويذهب المقريزي إلى أن قبيلة لواتة عربية وتوجد أيضا في أرض الكنانة...

أما العناصر البيوغرافية الدالة التي نستقيها من نص رحلته فهي أنه حج أربع مرات (ما بين 1326 و1332، إضافة إلى حجة عودته الأخيرة في 1348)، وأنه حصل في دمشق تخصيصا خلال ثلاثة أسابيع على ثلاث عشرة إجازة، (ولعلها عبارة عن شهادات حضور لدروس شيوخ وأساتذة، كان من بينهم امرأتان)؛ كما أنه لبس الخرقة الصوفية ثلاث مرات، أولاها في القدس على يد أحد مريدي الشيخ العراقي أحمد الرفاعي.

وكل هذا الزاد لا يعدو أن يكون زاد العارف المتوسط المستوى، ولكن مع تميز صاحبه بذاكرة قوية وحس استكشافي متوهج. وقد توفي ابن بطوطة 770ه/ 1368م، ولا يعرف بعد بالتدقيق مكان قبره وشاهدته، هل بطنجة قرب سوق أحرضان، أم بتامسنة حيث قضى آخر أيامه قاضيا بتعيين من أبي عنان ووحيدا من دون أهل ولا وُلد.

*

طوال كل أسفار ابن بطوطة لمدة ثلاثة عقود في بلدان من قارات ثلاث، صحيح أنه كان يتحرك في مجالات معلّمة بالمؤسسة السياسية والمنابت الصوفية والأشياء الغريبة أو الخارقة للعادة، لكن قد يكون من العسف في حق النص أن نسكت عن مهارات رحالتنا الجنسية ومراميه الشهوانية الحادة. فعلى طول مسافات تجواله بدءا من صفاقس، كان الرجل يعقد أنكحة (بعضها من صنف زواج المتعة) ويطلّق على سنة الله ورسوله.

وهو في باب المرأة شديد الاهتمام، مستنفر الحواس، حتى أنه لا يفوته أن يسجل عن نساء مكة أنهن "فائقات الحسن بارعات الجمال"، ويشيد برائحة طيبهن أثناء طوافهن بالبيت الحرام. غير أن الفضاء لم يصبح مجنسا صراحة عنده إلا مع ولوجه في الرحاب التركية ـ المغولية والأسيوية الجنوبية حيث المرأة تحظى بحرية فعلية ملحوظة. والنصوص المؤكدة لذلك ما أكثرها! منها على سبيل المثال فقط:

- أثناء الإقامة بين ظهران محمد أوزبك خان (سلطان القرن الذهبي في روسيا الجنوبية)، يخصص ابن بطوطة الكلام مستفيضا عن زوجات هذا السلطان، الملكات أو الخواتين، ويسجل من تقصياته عن الخاتون الكبرى قائلا: "وحدثني من أعتمده من العارفين بأخبار هذه الملكة أن السلطان يحبها للخاصية التي فيها، وهي أنه يجدها كل ليلة بكرا. وذكر لي غيره أنها من سلالة المرأة التي يُذكر أن المُلك زال عن سليمان، عليه السلام، بسببها...".

- في مدينة مره الهندية (نحو دولة آباد) لم يفت رحالتنا الالتفات إلى جنسها اللطيف ملاحظا: "لنسائهم الجمال الفائق، وهن مشهورات بطيب الخلوة ووفور الحظ من اللذة".

أما في مدينة دولة آباد (الدويقير سابقا وديوجيري اليوم إلى الشمال الغربي من حيدر آباد)، فقد قال منوها في حق مهارات نسائها الجنسية: "وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرتهة الذين خص الله نساءهم بالحسن، وخصوصا في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة بحركات الجماع ما ليس لغيرهن".

وحين انتدب محمد بن تغلق صاحبنا في بعثة رسولا له إلى ملك الصين. بعد أن انقطع عن الدنيا، ربما بسبب موت ابنة له ـ كان مطلبه على ساحل المالبار في قالقوط (آخر محطة كان سيسافر منها إلى الصين لولا تلف سفن البعثة): "أريد مصرية [غرفة في السفينة] لا يشاركني فيها أحد لأجل الجواري، ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن".

- أما في جزر مالديف، فقد كانت صعوبة ابن بطوطة، قاضي هذه الديار، كما يعبر عنها: "ولقد جهدت لما وليت القضاء أن أقطع تلك العادة [عري النساء] وآمرهن باللباس فلا أستطيع ذلك، فكنت لا تدخل إليَّ منهن امرأة في خصومة إلا مستترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن لي عليه قدرة".

لكن، رغم هذا الأمر الهين، من الظاهر أنه عرف في تلك الجزائر أمتع وأغنى علاقاته الجنسية، فكأنا به، من باب التجربة ومصادقة الأهالي، يشهد للسمك (قلب الماس) وجوز النارجيل (التنبول أو الكرنبة) بفضائلهما الأفروديسية، ـ أي بما لهما، حسب تعبيره، من "قوة عجيبة في الباءة"، فيكاشفنا معترفا في فقرات يقفز عليها - يا عجبا!- هملتون ﭼيب في ترجمته الأنجليزية لنصوص مختارة: "ولقد تزوجت بمالديف نسوة [...] فكانت [واحدة منهن] من خيار النساء. وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجتُ عليها تطيبني وتبخر أثوابي، وهي ضاحكة لا يظهر عليها تغير".

وفي مقام آخر يقول بنبرة لا تخلو من بهجة وفخر: "ولقد كان لي بها [جزر مالديف] أربع نسوة وجوارٍ سواهن، فكنت أطوف على جميعهن كل يوم وأبيت عند من تكون ليلتها، وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك". وبما أنه كان لا يتكلم المالديفية، باعترافه، فلا ندري هل كان كالروائي الفرنسي غوستاف فلوبير في رحلته المشرقية، يحتاج إلى ترجمان في مخالطاته النسائية.

في كل ذلك الفضاء المجنس، لم يكن بطلنا الفحل عبارة عن آلة شبقية خشنة، بل كان يحب ويعشق فلا يتحرج في القول عن هذه الزوجة أو تلك الجارية إنها "أحب" نسائه، أو أنه أحبها "حبا شديدا"؛ وإذا ما فقد واحدة كان ذلك في الغالب مدعاة إلى "تغير" خاطره؛ كما أن الرجل كان يتخير من النسوة أفضلهن عشرة وأمهرهن جماعا، فهو يبوح لنا مثلا أيام إقامته في مالديف: "قال لك الوزير إن أعجبتك هذه هي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية. وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له [للخديم] إنما أريد المرهتية". وفي مشهد مؤثر يحدثنا ابن بطوطة أنه ـ والسفينة التي تقله إلى بلاد المعبر (كروماندل) على وشك الغرق ـ قال لصاحبين له: "انزلا [في المعدية] أنتما والجارية التي أحبها"...

*

إن ابن بطوطة، رحالة الشهوة والتقوى، وهذا "الجغرافي رغما عنه" حسب تعبير هاملتون ﭼيب، وهذا المؤرخ الاثنولوجي رغما عنه، وحتى صاحب مؤلف شيق كان يمكن ألا يوجد، لهو المثل الأبلغ للنزعة الإغرابية في الثقافة العربية-الإسلامية، وهي نزعة معتدلة رزينة، تنبني على إدراك العجيب والممتع، وكذلك الفرق والاختلاف المذهلين، ولكن من دون أن تعتريها أي تلذذية مرضية ولا أي مزايدة "تغريبية" مفرطة.

ثمة -حقا- عند رحالتنا محطات لم ترق إلى مرئية وبالتالي مقروئية جيدة، كالقسطنطينية والصين، حيث صار في الأولى يغالب ارتباك بوصلته برؤية وادي سلا في البوسفور ورباط الفتح في الغَلَطَة بالعدوة الغربية من النهر، ولا يصف كنيسة أيا صوفيا إلا من الخارج لكونه أبى على نفسه السجود للصليب، الذي "يزعمون، حسب تعبيرهم، أنه بقية من الخشبة التي صُلب عليها شبيه عيسى عليه السلام". أما في ما تيسر له زيارته من الصين (الزيتون وصين كلان والخنسا وخان بالق)، فكان ضائق الذرع، متوتر الخاطر، قلقا على قيمه ومعاييره "بسبب غلبة الكفر عليها".

ثمة أيضا في الرحلة عناصر كذب (أبيض) وتخييل وحتى غفول مبثوثة في بعض ثنايا النص، إلا أن كل هذا لا يقلل في شيء من كون رحالتنا ضرب الشوط القياسي في تحويل آية قرآنية إلى أمر ومهمة: ﴿والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا﴾ (نوح/19).

الأرض في عصر ابن بطوطة: هل من حاجة إلى التذكير أن القرن الثامن هـ (14م) كان عصر انتكاسات كبرى قائمة في مسلسل فقدان الأندلس بفعل حرب "إعادة الغزو" المسيحية من جهة، وفي تبخر حلم توحيد المغرب الكبير وحكمه من مركز واحد من جهة أخرى. أما المشرق، الذي لم يمض وقت مديد على خروجه من الكابوس المغولي الأول. المتوج بسقوط العاصمة العباسية بغداد في 1258م. كما من آخر الحروب الصليبية في 1291م، فقد كان مسرح صراع نفوذ وهيمنة طاحن بين الأتراك والمغول. هذا إضافة إلى نيل الجناحين نصيبهما من الطاعون الأعظم لمنتصف القرن ومن النكوص الاقتصادي والحضري والثقافي.

عصر عصيب حقا! "فاحتاج لهذا العهد، كما يسجل ابن خلدون، من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها..."، فكان القائم بهذه المهمة الكبرى هو هذا المؤرخ-المفكر نفسه، الذي خولت له قوته النظرية أن يقول حالة عالمه المتصدعة ويصف مصير الإنسان في لجج تغيرات الأرض وتقلباتها. أما ابن بطوطة فقد قاوم على طريقته ظاهرة التصدعات السياسية والإقليمية الآخذة في العتو والبروز، أي بالسلوك السياحي في بساط الأرض وسبلها.

وهذا السلوك، كما يلزم أن نؤكد، لم يكن لمجرد الوقوف على العجائب والغرائب أو البحث عن الغنى والمتع، وإنما كان أيضا –وهنا يكمن المعنى الثقافي للرحلة– في معاينة أرض الإسلام وأهلها داخل وحدة عقائدية روحية، يسهر على بقائها وإحياء وشائجها أرباب الزوايا والرُّبط والخوانق من متصوفة وأولياء ومريدين، وللحديث صلة.



* عن
حميش يكتب عن "المهارات الجنسية" للرحالة ابن بطوطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى