زكريا تامر - نهـر غــاضب

تدفق ماء النهرتحت ضياء شمس الصيف قويّاً صاخباً، وبدا كمن يوشك أن يهدم من دون شفقة البيوت القليلة التي شيّدها الناس على ضفتيه، فتعجّب الناس لأنّ نهرهم تبدّل فجأة ومن غير سبب، وقال بعضهم متسـائلاً بحيرةٍ : ما الذي جرى للنهر؟ كان صديقنا باستمرار، ولكنّه بات الآن شبيهاً بعدوّ قاسّ يرغب في مشاهدة الخرائب والأنقاض.
فتكلّم النهر، وقال للناس بنزق : أنا غاضب عليكم.
تصايح الناس مدهوشين، فلم يسبق لهم أن سمعوا نهراً يتكلّم.
قال النهر : ما تفعلونه أغضبني غضباً أغراني بالتكلّم.
فسأل رجل من الرجال النهر : ولماذا الغضب؟ ما الذي فعلناه حتى غضبت علينا؟
فأجاب النهر: غضبت لأنكم تحبّون النوم. ألم تسأموا النوم؟
قال الرجل باستغراب : يا له من سبب غريب حقّاً! أتغضب لأننا ننام؟ ألا يحقّ لنا أن ننام ونحن الذين نشقى ونتعب طوال النهار من أجل تأمين الطعام لأطفالنا؟
وسأل رجل آخر النهر: هل تريد أن يجوع أطفالنا؟
فاضطرب النهر، وأجاب باستنكار : لا لا. لا أريد أن يجوع أيّ طفل ولا أيّ إنسان، ولكن أعداءكم كثيرون ويحيطون بكم ويوشكون أن يحتلّوا بيوتكم، وينبغي لكم ألا تستسلموا للنوم لحظةً قبل التخلّص منهم.
فقال رجل ثالث للنهر بصوت وقور: ثق بأننا لا نتجاهل الأخطار التي تهددنا، ولكننا ننام كي تزداد أجسامنا قوّةً وتصبح قادرةً على مواجهة الأعداء والتغلّب عليهم وطردهم، وإذا كنّا مخطئين، فقل لنا رأيك بصراحة.
فكّر النهر من دون أن يتفوه بكلمة، وتلاشى غضبه رويداً رويداً، وعادت مياهه تنساب بهدوء ورفق، فقصد الناس بيوتهم وهم يتنهدون بارتياح، ولكنّ النهر ظلّ خاضعاً لمزيج من الحيرة والقلق، وعندما أبصر أطفالاً عائدين من مدرستهم يتواثبون مرحين، اسـتولى عليه فضول مفاجىء، وقال لهم متسائلاً : متى يحلو لكم النوم يا أطفال؟
فأجاب واحد من الأطفال من دون تردد قائلاً : نحن ننام حين ننهي ما علينا من واجبات مدرسية.
فأحسّ النهر أنه قد خُدع، وقال للأطفال متسائلاً : إذن أنتم لا تنامون إلاّ بعد أن تنهوا ما عليكم من أعمال؟
فهزّ الأطفال رؤوسهم موافقين، فازداد النهر حبّاً للأطفال، وانتظر بلهفة مقدم اليوم الذي يصبحون فيه رجالاً مختلفين عن أجدادهم وآبائهم، يعرفون الأوقات الصالحة للنوم والأوقات الصالحة للاستيقاظ، فلا ينامون حين يكون هناك من يطمح إلى امتلاك أرضهم وبيوتهم التي لا يحقّ له امتلاكها.
زكريا تامر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى