محمد الصّالح قارف - الأب القِط

« ( كرونوس) وعدٌ أنا قاطعه لك، أمّاه(غيا) / سأنبري لهذا العمل/ هذا الأب غير جدير بحقيقته / لا شيء يدعوني لاحترامه / لقد كان سباقا لابتداع خطايا شنيعة»
هزيودوس–الثيوغونيا.



« من البيّن الظّاهر أن للطّفل نفسًا عالمة بالقوة، ولها الحواس آلات الإدراك»
أبو نصر الفارابي – كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين


داخل الغرفة القبليّة المهجورة، وفوق هيدورة من الصّوف الأبيض المنفوش، غاصت جراء حُـمـرٌ رخوية وضعتها القطّة الأمّ منذ يومين.

خرجت القطّة تبحث عن شيء يسدّ الرّمق بعد أن استنزفتها الرّضاعة.

لدى عودتها إلى جرائها، في تلك الغرفة الرّطبة ذات الأرض الأسمنتية الحرشاء، لحقها الصبي مخاتلاً أمّه التي مانعت اقترابه من القطّة؛ فوالدته تعلم، بغريزة الأمومة، أن القطّة قد تهجم على الصّبي إذا بالغ في الاقتراب من الجراء الوليدة.

لكن الألفة بين الصّبي والقطّة الأمّ، بل بين صغار البشر والحيوان عامّة، كانت مما قد نسيه البالغون من أمثال أمّه وأبيه بعد أن هجروا طفولتهم.

كانت أذناه تخشعان لصوت تلك الخرخرة العميقة، وكذلك جوارحه لرؤية الجراء العمياء وهي تصارع بعضها من أجل الفوز بأحد الأثداء المبثوثة في صدر القطّة الأم.

جلس بقربها، أسفل منجل حديدي مثبّت على الحائط، وراح يتلو صلاة التأمّل الصّامتة، على ضوء الشّمس المنسلّ من نافذة صغيرة، تحاصرها فروع الدّالية العجوز ذات العراجين الحمر الضّامرة، تغزو أنفه رائحة الأسمنت النّفاذة مختلطة بعبق الخردوات العتيقة، المركونة بلا سبب داخل الغرفة القبليّة.

كانت قطّة بديعة، يكسوها فرو اقتسمه لونان، الأبيض عند صدرها والأصفر عند ظهرها، ليشتبكا عند فَـمِها الصّغير. إلا أن أكثر ما لفت نظر الصّبي كان عيناها، عينان خضراوان لامعتان بلون يشبه الحياة، لون يشبه اخضرار ورق الدالية نهاية صيف مضجر، وأحيانًا كان يشبه لون عينيّ والده؛ كانت عينا القطّة أكثر تفصيل يحفظه الطّفل في حيوانه الأليف هذا، وطالما كانتا سببًا لسرحانه الطّويل.

سمع الصّبي قهقهات والده من خلف الباب فنهض فرحًا لاستقباله. كان الوقت الظّهيرة تقريبًا، دخل الأب حاملاً كيس الخضار وزالت من وجهه، دون سبب واضح، تلك الضّحكات البرّانية. استقبله ابنه بزهو طفوليّ، لكن قبل أن ترتسم ابتسامة على وجهه العبوس، تفطّن لقدمي الولد الحافيتين فنهره قبل أن يطاوله عناق ابنه. لنقل أنه كان أبـًا عاديًـا، سلفًا، والدًا بالأساس، مكتفيًا بما أَمْلتهُ ضرورة البيولوجيا، وكان أكثر ما يميزه هو لون عينيه الأخضر اللامع.

جلس الثّلاثة إلى مائدة طعام لا تعلو عن الأرض سوى بأربع قوائم قصيرة، أنهى الأب وجبته واتجه إلى التلفاز ذي القناة الحكومية الوحيدة. نهض الصّبي مخاتلاً أمّه هو الآخر، وقد حمل معه بعض البيض إلى قطّته التي نهضت مخلّفة جراءها بعد أن شدّتها الرائحة، نثر على الأرض شيئا من ذلك البيض وجعلت هي تأكل بنهم. تأمّل منظر الجراء الكفيفة وقد بدت تائهة تتحسّس أثر أمها، أوحى له مشهدها هذا بسؤال. فاجأته أمه في الغرفة القبلية، فباشرها:

– أمي، أين هو أبوها؟ وأشار للجراء.

كان السّؤال مفاجئًا، باعثًا على الدّهشة بالنسبة لها. أسئلة الأطفال مدهشة لأنها ببساطة حقيقية، غير مزيّفة؛ لعلنا كنّا نحمل بداخلنا أسئلة مثل هذه عندما كـنّا صغارًا، لنأمل فقط أن يكون نفر منا لا زال يحتفظ ببعضها. ابتسمت الأمّ لفطنة الصّبي، فأجابته متصنعة براءة الأطفال:

– إنه غائب لكي يحضر لها الطعام.

– ولماذا لم أره أبدًا؟

– لأنه يعود بالليل وحينها تكون أنت نائمًا.

– أرجوك يا أمي أريد أن أراه.

– حسنًا يا ولدي، سننتظره غدًا.

قالت الأم ذلك مُرَاوغةً ومُرَاهنةً على ذاكرة الأطفال التي تَعِدُ بالنسيان غالبًا، أما الصّبي فقد عاد إلى قطّته التي احتضنت جراءها وجعلت تلعقها.

في زاويته تلك، عاد إلى خشوعه المعتاد، أسفل المنجل المسنن، الذي اتخذ شكل علامة استفهام قديمة، تبدو أقرب إلى كونها مصلوبة أكثر منها مثبتة.

على فراشه، همّ الصبي بالنّوم لكنه تذكّر وعدَ أمه، رفع الغطاء عن رأسه، فألفى أباه واقفا يرتدي قندورته العربية الواسعة. تلاقت نظرات الاثنين، وسرعان ما انزلقت نظرات الابن إلى جيب القندورة. بان من خلال الجيب عضو أبيه، عضلة ذبيحة تغلّـفها جلدة بلون ترابيّ، محنيّة ببلاهة فوق خصيتين تطلان من كومة شعر شعواءَ شديدة السّواد. انقبض قلب الصّبي لهذا المنظر، ورأى فيه فرقًا شاسعًا بين ما يتوسط فخذيه هو وما يتوسط فخذي والده. عاد يتكوّر في فراشه ونسي، في هذه الليلة، حكاية أبِّ الجراء الوليدة.

حلّت ليلة الغد مسرعة، لكن ذاكرة الصّبي أبتْ هذه المرّة نسيان وعد أمه. حاولت اقناعه بطرق شتى دون جدوى تذكر. اضطرت لنهره غير أن دموعًا شرعت في الانحباس داخل مقلتيه الخضراوين؛ تأخّر الوقت وسئمت هي عناد الصّبي. فكرت بإغرائه فجلبت له شيئًا من الحلوى، وأقنعته بأن ينتظر القطّ الأبَ ليلة غدٍ. أذعن الطّفل أخيرًا واستسلم للنّوم. دخل بعد مدة الأب متأخرًا كعادته، خلع ثيابه وذهب للنوم مباشرة.

بعد أن ظنّ الصّبي أنه قد نام طويلاً، أفاق على جلبة في الغرفة التي ينام فيها الثلاثة. رفع الغطاء عن وجهه، فوجد أباه يمسك أمه من مؤخر عنقها ويخضّها بعنف، سقط خمارها على يد الأب الغاضبة، فبان شعرها الخروبي وهي تصرخ طالبة منه الكفّ، عاد الطّفل إلى مخبئه ودموع حارّة شرعت تبلّل وسادته الصوفية.

في الصّباح، لم يغادر الصّبي فراشه؛ جاءت الأم تتفقده، وعلمت، بغريزة الأم دائما، أن هنالك ما يحزن ولدها، فسألته ببراءة:

ما بك يا صغيري؟

أطرق الولد زمنًا، فزاد قلق الأمّ، لكنه قطعه أو بالأحرى ضاعفه:

رأيت أبي البارحة يقبض عليك من عنقك. ثم أشار بيده الصّغيرة إلى الموضع.

لم تجد الأمّ ما تواجه به حديث ولدها، وقبل أن تشرع في تبرير ما يحدث بين البالغين لطفل لم يغادر فردوسه بعد، أضاف:

قبل شهور، رأيت قطتنا تتعرّض للعضّ في نفس الموضع من قِبل قطّ ضخم، فهل تتعرض كل الأمهات للأذى من أعناقهن؟

***

" width=نادى رشيد من خلف الباب على صديقه بإلحاح غريب. لم تكن الأمّ لتجد وسيلة أفضل للتّخلص من سؤال ابنها الأشدّ صدقًا وإيلامًا. نهضت مسرعة تستقبل رشيد وتجزل لهما العطاء من حلوى ودراهم. خرج الاثنان، وسرعان ما قاد رشيد صديقه إلى زاوية من الشّارع لكي يفضي إليه بأكثر الأسرار خطورة.

يجهل الصّبي مصدر معلومات صديقه رشيد، لكن كلامه جاء مقنعًا وصادمًا للغاية، بالإضافة إلى أنّه شفاه من أسئلة قديمة.

تحدّث رشيد، الذي بدأ بالتّرجل من فردوس الطفولة، عن ما يحدث بين البالغين، بين الأم والأب بالذات، بتفصيل أثار دهشة واشمئزاز صديقنا. «أبي يغتصب أمي»، هكذا تجلّى حديث رشيد في ذهن الصّبي، أو هكذا كان استخلاصه من ثرثرة صديقه التي لم تلح بنهاية قريبة. اصطنع صديقنا عذرًا وغادر محدثه، ليس إلى بيته بطبيعة الحال، بل راح يتجوّل في الشّارع وحيدًا، يصارع خروجه القسري والمفاجئ مما عدّه جنته. لم يكن الصّبي يدرك بعد، مثلنا، أن المعرفة هي في الحقيقة خطيئة، عقابها خروج أو طرد فوري من الفردوس!

في النّهاية، كان لا بدّ أن يعود الطّفل إلى البيت، شدّه حنين إلى قطته وجرائها اليتيمة، ظنّ أن شيئًا من العزاء قد يوجد لدى الحيوان. تسلّل إلى الغرفة القبليّة وقبع بها جريح القلب. نادى عليه والداه من أجل الغداء، كان قلبه ينقبض لكلّ نداء من والده الذي صار في عينيه بصورة شيطان. لعله قبل اليوم كان يجهل ما يكونه الشّيطان بلغة البالغين، لكنه اليوم يدرك جيّدًا ما معنى أن يكره انسان إنسانًا، بل ما معنى أن يبغض ابنٌ والده. تحجّج بعدم جوعه، وظلّ اليوم كلّه بجوار قطّته. لم تجرؤ أمّه أن تقترب منه خوفًا من حِراب أسئلته، غير مدركة بأن أسئلة ابنها قد تتخلّى منذ اليوم عن الكثير من صدقها، وتاليًا عن وقعها الأليم في نفوس البالغين.

في الليل اختبأ الطّفل في فراشه، شعرت الأم بأن هناك ما يقضّ مضجع ابنها فاتّجهت إليه، كشفت عنه الغطاء مغتنمة فرصة غياب الأب. تظاهر الولد بالنّوم بكثير من التّكلّف، حاولت الأمّ أن تحمل ابنها على البوح لكن دون جدوى، ومع كل تملّص طفوليّ كان اصرار الأم يتضاعف، ثم فجأة، خطرت ببال الطّفل فكرة للخروج من حصار الأم:

أين هو القطّ الأبُ؟ لقد وعدتني بأنني سأراه قريبا.. لا تخفي عني، هل أب الجراء ميّت؟

سألها في حين شرعت دموع في الإفلات من مقلتيه الصّغيرتين، رقّ قلب الأم وراحت دموعها المندفعة تنزل هي الأخرى، ثم بدأت في رحلة نفي وتبرير تدرك جيدًا أنها لن تفضي إلى نتيجة سيقبل بها فضول الطّفل المتقد. وعدت الطفل بأنّ القطّ الأب سيأتي اليوم، مراهنة هذه المرة على طول السّهرة التي ستنتهي بنوم الصّبي لا محالة. في الأثناء دخل الأب، متأخرا كعادته، إلى الغرفة فألفاهما مستيقظين. تكوّر الصّبي داخل فراشه متظاهرًا بالنوم، سأل زوجته عن السّبب فراحت تشرح له بأنهما ينتظران القطّ الأب. تعالت ضحكاته إعجابًا بعناد الصّبي وسِعة خياله، جلس بقربه زامّا قندورته الواسعة، غير عالم بالشعور الذي صار يضمره له ابنه، سليله، في هذه الليلة.

فضّ الوالد الغطاء واقترب ليقبّل خده، زاد تقزز الصّبي وراوده شعور غير مألوف، ودّ لو أن الأب لم يجده مستيقظا، بل ودّ لو يختفي الأب هكذا.. ببساطة، مثل القطّ الأب! فتح الصّبي عينيه بحذر فوجد وجه أبيه قريبا جدًا من وجهه، انتبه الطفل للمرة الأولى لعينيّ والده، لَفَتهُ لونهما الأخضر الذي ذكّـره بلون يعرفه جيّدا، غاص عميقاً في تفاصيلهما فامتلأ وجهه رعبًا. فجأة، تدثّر الصّبي بفراشه وقرّر التّخلي نهائيًا عن سؤاله العنيد: أين هو القط الأبُ؟!

***

تسلّلت سيّاط الضّوء إلى داخل الغرفة القبليّة، كاشفة في طريقها عن تلك الذّرات المتصارعة في الفراغ. تلقف المنجلُ المصلوب ضوءَ الشمس ليؤنس به وحشته وبرده الأبدي، فجأة انقطع الحبل القصير الذي ثُـبّتت به عنق المنجل فوقع أرضًا. كأن القدر قد استجاب أخيرًا لصلاة المنجل. بعد أن تلاشت جلبة السّقوط هذه، نهض صديقنا من العتمة وحمل المنجل، علتْ خرخرة القطة الأمّ وبدت أشبه بعويل جنائزيّ؛ تأمّل أسنان المنجل القاطعة المرتصّة، لا شكّ أنها أتت على الكثير من الحقول الكثيفة في الماضي، تذكّر فجأة شعر الخصيتين الأجعد وتخيّل كيف يمكن أن يأتي عليه هذا المنجل، بل كيف يمكن أن يأتي على عضو أبيه الذي يعتدي به على أمه.

لم يتوقف خياله الجامح عند هذا الحدّ فقط، بل تخيل المنجل ملتفًا حول عنق أبيه، ملامسا بأطرافه الحادّة نفس الموضع الذي تُعنف منه أمّه عادة. تساءل في أعماقه: أيجب أن يكون كل الآباء مثل القطّ الأبِ، مختفين، غائبين، لكي لا نكرههم؟ لكن لحظة، هل نحن الآن داخل حلم صديقنا أم داخل رغباته؟! إنه من العسير أن نتبين الفرق بين رغبات طفل وبين ما يراه في الحلم، ومن عساه يستطيع؟!ألم يقل أحد الأطفال الشيوخ يومًا: «من منا لم يحلم بقتل أبيه؟». كلّ ما نعلمه نحن، أن المنجل الحديدي المعقوف، علامة الاستفهام العتيقة تلك، قد أُرجعت إلى مكانها، وستسقط، بل ستتجدد لا محالة عند قدمي رغبة، أو ربما حلم طفل آخر!

محمد الصّالح قارف

* «الأبُ القطّ»، من مجموعة «سيزيف يتصنّع ابنتسامة»، الحاصلة على «جائزة محمد ديب، 2016».


* نقلا عن:
محمد الصّالح قارف يكتب: الأبُ القِطُّ - نفحة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى