ناصر الجاسم - الكتابات الثلاث في قصة (السدرة) لنورة المري..

قصة " السدرة" للكاتبة نورة المري ثقيلة في الميزان النقدي القصصي فهي قالب إبداعي محكم البناء من القاعدة حتى الرأس، يصعب أن يتهاوى عند التحكيم النقدي، بل ربما يزداد متانة وقوة، إنها قصة ثرية وثراء القصة يتوالد عقب كل قراءة لها، فالقراءة الأولى تمنح القارئ ثراءً أسطورياً محلياً، والقراءة الثانية تمنح القارئ ثراءً دينياً فلسفياً، والقراءة الثالثة تمنح القارئ ثراءً تشكيلياً لونياً، والقراءة الرابعة تمنح القارئ ثراءً حُلمياً، والقصة ما كان يمكن أن تكون ثقيلة لولا المحمولات والمدلولات والمرموزات التي تشرّب بها البناء المُقولب وسرت في أنساغة ، وهو في العنوان والمكان والزمان والشخصية القصصية (البطلة) واللغة .

1/ العنوان: السدرة.


إن العنوان في النص الأدبي طريق للوصول إلى معرفة أسرار النص وتتبع شبكة العلاقات الكائنة فيه، وفتح مغاليقه المفترضة إذا وجدت، وهو الضوء المسلط من أعلى الى أسفل على مساحة كتابية، وقد يصل مدى إشعاعه إلى آخر النص فيسمى العنوان/اللباس، وقد يقصر إشعاعه عند نقطة معينة في النص فيسمى عنواناً كسيحاً، وقد يطول إشعاعه فيتجاوز النص ويمكن تسميته آنذاك بالعنوان الماورائي، وقد يتبعثر إشعاع العنوان فيضيء مناطق من النص ويعتم مناطق أخرى ويحق لنا تسميته عندئذٍ بالعنوان الفوضوي.
وفي حالة العنوان اللباس والعنوان الماورائي يكون العنوان قد أدى وظيفته في النص، أما العنوان الكسيح والعنوان الفوضوي فيكون العنوان قد فشل في أداء وظيفته في النص.
والسؤال: من أي نوع من الأنواع الاربعة السابقة يأتي عنوان قصة الكاتبة نورة المري؟
إنه عنوان ماورائي؛ يشكل لوحده نصاً إبداعياً مستقلاً، إذ يمكننا قراءة العنوان ودراسته بمعزل عن السياق الكتابي للنص، ولا ننسى أن العنوان الماورائي يستوعب أن يكون العنوان/اللباس، فكيف صارت السدرة عنواناً ماورائياً؟
السدرة- حسب المعتقدات الثابتة في شبه الجزيرة العربية- شجرة أسطورية محفوفة بالقداسة والأسرار والعوالم الغيبية، تجتمع في كينونتها المتضادات والقدرات، فهي مكان ولادة الجن، ومحطّ استراحتهم في الليل، وفي النهار ظل للإنس، وثمرتها (النبق) غذاء لهم، وأوراقها (السدر) طيبُ يُغسل به موتاهم ودواءٌ يستحم به مرضاهم إذا سُحروا أو أصابهم مسٌّ من الجن، وأغصانها مكان حسَن لتعليق السحر أو الطب.
وإذا نبتتْ السدرة في مكانٍ من تلقاء نفسها دون تدخل من الإنس فهي لا تُقلع إلا بعد الرجوع إلي الجن وأخذ موافقتهم على القلع ونادراً ما يوافقون، ولهذا الإجراء طرقه وطقوسه المعروفة عند السكان المحليين.
ويعني نبت السدرة في المكان عند البعض فَقْدَ أحدِ الأولاد أو موت صاحب المكان، ولذلك فهي نذير خوف ورهبه وتشاؤم.
وقد ارتبطت السدرة وأوراقها بالأدعية عند المرض والموت، وحين الزرع والقلع، ومن الخصائص النباتية للسدرة أنها شجرة معمرة، دائمة الخضرة، بطيئة النمو.
إن ما تقدم من معلومات حول هذا الكائن النباتي المسكون بالقداسة والغرابة يكفي للشعور بأن السدرة نص مستقل شفاهي التكوين، كان لذاكرة الجماعة فضل في بنائه، وحين فصلنا العنوان عن لُحمة النص أثبتنا بالمعلومات المسرودة عنه أنه عنوان ماورائي.

2/ الثراء الأسطوري:


إذا كانت السدرة شجرة أسطورية فصحراء شبه الجزيرة العربية هي منبت ومنشأ الأساطير العربية، وفي قصة السدرة نهضت ثلاثة أساطير شعبية محلية، الأولى: أسطورة خلق قبيلة من بني مُرّة، الثانية: أسطورة الجني دعيدع، الثالثة: أسطورة الجن الذين يحركون رمال الصحراء، وحتى يتحقق الفهم الأسطوري للقصة لابدّ من عرض موجز للأساطير الثلاث.

أ/ أسطورة خلق المرة:


تروي الأسطورة: "أنه كان هناك في مكان ما من الصحراء جنيان اثنان تشكلا على هيئة ثعبانين أسود وأبيض وهما أبناء عمومة بينهما صداقة ومودة، فأخذا يتمازحان ويتعانقان، ورآهما على تلك الحالة راع مرّي يرعى غنمه فأخذ عصاه وهوى بها على الثعبانين المتعانقين، فمات الثعبان الأسود وفرّ الثعبان الأبيض إلى العالم السفلي من خلال حفرة بجانب صخرة وفي داخله رغبة الثأر لابن عمه المقتول متقدة، وسعى للأخذ بثأره بأن عرض ما حدث على راعٍ مرِّي آخر وطلب منه أن يساعده في القصاص لابن عمه، ووضع الجني/الثعبان الأبيض خطة لذلك وما على الراعي المرِّي إلا أن ينقذه من قوم المرِّة إذا أخذ بثأره، وتحوّل الجني إلى ثعبان أبيض ولدغ الراعي المرِّي الأول الذي قتل ابن عمه الثعبان الأسود وهو يهمّ بالنزول من على ظهر ناقته، لدغه لدغة أودت بحياته، فلما همَّ قوم المرِّة المجتمعين ليلاً لسماع الشعر بقتل الثعبان الأبيض قام الراعي المرِّي الثاني المتعاطف مع الثعبان الأبيض والمتضامن معه بالخروج من وراء خيمة الشَّعر مسرعاً والتقط الثعبان الأبيض من عند الناقه ورماه بعصاه بعيداً عن قوم المرِّة حتى لا يقتلوه، وكان بعد ذلك أن قام الثعبان الأبيض/الجني بمكافأة الراعي المرِّي الثاني فزوجه بنتاً جميلة وذكية من بنات الجن تدعى مليقة... إلخ".

ب/ أسطورة الجني دعيدع:


تروي الأسطورة: "أن الجني دعيدع يظهر ليلاً في الصحراء للإنس فيضيء لهم الطرق العديدة بنوره الخاص الذي يشبه نور القمر إلى أن يوهمهم ويضلل سيرهم ويضيعوا مكانهم الأصلي أو الطريق الصحيح للسير... إلخ".

ج/ أسطورة الجن الذين يحركون رمال الصحراء:


تروي الأسطورة: "أن في صحراء الربع الخالي وكذا صحراء الدهناء جناً يسكنون مناطق معينة تُعرف بالربّاضات أو الهوْيات وإذا دخلت أقدام الإنس إلى هذه المناطق واستشعرها الجن فإنهم يغضبون ويقومون بإثارة الرمل وتحريكه باستمرار حتى يبتلع بني الإنس الداخلين في حماهم... إلخ".
والسؤال الذي ينهض الآن هو كيف وظّفت القاصة نورة المرِّي الأساطير الثلاث داخل النص؟

إن القاصة نورة المرِّي أجادت التعامل مع الأساطير الثلاث إجادة فنية تامة، وذلك بأنها جعلت الأساطير الثلاث تسري في أنساغ النص كما تسري مادة (الجلوكوز) في شرايين المحتاجين لها؛ لأن نص السدرة كان محتاجاً إلى الأساطير الثلاث وكانت الأساطير الثلاث محتاجة إلى السدرة؛ فبيئة النص الأسطورية (المكان)، وكذا بطلته (مريم) أسطورية، فالمكان/الصحراء هو منبت الأساطير الثلاث سابقة الذكر، وكذلك البطلة/ مريم فهي مرِّية:

فالبطلة مريم التي نصفها إنس والنصف الآخر جنّ حرك الجن الرمل تحت قدميها:

وقام الجني دعيدع بإيهامها وتضليلها عن أهلها:

في هذا الإشارات النصية الثلاث والمتجاورة نصياً تمتزج الأساطير الثلاث امتزاجاً يصُعب فصله أو تبيانه، ومن خلال هذا المزج الأسطوري الرائع والفريد يظهر عنصر الصراع في القصة، الصراع بين البطلة مريم وبين الشخصية الثانية في النص التي لم تسمها الكاتبة باسم معين، بل اكتفت بالقول:

- هذا يا ابن الخالة ما يجعلنا أسعد أبناء عصرنا- هل يعني ذلك أنك لن تذهبي معي؟- أين؟- تحت الأرض.

وبعد أن نجحت الكاتبة في جعل الأساطير الثلاث تتعاضد مع بعضها البعض، ومع مكنونات القصة وعناصرها الثلاث (المكان والزمان والشخصية) اتجهت بوعي حاد إلى تحقيق الأساطير الثلاث وحل الصراع بين البطلة مريم وابن خالتها في جملة واحدة:

في هذه الجملة/ الحل أو لحظة التنوير تتحقق الأساطير الثلاث، فقد تاهت مريم عن أهلها، واستطاع الجن أن يبتلعوها تحت الرمل، ومن ثم عادت إلى العالم السفلي الذي جاءت منة مليقة جدة قبيلة بني مرّة كما تنص على ذلك أسطورة خلق بني مرّة!!

3/ الثراء الديني الفلسفي:


إن دراسة الثراء الديني في قصة السدرة للكاتبة نوره المرّي عملية شائكة معقدة، محفوفة بالمحاذير، وقد توقع في مزالق معينة، ولأجل ذلك سنكتفي بالبحث عن المعادلات الموضوعية في النص دون الغوص بحثاً عن الأسرارالعميقة أو المعمقة قصداً من قبل الكاتبة، ولنتأمل أولاً هذا المقطع الإشاري الجميل:
"عدت إلى السدرة الوحيدة في الصحراء ما الذي جعلني أسند رأسي على جذعها؟! كيف جاءني النوم على غفلة مني؟ كان بسبب حبات النبق الحمراء".
الكاتبة هنا اعتمدت ضمير المتكلم كوجهة نظر تعرض بها شخصية البطلة مريم التي نصفها إنس ونصفها الآخر جن، أي أنها ثنائية الخلق والتكوين، ومريم في التراث الديني واليهودي والمسيحي والإسلامي "فتاة عذراء قديسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد"، لا يعْرفُ عنها أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي المعبد الإسرائيلي المتطهرين – ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من القديم.
وقد كان حمل مريم بعيسى مفاجأة عجيبة لها، لأنه حمل لم يرتبط بأسبابه العادية، وكان صدمة قوية أحاطت بنفسها، حتى أظلمت في وجهها الدنيا، وآثرت الموت على الحياة.
ويُفهم مما سبق أن مريم بطلة قصة السدرة هي استلهام واضح لشخصية العذراء مريم عليها السلام، وقد سجل القران الكريم كيفية حملها: ۞ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ۞ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ۞ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ۞ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ۞ (سورة مريم 22-25)

والسؤال: هل نجحت الكاتبة نوره المرِّي في استلهام شخصية العذراء عليها السلام رغم خطورة هذا المنزع في الكتابة الأدبية ودقته؟
لكي نجيب على هذا السؤال لابد من إحداث موازنة بين قصة العذراء عليها السلام كما جاءت في القران الكريم وبين قصة السدرة للكاتبة نوره المرِّي بمقتطفات نصية.
يقول الحق تبارك وتعالى: "فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا" (سورة مريم 17)

وكتبت نوره المرِّي:

وقد جاء ذلك على لسان الشخصية الثانية الجني الذي أسمته الكاتبة بابن الخالة.
ويقول الحق تبارك وتعالى: "قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا" وقد جاء ذلك على لسان مريم عليها السلام. (سورة مريم 18)
وكتبت الكاتبة نوره المرِّي:

وقد جاء ذلك على لسان بطلة قصتها مريم.
ويقول الحق تبارك وتعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ۞ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ۞ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ۞ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ۞ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ۞ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ۞ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا" (سورة مريم 27-30)
ويعلق الدكتور محمد الطيب النجار على هذه الآيات بقوله: "في هذه الآيات الكريمة تصوير دقيق لتلك المفاجأة العنيفة التي وقعت من قوم مريم موقع الصاعقة، وملأت نفوسهم بالأفكار السوداء والوساوس النكراء حينما رأوا مريم العذراء الطهور وهي تحمل عيسى طفلاً رضيعاً، وتعلن أمومتها لهذا الطفل الذي لا يعرفون له اباً".

وكتبت الكاتبة نوره المرِّي واصفه الجو النفسي للبطلة مريم ولقوم الجن:

وعند تحليل المقتطفات النصية في كلا القصتين نكتشف التشابه الرامز والمعادلات الموضوعية. فالنخلة في قصة العذراء مريم يقابلها السدرة في قصة الكاتبة نورة المرِّي، والرطب في قصة العذراء مريم يقابله النبق في قصة الكاتبة نورة المرّي، والملك الذي تمثل بشراً في قصة العذراء مريم يقابله الجني ابن الخالة في قصة الكاتبة نورة المرِّي، وقوم مريم عليهم السلام يقابلهم قوم الجن، والمكان القصي في قصة العذراء مريم يقابله الصحراء في قصة الكاتبة نورة المرِّي، والحوار الذي دار بين مريم عليها السلام وبين من تمثل لها يقابله الحوار الذي دار بين مريم بطله قصة السدرة وبين الجني ابن الخالة الذي ظهر على حقيقته.

وقد كان الاستلهام للتراث الديني وخلق الموازنات والتناصات لدى الكاتبة نورة المرِّي ناجحاً إلى ما قبل الموازنة الأخيرة التي تمت بين الملَك الذي تمثل بشرا سويا بالنسبة لمريم عليها السلام وبين الجني الذي ظهر للبطلة مريم (بطلة قصة السدرة) على هيئته الحقيقية، ففي هذه الموازنة حدث خلل بنائي كبير لشخصية الجني ابن الخالة، فظهوره على هيئته الحقيقية غيّب عنصر المفاجأة أو الصدمة!! ولكن يُغفر للكاتبة هذا الخلل لوقوعها في ورطة نصية واضحة يمكن أن نلخصها في هذا السؤال: هل أستلهم قصة العذراء مريم عليها السلام كاملة أو أحقق أسطورة خلق بني مرّة؟!
ولما كان الخيار صعباً، اختارت الكاتبة نورة المرِّي تحقيق أسطورة خلق المرّة في النص والابتعاد عن اللحظة الحاسمة عند استلهام الموروث الديني، والدليل على ذلك أنها استعاضت عن حدث حمل بطلتها مريم بجعله حدثاً غير عادي كما حدث في قصة العذراء مريم عليها السلام بحدث زواج بطلتها مريم من الجني ابن خالتها: "ستبارك جدتنا مليقة زواجنا في قبرها".
ويتضح من هذه الورطة النصية أن الكاتبة نورة المرِّي لم تخطط جيداً لاستلهام الموروث الديني، وإنما خططت وأعدت قلمها للتوظيف الأسطوري، وربما كان لعقيدة الكاتبة الإسلامية في عدم الإيمان بقضية التثليث وإنكارها تأثيراً كبيراً عليها أثناء عملية استلهام الموروث الديني.

4/ الثراء الحُلمي واللوني:


قصة السدرة للكاتبة نورة المرِّي تحتمل وجهين من التصنيف، فهي يمكن أن تُقرأ على أنها كتابة صحو كما تعاملنا معها من قبل، وهي من جهة أخرى يمكن أن تقرأ على أنها كتابة نوم، أي كتابة حُلمية !! أو أنها رؤيا مكتوبة، فالأجواء والأحداث التي عاشتها البطلة مريم والعناصر التي تعاملت معا تغري بالتأويل والتفسير، وليس إغراءً فحسب، إنما يعتبر اللجوء إلى التفسير ضرورة حتى تستطيع البطلة مريم ويستطيع القارئ معها معرفة معنى ومغزى الأشياء التي رأتها في نومها !!
ومن جمال هذه الكتابة الحُلمية إنها مستترة، غير مكشوفة للقارئ، وغير معلنة بقرينة لفظية، فلقد راجعت أفعال القص كلها الواردة في النص ولم أعثر على فعل واحد يشير أو يصرح بأن القصة حُلم نوم، فلم تستخدم الكاتبة نورة المرِّي في رؤيا بطلتها مريم الفعلين الشائعين (رأيت وحلمت)، لتكون الكاتبة نمطية مألوفة، إنما تجاوزت النمطي والشائع والمألوف بتقنية حذف الفعل من النص والإبقاء على عمل الفعل نفسه في النص، وقد تحقق لها ذلك بإبداع بيِّن من خلال شخصية البطلة مريم التي كانت تحلم حقيقة ولم تقل إنها كانت تحلم!!
ولن نفسر كل موجودات النص وأثاثه فهي كثيرة؛ إنما نقتصر على الموجودات الكبرى، وعناصر الحياة، والأحداث الصغيرة أو الأفعال التي قامت بها البطلة مريم أو رأتها.



1/ السدرة: هي في المنام "امرأة كريمة مستورة"
2/ سدرة المنتهى: في المنام تدل رؤيتها على "بلوغ القصد من كل ما هو موعود به"
3/ النبق: في المنام "من أكل النبق حسن دينه، والنبق محمود بإجماع المعبرين لشرف شجرته ورطبْه أقوى من يابسه، وهو لأصحاب الدين زيادة في الدين وصلاح"
4/ النار: في المنام "من رأى ناراً مضيئة وحولها جماعة فإنهم ينالون بركة، ومن رأى ناراً في برّ وأنس إليها أنس من وحشة"
5/ النقاب: هو في المنام" بنت طويلة العمر، وربما دل ذلك على التفقه في الدين"
6/ الجني: في المنام "من صادف أحدا من ملوك الجن صار عريفاً أو ضامناً أو قصاصاً لأثار اللصوص، وربما تاب واهتدى إلى الله تعالى، أو صار من أهل العلم والقرآن"
7/ الشوك: في المنام "من ناله شوك نالته فتنة، أو يشوكه أمر يكرهه بقدر الشوك"
8/ الثوب الأزرق الطويل المشقوق: في المنام "الثياب الزرق غمٌ وهمٌ، ومن رأى أن ثوبه تمزق عرضاً، مُزِق عرضه، وأصابه هم من جهة رجل شرير، وإن مُزق طولاً فُرِج عنه أمره".
9/ العباءة: في المنام "من رأى أن عليه ثوباً أسود ولم يعتد لبسه أصابه بعض ما يكره، وهو لمن اعتاد لبسه في اليقظة، شرف ومال وسلطان وسؤدد"
10/ الحجارة: في المنام "ربما دلت على العباد والزهاد وأرباب القلوب الخاشعة"
11/ الرمل: في المنام "من رأى أنه استف الرمل أو جمعه أو حمله فإنه يجمع مالاً ويصيب خيراً"

وعندما نجمع المادة التفسيرية التأويلية للمادة الحُلمية للبطلة مريم في قصة السدرة ونقوم بتحليلها نُصاب بالدهشة ويتملكنا الشعور بالتعجب، ذلك أنه يوجد فرق نسبي يذكر بين الكتابتين!! كتابة الصحو وكتابة النوم !! بين البطلة مريم في الصحو وبين البطلة مريم في النوم !! ففي كلا الحالتين تبدو البطلة مريم حاملة نفس الخصائص النفسية، أي أن البعد الداخلي والاجتماعي للبطلة مريم واحد، وهو بعد ثابت يرفض التغيير، سواءً كان التغيير بالنقص أو بالزيادة!! أوفي الصحو أو في المنام !!
وهذا البعد تجلى لنا كالآتي:

مريم فتاة شريفة طاهرة تعاني من القلق والفزع والخوف على سلامة العرض، علاقتها قوية بالله، قصاصة للأثر، مصابه بكرب وتكابد هماً وشدة.
وينعدم الفرق أيضا في علاقة البطلة مريم بالشخصية الثانية، ففي كتابة الحلم وفي كتابة الصحو علاقة مريم علاقة وحيدة تمثلت في الصداقة مع ملك من ملوك الجن !!
وحتى الحل الذي صارت إليه الكتابتان كتابة الصحو والحلم، أو انحلال عقدة الصراع يبدو متماثلاً، ففي كتابة الصحو تم زواج البطلة مريم من الجني الملك، وفي كتابة الحلم سدرة المنتهى: يعني بلوغ القصد من كل ما هو موعود به !!
فهل يا ترى القاصة نوره المرِّي أرادت أن تقيم أو تؤسس نظاماً هندسياً لقصتها السدرة؟ وذك بأن جعلت قصتها تسير في ثلاثة خطوط متوازية لا تلتقي أبدا، خط أسطوري، وخط واقعي، وخط حُلمي!!

إن المعطيات النصية للقصة موضع الدراسة تؤكد لي أن القاصة نورة المرِّي مؤسسةً تأسيسا معرفياً عالياً في حقول ثلاثة، الأساطير، الأديان، الأحلام، ولم أقل حقولاً أربعة أضيف: الألوان؛ لأنني صعِب عليَّ دراسة الثراء اللوني التشكيلي في قصة السدرة لمعرفتي القاصرة في هذا الحقل من حقول المعرفة الإنسانية!! وبالتالي تقصر دراستي ولا تقص معرفة الكاتبة القصصية نورة المرِّي في الألوان، وفي كيفية توصيفها في النصوص الأدبية وخاصة القصة القصيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى