محمد جبريل - الواقعية السحرية؟

سبقت السوريالية اتجاهات إبداعية كثيرة ، تبدأ بالواقعية التى أفرزت العديد من الروافد المهمة . وثمة الابتداعية والمستقبلية والماورائية والدادية وغيرها . وكانت الدادية ـ تحديداً ـ هى الاتجاه السابق على السوريالية ، بل إن بعض الاجتهادات النقدية وجدت فيها وجهين لعملة واحدة . وثمة من يجد فى السوريالية والواقعية السحرية اتجاهاً واحداً ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 34 )
ظهر مصطلح الواقعية السحرية ـ للمرة الأولى ـ فى عام 1925 . أطلقه الناقد الألمانى فرانتز روه على الاتجاه الذى توضح فى أعمال جماعة من الفنانين الألمان ، اتسمت بالصور الساكنة ، الواضحة ، الحادة التفصيلات والخطوط ، لكنها ـ فى الوقت نفسه ـ تعنى بالتخييل ، الفانتازيا ، المستحيل ، بصورة تناقضية ، كأنها الواقع ، أو هى الواقع تحديداً . ثم اتسع إطلاق المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية . أطلق على أعمال روائيى أمريكا اللاتينية ، مثل خورخى لويس بورجيس وأليخو كاربنتير وجبرييل جارثيا ماركيث . السرد فى أعمالهم يمازج بين الواقع والخيال ، بين المألوف وغير المتوقع ، بين المدرك والخارق ، بين الأنماط والنماذج والأحداث اليومية ، وما يعد من الأحلام ، أو أقرب إلى الأسطورة ، والخرافة .. ذلك كله ، فى لغة تغلب عليها الشعرية بصورة لافتة . وثمة رأى يحدد الفارق بين الواقعية السحرية والفانتازيا ، فى أن الفائق للطبيعة فى الواقعية السحرية لا يربك القارئ .
يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ـ 52 ) .
وفى ذكرياتها " بلدى المخترع " تؤكد إيزابيل الليندى أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس ، أدخلتها فى الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمى بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير ( بلدى المخترع ـ 72 ) . ويقول ماريو بينيدتى إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ، ليس مرده الواقع العجائبى ، وإنما الواقع المروع . وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذى يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال ، والعبد الذى يظل داخل الزجاجة مائتى عام ، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم .
***
كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
حين أتحدث عن الخيال ، فأنا لا أعنى بالخيال ما يحتفى به السورياليون ، إنما أعنى الخيال الفنى فى كل مستوياته . وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلى حدوده القصوى ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 18 ) فإن الواقعية السحرية ـ والسوريالية كذلك ـ تفجر الخيال إلى أقصى مداه ، تأذن بتحرر اللاوعى إطلاقاً من الرقابة التى قد يمارسها العقل .
أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
أستاذنا نجيب محفوظ يحرص على أن يؤطر الخيال بالمنطق . الحلم عند نجيب محفوظ بديل لمنطق الفن ، للامنطق ، للواقعية السحرية [ إقرأ " الطريق " صفحات 60 ، 63 ، 64 ، 67 ، 107 الخ .... ] . أما الواقعية السحرية ، فإن أشد تعرفنا إليها فى أعمال جابرييل جارثيا ماركيث ( كولومبيا ) وميجيل أنجل أستورياس ( جواتيمالا ) وأليجو كاربانتييه ( كوبا ) . وتختلف الواقعية السحرية فى أنها جانب فوق طبيعى للأشياء ، ضرب من الواقعية يتجاهل قوانين السبب ، تماماً مثل الحال فى الأحلام ، والتعبير لماركيث . أن الفن ـ كما يقول إرنستو ساباتو ـ لا يطالب بفصل المنطقى عن اللامنطقى ، والإحساس عن الفكر ، والحلم عن الواقع . إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة فى اللاوعى ، بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى ـ ما هذا البيان المشترك ؟ ـ 139 ) . لم يعد للواقعية الطبيعية أو التسجيلية ـ على سبيل المثال ـ وجود فى أدب الفانتازيا . إنه أدب لا يعرف المستحيل . لقد كسر مبدعو الواقعية السحرية حاجز المعقول ، لا للهروب ، ولا لمجاوزة العالم الحقيقة ، وإنما لفهم العالم بطريقة أفضل . أما الواقعية السحرية ـ فى الموروث العربى ـ فهى الأعمال التى تحيا على الأسطورة والخرافة والغرائبية . إنها لا تجعل من ذلك كله مجرد وسيلة ، ولا تجعل منه ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ملاذاً أخيراً تلجأ إليه الحكاية عندما يتم استنفاد المصادر العادية ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 100 ) .
الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعى ، تشكل جزءاً فى نسيجه . وحين استطاع الرجل الغريب فى قصتى فلما صحونا أن يخضع ـ بسكين ـ أفراد الأسرة المضيفة ، أظهر بعض الأصدقاء من المبدعين والنقاد عجبهم : كيف لجماعة أن تشل إرادتها أمام شخص ، فرد ، يحمل سكيناً ؟ . وفى قصتى المستحيل تعددت الأسئلة حول إقدام الرجل على لزوم بيته لا يغادره ، وهو قد اكتفى بتكويم قطع الأثاث خلف الباب والنوافذ . أما الراوى فى قصة " هل " فهو ميت ، وأهملت السؤال : ألم يكن من الأوفق أن يجرى الحدث فى الحلم ؟ . وكانت الملاحظة التى أبداها البعض حول قصتى أبناء السيد الصافى ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات ، هى الملاحظة نفسها التى أبداها البعض من خارج القصة : كيف لميت أن يعود إلى الحياة ؟
والأمثلة ـ كما تعرف ـ كثيرة . وهى قد أملت منطق الواقع ، وأهملت منطق الفن ، المنطق الذى يصدر عن الفن . ولعلك تتعرف إلى ما أريد توضيحه فى إمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ونجم وحيد فى الأفق و ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها من الروايات التى تحركت شخصياتها وأحداثها فى إطار الفن .
***
أوافق على الرأى بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتينى أمريكى لظاهرة عالمية قديمة ( فى الواقعية السحرية ـ 43 ) . الواقعية السحرية ـ أداتها قوة الخيال ـ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش . يقول ماريو بارجاس يوسا : " لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها ، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكى لاتينى . لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية ، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة فى محراب الواقع المعيش ، وأصبحت ـ فى الوقت الراهن ـ تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام . وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم "
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة فى الأساطير والملاحم والحكايات العربية ، منذ أسطورة إيزيس ، وقصة الأخوين ، تواصلاً مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية : الهلالية وعنترة وبيبرس وحى بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم
أنا لا أخترع عالماً غير موجود ، وإنما أقدم عالماً أحياه ، وأتذكره ، وأتفهم ما ينبض به من معتقدات وعادات وتقاليد . همى أن أنقل هذا الواقع بلغة تضيف جمالياتها إلى جماليات العمل الفنى . وكما أشرت من قبل ، فأنا أرفض أن أعتبر اللغة أداة توصيل . إنها جزء مهم فى العمل الإبداعى ، تلتحم به ، ومعه .
وإذا كان كل شىء فى أمريكا اللاتينية ـ كما يقول ماركيث ـ ممكناً ، وواقعياً ، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا ..
عبد المحسن صالح ـ كما تعلم ـ واحد من كبار علمائنا فى مجال البكترولوجيا ، بالإضافة إلى إسهامه المتفوق فى مجال تبسيط العلم . ناقش فى كتبه قضايا مهمة ، تبدأ بالحياة اليومية ل،سان وتنتهى بالموت .
زارنى عبد المحسن صالح ذات مساء . كانت العادة أن يطول نقاشنا فيما يفد إلى خواطرنا من قضايا ، دون أن نعطى حساباً للوقت . لكنه استأذن ـ بعد أقل من نصف ساعة ـ : لماذا ؟ . سأحضر جلسة تحضير أرواح !.
شردت عن كل الحجج ، وغير العلمية ، التى ساقها عبد المحسن تبريراً للانفصام الواضح بين ثقافته العلمية وثقافته الموروثة .
وفؤاد ب . ليس طبيباً كبيراً فحسب ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ مثقف كبير ، له آراؤه الموضوعية والجادة فى مختلف قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها . وكان إيمان الرجل بالتقدم مطلقاً ، حتى أنه لم يكتف بما وصل إليه من مكانة علمية ، فهو يجلس فى المدرجات أثناء مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه للتعرف على الجديد فى مجالات الطب .
ما لا يعرفه إلا القلة من أصدقاء الدكتور فؤاد ب . ـ وأنا واحد منهم ـ أنه كان يغيب عن القاهرة فى بعض الأمسيات . يمضى بسيارته إلى قرية فى عمق الدلتا . يجلس فى حضرة شيخ يعمل بالسحر والتنجيم وقراءة الطالع !
هذا الانفصام ، أو التقابل ، يعنى سيادة الموروث الشعبى ، بصرف النظر عن تباين المستويات الاجتماعية والثقافية ، فهى جزء أصيل فى تكوين الإنسان المصرى . ليس ثمة ما يرفضه العقل : السحر مذكور فى القرآن الكريم . الأرواح والجن مذكورة كذلك فى القرآن الكريم . العفاريت والغيلان والمردة ، ما أكثر ما يرويه الأجداد والأبناء عنها للأبناء والحفدة
نحن ننشأ على حكايات " السماوى " و " أبو رجل مسلوخة " والعفاريت التى قد تركبنا ، أو تفعل بنا ما تفعله العفاريت . تتوالى التحذيرات والنصائح ومحاولات التخويف . تستقر فى أدمغتنا ، لا يلغيها تقدم السن ، ولا اكتشاف الحقائق ، بل إننا ـ تواصلاً مع الموروث ـ نروى ذلك كله ـ وربما نضيف إليه ـ لأولادنا .
وإذا كانت عادة المصريين هى الاحتفال بذكرى وفاة الراحلين من أحبائنا ، فإننا نحتفل بذكرى أولياء الله . مبعث المفارقة أن أولياء الله يظلون أحياء ، فنحن نلجأ إليهم فى الملمات ، نطلب النجدة والغوث والنصفة والمدد ..
نحن نلجأ إلى أولياء الله ، نقسم بهم ، نزور مقاماتهم ، نتشفع بهم ، نعدهم بالنذور ، نناجيهم ، نلتمس النصفة والمدد . نحن إذن لا نعتبرهم موتى . إنهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الأولياء الموتى ـ فى يقيننا ـ ليسوا كذلك . نلجأ إليهم لمساعدتنا فى تحقيق ما عجزنا عنه ، ما قد يدخل فى دائرة المستحيل .
وإذا لم يكن اللقاء المباشر بالراحلين متاحاً ، فإنه يتم فى أثناء النوم ، فى رؤى المنام .
نحن ننتظر من الأولياء الراحلين أن يؤدوا لنا ما يجدر بنا أن نؤديه . حين ندس رسالة فى صندوق النذور بمقصورة أحد الأئمة ، نضمنها شكوى ، فإننا نترقب قراءة الولى للرسالة ، واستجابته لها ، بحيث تنعكس الاستجابة فى نتائج إيجابية تعيد لنا حقوقنا المهضومة . السيدة زينب ترأس المحكمة الباطنية التى تفصل فى أمور المسلمين ، السيد البدوى هو الذى أتى لنا بأسرى الحروب الصليبية ، سيدى العدوى يستعيد الأطفال التائهين ، إلخ .
أصارحك بأنى عبرت عما شهدته ، وعشته ، فى طفولتى ، دون أن أحاول تصنيف كتاباتى ، وما إذا كانت واقعية بالمعنى الذى نعرفه ، أم واقعية سحرية كما قرأنا عنها فى الإبداعات العالمية . كتبت ما نهل من التراث ، ومن الموروث ، من المعتقدات والتقاليد والعادات وغيرها من الخصائص التى يمكن أن تشكل فى مجموعها ـ ولو من قبيل التجاوز ـ الشخصية المصرية
كانت مسامرات كل مساء ـ هل تصح هذه التسمية ؟ ـ تكاد تقتصر على الجن والعفاريت والست المزيرة والقرين ، أو الأخت التى تسكن تحت الأرض " اسم الله على أختك " والبغلة التى تزين للمرء ركوبها ، فإذا ركبها علت به وعلت ، ثم قذفت به إلى الأرض فى مصير مؤلم .
لا تشغلنى المقارنة ، ولا أوجه الاتفاق والاختلاف ، لكن السؤال الذى يفرض نفسه : ما الخصائص التى تتميز بها الواقعية السحرية ، فلا نجدها فى العجائبية العربية ، كما نجدها فى ألف ليلة وليلة ، والسير ، والحكايات القديمة ؟
الوجدان المصرى ـ والعربى بعامة ـ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية ، مهما مالت ـ موضوعياً ـ إلى الخرافة . إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها ، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار . الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة ، دون أن يضعه فى إطار معرفى محدد ، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب ، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية ، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل .
أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقى عن مستوى إدراكنا ، فلسنا نملك إلا أن نكتفى بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التى كتبت فى إطاره ، فهو تحذير يشى ـ للأسف ـ بحرص على الدونية فى النظر إلى معطيات الآخر ، حتى لو أفاض ذلك الآخر فى التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربى ، وبخاصة ألف ليلة وليلة .
نحن لا نحاكى غرائبية الآخر ولا عجائبيته ، ولا حتى واقعيته السحرية ، لكننا نكتب عن الواقع الذى نحياه بكل ما ينطوى عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة . أوافق إيزابيل الليندى على أن الغموض السحرى ليس وسيلة أدبية ، ليس ملحاً ولا بهاراً ، لكنه جزء من الحياة نفسها . الواقع هو النبع الذى نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا ، نقرأ الإبداع العالمى فى إطلاقه ، لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التى ننتمى إليها ، ونحاول ـ من خلال ذلك ـ أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية ، أو فلسفة الحياة ، وهو المعنى الذى أوردته كثيراً فى العديد من مقالاتى . أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية ـ على سبيل المثال ـ لمجرد الانطلاق فى الخيال ، لكننى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية ، سواء فى اللحظة المعاشة ، أم فى أحداث تاريخية .
بمعنى آخر ، فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتتنا الموروثة والمكتسبة ، ونتمثل ثقافات أخرى نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة . ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعنى الانكفاء على الذات ، ورفض التراث والموروث العالمى ، أو حتى الانعزال عنهما . نحن ـ كإنسانيين ـ ننتمى إلى هذا العالم باختلاف ثقافاته ، وتنوع حضاراته ، ويجدر بنا أن نفيد من ذلك فى إثراء تجاربنا الإبداعية ، بتعدد المنابع التى تنهل منها .
فى كل الأحوال ، فإننا لا نتعمد جذب انبهار القارئ ولا إدهاشه ، الفن هو البدء والمنتهى ، والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو توشية ، لكنه يحاول أن يهبنا دلالة ، ما يستحق عناء المبدع فى الكتابة ، وعناء القارئ فى التلقى .


2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى