محمد جبريل - الفن .. هل هو للتسلية ؟

" كانت الكتب العلمية فى مكتبة أبى تقف ، جنباً إلى جنب ، مع الأعمال الشعرية والروائية ، ولم يخطر ببالى مطلقاً أن أفكر أن أحدهما يقل ، فى قيمته وانسانيته ، عن الآخر "
أودين

منذ العشرينيات من القرن العشرين ، تلاحقت الثورات العلمية فى عالمنا المعاصر : ثورة المعلومات .. ثورة الاتصالات .. ثورة التكنولوجيا .. ثورة الهندسة الوراثية ، وغيرها .. وثمة اجتهاد أن المعلومات التى أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ، يفوق ما حصلته خلال تاريخها كله . وكما يقول أستاذنا زكى نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه .
العلم ضرورة لبقاء الجنس البشرى ، لأنه هو الذى يمكّن البشر من السيطرة على الطبيعة ، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم ( أدب ونقد ـ أكتوبر 1985 )
من هذا المنطلق ، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادى والعشرين فى مجال ما ، يبدو غاية فى الصعوبة .. لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة ..
ولعله يجدر بنا ـ ابتداء ـ أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن :
يناقش المازنى فى حصاد الهشيم قضية الفن ، وأنه لن يشغل إلا مكاناً ضئيلاً جداً فى الحياة العقلية للقرون البعيدة ، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة ، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم ، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر ، فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة ، وتأخذ الإرادة ـ يهديها العقل ـ مكان الهوى ، وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية ( حصاد الهشيم ص 52 ) .
ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت . ويقول فلاديمير مايكوفسكى : " جرّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية " . وكان رأى مصطفى المنياوى فى رواية نجيب محفوظ الشحاذ أن الفن كان له معنى فى الماضى ، فلما أزاحه العلم عن موضعه ، أفقده كل المعانى . مصطفى يكتب فى اللب والفشار ، إيماناً بقضاء العلم على كل ماعداه . وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يبق شيئاً للفن ، وأن العلم ينبض بلذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ، ولم يبق الفن إلاّ للتسلية ، بل إنه سينتهى ـ يوماً ـ بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل . يقول : لقد تبوأ العلم العرش ، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة . وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى ، ولكن أعياه العجز والجهل ، وحز فى نفسه فقدان عرشه .. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة ، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب ، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة ، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق ، الطويل ، فقد تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً ، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها ، وهو أن أكون مسلياً . ويقول : يجب أن أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين ، عدا السيرك !
ولعل مبدأ فصل العلم والفن فى حد ذاته ، يحتاج إلى مراجعة شديدة ، فلا شك فى أن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضى بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
***
أنا أومن بالترابط الحتمى بين مختلف فروع المعرفة ، وأوافق على الرأى بأن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . أعجبنى القول إن " أحلام المبدعين جميعاً هى فى الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، انسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن " ( إدريس الحسن ـ العربى ابريل 1985 ) ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السىء ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا فى استخداماتها الإيجابية ، لكنها أضيرت منها فى استخداماتها السلبية ، وهى استخدامات تحيق بالعلم دماراً محققاً ..
العلم ـ فى تقدير الكثيرين من كتاب الغرب ـ أشبه باللعنة التى صنعتها البشرية بأيدى أبنائها . انتصاراته المتوالية لها وجهان : إيجابى وسلبى . والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر . وعندما خصص نوبل قسماً كبيراً من أمواله لجوائز عالمية ، أعلن ـ صراحة ـ أنه قد بادر إلى ذلك تكفيراً عن اختراعه للديناميت . أراده للسلم ، فاستخدم فى الدمار . وكانت بدايات التفكير فى انشطار الذرة لاستخدامات السلام ، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرّى مدمّر . وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكى مؤشراً بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التى قد تتحقق من التقدم التكنولوجى ، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية ، فإن له إفرازاته السلبية أيضاً ، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية فى يد التقدم التكنولوجى وحده ..
إن تقدم العلم ليس مطلقاً . إنه متصل بالإنسان ، بقيمه ومثله ولحظات قوته وضعفه . التقدم العلمى فى إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء ، وحب الأرض ، والاستفزاز ضد العدوان ، والتعاطف مع الآخرين ، وغيرها من المشاعر التى تتصل بالنفس الإنسانية ، مايشغلها وما تنبض به وتعبّر عنه . الأدب يفهم الطبيعة ، وخبرة الحياة اليومية ، بما لا يرقى إليه فهم العلم ، أو تصويره له . والفن ـ فى مقولة ـ يتجاوز العلم فى أنه لا يفهم من خلال التحليل ، ولكن من خلال العرض . الفن يخاطب العاطفة ، وهو ما يعجز عنه العلم ، مهما يسرف فى التفوق . العلم مجاله العقل . أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحياناً ، ويخاطب العاطفة فى كل الأحيان ، والعاطفة التى أعنيها هى وجدان الإنسان ، مشاعره ، أحاسيسه ، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره . لقد كان هناك اعتقاد ـ والقول لأندريه مالرو ـ ان العلم حين يصل إلى أهدافه ، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسّراً ، لكننا بدأنا نكتشف ـ مع التقدم ـ أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه ، أكثر مما تعتمد على أى تقدم علمى . وكما تقول سهير القلماوى فإن تحدى العلم للإنسان ، تحدى أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له . الفن يحاول أن يقوّى الإنسان فى الإنسان . يحاول بطريقته أن يقوى الاختيار ، وممارسة الاختيار فى الإنسان المعاصر ( الهلال ـ مارس 1971 )
تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه ، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أى شئ إلاّ أن يشكّله ، فما يشكل الإنسان هو الاعتقاد فى نوع من الشخصية المثالية . ولعل مهمة الإنسانية اليوم فى إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان . ونحن نعلم مقدماً أن العلم لن يحقق لنا ذلك . وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية . وطالما بقيت أزمة الإنسان بلا حل ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة ..
***
ثمة تعريف للفن يضعه فى موازاة العلم والأخلاق . فالفن عمل إرادى واع للإنسان ، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال ، والعلم عمل إرادى واع للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة . أما الأخلاق فهى عمل إرادى وع للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة . وبتعبير آخر ، فإن الفن بعد من ثلاثة : العلم وهدفه الحقيقة ، والأخلاق وهدفها الخير ، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال ، وتلازم الأبعاد الثلاثة مهم ، من الصعب أن نتعامل مع أحدها فى معزل عن البعدين الأخيرين . وهو ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى الرواية النفسية التى لا يشغلها تشابك العلاقات فى المجتمع ، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية ، ولا حتى القضايا الأخلاقية ، بقدر ما يركز على مشكلة الفرد ، فرد واحد محدد ، له نفسيته الخاصة ، المستقلة . وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفن وبين علم النفس كعلم تنظيرى وتطبيقى ، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى فى عقدة أوديب التى صاغها سوفوكليس فى درامته ، وأفاد منها فرويد فى تشكيل نظريته فى علم النفس ، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية فى روايته السراب . والواقع أن ظهور النظريات الحديثة فى علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر ، يعد عاملاً مؤكداً فى إفادة الرواية وعلم النفس ، كل منهما من الآخر . بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءاً بإبداعات الإغريق ، وانتهاء بروايات ديستويفسكى . كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس فى رسم شخصياتها . وقد أفدت من عقدة " الفتشية " Fetishism فى روايتى النظر إلى أسفل ..
***
الفن ـ فى تعريف أستاذنا حسين فوزى ـ نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ـ فى تقدير حسين فوزى ـ ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ ( الكاتب ـ مارس 1966 ) . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " . إن أول عمل فنى ـ على حد تعبير مالرو ـ كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون ، وأول تحد للموت . ويقول نيدو شيفين : " من الخطأ أن نحصر الفن فى دائرة الإحساس ، أو أن نزعم أن الإدراك الحسى البدائى للعالم ، هو المنبع الوحيد للفن ، والتفرقة بين الفن والعلم على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده ، ومحتوى الثانى هو الفكر وحده ، تفرقة خاطئة ، والنقد الصورى الرجعى لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحال إلى المحتوى الفكرى ، والهدف من ذلك واضح ، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة ، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتى " ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب الثورى عبر التاريخ ـ كتاب الهلال ص 31 )
والحق أن نجيب محفوظ قد خفف ـ فيما بعد ـ من غلواء مناصرة العلم إلى حد كبير ، فهو لم يعد يجد الفن فشاراً فى عصر العلم ، وإنما هو عصر العلم فعلاً ، وعصر التكنولوجيا والروبوت . أما دور الفن اليوم ، فهو ـ والقول لمحفوظ ـ الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية . إن المجتمع العلمى لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلاّ بالفن . " الرسالة التى ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلى للفنان . الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعانى التى يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد ، لا تشاركه إيّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير " ( فؤاد زكريا ـ الفكر المعاصر ـ العدد الأول )
وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها ، فإن الإنسانيات ـ بصرف النظر عن تفوقها ـ يصعب أن تجد إجماعاً فى تقبّلها أو الموافقة عليها . وكما يقول أستاذنا سيد عويس ، فإن الناس فى محيط العلوم المادية ، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم ، على وفاق ، ولا يكون الفراغ الفكرى إلاّ فى محيط العلوم الإنسانية ( التاريخ الذى أحمله على ظهرى جـ2 ص 64 ) . وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم فى أن الجديد لا يلغى القديم ، لا يلغى ما سبق ، لكنه يضيف إلى الفن فى عمومه إذا كان متميزاً . أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح " إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعباً لعمل ثورة ، لكنها قد تكون سبباً فى ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينيغى التنبيه إليها بواسطة الفن ، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن " ( الكاتب ـ مارس 1966 ) .
***
فإذا حاولنا التعرف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية ، فى ضوء بديهية أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة ، وأن العقلية العالمية الرحبة هى ما نحتاجه فى مواجهة القرن القادم بدلائله التى تشى بتطورات مذهلة ، فإن اللافت أن البنيوية ـ على سبيل المثال ـ قد ظهرت فى العشرينيات من القرن العشرين ، والواقعية السحرية ظهرت فى الثلاثينيات من القرن نفسه .. لكننا ـ للأسف ـ ظللنا لأعوام طويلة ، قريبة ، نناقش أعمالنا الإبداعية فى ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدى الأكثر تطوراً . وللأسف أيضاً ، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التى تحلق فى أجواء الواقعية السحرية ، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث ، مع أن مصادر الواقعية السحرية ـ كما قال ماركيث ـ نفسه ، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية ـ توجد فى الأعمال الإبداعية العربية القديمة ، وفى مقدمتها ألف ليلة وليلة ..
نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتجة فى عمومها ، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم ، فنتقبله بالصورة التى أتى بها ، أو نحاول المحاكاة والتقليد ، دون أن ننشغل كثيراً بظروفنا الخاصة ، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر ، فضلاً عن افتقاد الجدية فى التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية ..
يقول عالم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر : " ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم ، إذ كلاهما فى القوة سواء . إن سرعة الإدراك هى فى صميم الإبداع ، علمياً وفنياً " . ويضيف البروفسور جيليو أرجان : " بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا . وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا ، ومرهونة بها ، فقد تحولت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع ، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا ، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة ـ التى مضى عهدها ـ بين الفن والمذاهب الأيديولوجية " ( الأدب المعاصر ـ فبراير 1988 ) .
***
إن أدب الخيال العلمى هو الأكثر ازدهاراً ـ الآن ـ فى الغرب ، يرتكز فى ذلك إلى منجزات علمية حقيقية ، فهو يحاول أن يستشرف آفاقا أخرى لمستقبل الإنسان . وهذا هو السر ـ فى تقديرى ـ لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمى . إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمى قليلون للغاية ـ وفى مقدمتهم ـ بالطبع ـ صديقى نهاد شريف ـ لأن المجتمعات التى ينتمون إليها مجتمعات مستهلكة لا منتجة ، مجتمعات لم تحيا العلم فى تطوره المذهل بصورة حقيقية . بالإضافة إلى ذلك ، وربما اتساقاً معه ـ فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمى فى دائرة أدب الطفل ، وهى نظرة قاصرة لابد أن تزول بالضرورة فى قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة ..
وكما يقول نور ثروب فراى ، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالم عقلانى ، لاتحركه عاطفة ، وأن الفنان ملقى فى دوامة العواطف الهائجة . إن العلم والفن يستخدمان مزيجاً من الحس العام والحس الداخلى . العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معاً التقاء حميماً من الناحية النفسية وغير النفسية .
إن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضها بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
انطلاقات الخيال تحدها تطبيقات العلم . أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيوداً من أى نوع .
الفن نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " ..
***
إذا كان الترابط حتمياً بين مختلف فروع المعرفة ، فإن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . المطلوب فى العلم أن يهبنا المعرفة ، وهو ما ليس مطلوباً فى الفن ، أو أنه ليس من أولوياته ، والمعرفة ، أو الفائدة ، التى تتحقق فى النتيجة العلمية ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن الدلالة ـ أو المتعة بالطبع ـ التى يهبها لنا العمل الإبداعى . وتقول راشيل كارسن R.Carsen " هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجلوها ، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب ، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخاً أو قصصاً وروايات . لذا يبدو لى أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم " ( ت . يمنى طريف الخولى )
الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . ولعل أحلام المبدعين جميعاً مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، إنسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السيئ ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !


الهلال ـ 1992



  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى