سامي عبد العال - الدين والعلمانية: القطة.. سوداء أم بيضاء؟!

مُجدَّداً في سياق السياسة، تبدو ثنائيةُ الدين والعلمانية ثنائيةً مُراوغةً.. زلِّقةً. حتى أنك إذا امسكت أحد طرفيها، التف الطرف الآخر مُخلِّفاً وراءه ثُقباً أسود، يبتلع الدلالات الثريةَ لأي تفكيرٍ مختلفٍ. ثم يقذفك عبر فضاءات مجهولة عائداً إلى ذاته مرةً أخرى. كأننا إذْ نناقش وضعيةً أو غيرَها للدين، نخلع عن ذواتنا (موقفاً سلبياً منه) قَرَّ في لاوعي القارئ. وعندما نحلل لماذا هذه المشكلة السياسية أو تلك بين الدين والعلمانية، يحدد القارئُ لك آراءً مغايرة لم تَقُلها، وهي التراكم التاريخي للثنائية والذي أُضيف تلقائياً لأي نقاشٍ. أمَّا الأخطر، فهو الجزم بأحكامٍ سلبيةٍ تلتصق بما قلت وتستبق أيَّة نتائج. فيغدو النقاشُ منحرفاً صوب أيهما أولى بالاهتمام...الدين أم العلمانية تاركاً طرحه من الأساس.

المقال يحاول ابطال دلالة الثنائية، تكوينها وحركتها بالنسبة لمفاهيم الدولة، لأنَّها ثنائية تتجاوز موضوعها( الدولة والسياسة) اعتقاداً فيما لا يُطرح الآن بالنسبة للإيمان الديني والإله والشريعة والميتافيزيقا والآخرة، وأيضاً بالنسبة للعلمانية وربطها بالانحراف الخُلقي والإلحاد وكسر التقاليد!! وبدلاً من معرفة حقيقة الدولة وآلياتها وكيف تحقق الرفاهية، سيكون التكالب الحواري على الهوامش، هذا العشب البري البازغ على الجانبين( الكفر والايمان).

كلمةُ القطة بالعنوان هي الدولة التي تطارد أشباح الاستقواء بأية تنظيمات خارجها (على غرار مطارة القطط للفئران). لأنَّ الدولة هي القوة المعبرة عن قدرات المجتمع تاريخياً، إذ تجسد إرادة العقد الاجتماعي الحارس لوجود انفتاح حر للشعوب. حيث سعت اتجاهاتٌ ايديولوجية (دينية وعلمانية) إلى تلوينها بمرجعيتها باعتبار الألوان وجوداً في حد ذاته.

أي أصبحت الأصباغ الفكرية لما هو سياسي هي العلة والغاية( أيديولوجيا الأصل والهدف بذاتهما). ذلك بخلاف فاعلية الدولة التي هي جهاز إنساني قيد الممارسة لا يفقد عموميته إلاَّ ويفقد مبررات وجوده ولا يهدر طاقات التنوع إلاَّ ويهدر قاعدته. إذن يمثل تلوين الدولة بهذا المعنى خطوة لمقولات أفرزت صراعاً سياسياً حول ماهيتها ومستقبلها.

الدولة ليست مضاداً بيولوجيا لتفتت المجتمعات وحسب، لكنها كذلك مضاد لكشف زيف الأفكار الجارية حولها. فهي (علامة تعجب!!) عصيةٌ على أية أختام مفارقة باسم اللاهوت أو اختام أيديولوجية باسم العلمانية. ورغم أن العلمانية صفة تاريخية مرتبطة بأدوات الدولة ومؤسساتها واجراءاتها، غير أنَّ رصيداً أيديولوجياً لهكذا توجُه استحضر نقيضه. وانحصر الوضع بين ثنائية تشعل حماس الجماهير بخلفيات ومماحكات ليست من السياسة ولا من الدولة. هو اشتعال عنيف تبعاً لبنية ثقافية تنبت الهوامش التي تنهك قدرات العقل وتصنع القضايا الخطأ بالوقت الخطأ دون نهاية. مثل قضايا الإقصاء لفصائل من الفضاء العام وقضايا الديكتاتورية والالتفاف على إرادة الشعوب وتصنيم الأيديولوجيا.

الدولة: دينية أم علمانية؟!
في الثقافة العربية هناك مقولاتٌ يحار الإنسانُ إزاءها... كيف ترسبت حتى أضحت جزءاً من التفكير السائد؟! فأخذت يقيناً مجانياً لوقت طويلٍ، وظلت حواراتنا تلوكها على أكثر من صعيدٍ: الخطابات النظرية وبرامج التلفزة والصحافة وأدبيات الجماعات الدينية والتحليل السياسي والمعارف المتداولة. إنَّ مُساءلَّة الأفكار وارتكاسها شيء ضروري لنعرف دقتها وأساسٍها. أبرز المقولات هي: الدولة الدينية، الدولة العلمانية، المجتمع المسلم، المجتمع العلماني... إلى أخر قائمة التصنيف.

قائمة تُتّوج بغطاء" أسلمة المجتمع والمعرفة "(التيارات الإسلامية) أو بغطاء "موضوعية المجتمع والمعرفة"( التيارات العلمانية) ليمثل الغطاء قميصاً واقياً ضد النقد. وأكثر من هذا... فما أنْ تقابِل القارئُ المقولات السابقة حتى تلتصق بوجهه كالرباط المطاطي rubber الضاغط الذي يُكوّر الرأس والفكر معاً!! وبجانب التكوير يرى أصحابُها ضرورةَ التقاء أقطار الفكر خلف مفهومٍ أو آخر. لأنَّ كلَّ نقطةٍ على خط دائري تلتقي نظيرتَّها طالما داخل دائرة واحدةٍ. وهذا أقرب مثال استعاري على التفكير كما لو كان دجما dogma.

السؤال عندئذ: هل المقولات السابقة تلبست العقول بطريقة" تلبيس ابليس" لابن الجوزي أم آراءً بلغت حد الاعتقاد المباشر؟!

في الحالة الأولى، لكي يطرد العقلُ مقولاتَّه لابد من طقوس وتمائم وتعزيم. وفي الحالة الثانية يحتاج العقل إلى معرفة: كيف تتحول الأفكار إلى عقائدٍ وكيف يتم تحليلها. وما دمنا لا نستطيع اقامة الطقوس السحرية لأنَّ طريقاً كهذا نهايتُه البائسة معروفة، فليس أمامنا إلاَّ الخيار الثاني(النقد والتساؤل). نحن بحاجةٍ إلى استعادةِ العقل من بطون العقائد الصارمة ودهاليزها، وبالتالي تدعيم العقلانية وحرية التفكير ونقد الآراء والتصورات. وإذا كان الموضوع كذلك، فما هي خلفية التفكير الدائري؟! ولماذا تستدعي الثنائيات سياسياً إحداها الأخرى وتطرق ابوابها متى اُغلقت؟! ولماذا تخدع اصحاب حتى الفكر الحداثي الأكثر انفتاحاً؟!

مبدئياً يتأسس مفهوما الدولة الدينية والدولة العلمانية على حدودٍ متنافرة: الدين/ العلم، الكفر/ الإيمان، الدنيا / الآخرة، الشك / اليقين، المعرفة / الإسلام. أطراف حدية لا تلتقي إلاَّ تحت عمل توظيفي لها. فيظن صاحبُ الرأي– مثلاً- طالما أنَّه يوجد "مجتمع مسلم" ينبغي إيجاد "دولة علمانية" له أخذاً بالحسنيين. والرأي يؤيدُ ابقاء طبيعة المجتمع العربي وتقاليده كما هي مع تركيب غطاء حداثي فوقه!!

الرأي المذكور يرجع إلى التوجه الديني الوسطي الآخذ بــ" التراث والمعاصرة " في الفكر العربي الحديث. والأمر كمن يبحث عن عروس فائقة الجمال والدلال لابنه الوحيد (المجتمع). ويعقد قرانهما بطريقة:" يا بخت من وفّقَ رأسين في الحلال". وبتلك الطريقة ينشغل بالتصفيق مع نفسه لتجاوزه اشكالية الدين والعلمانية دون عناءٍ!! والتأسيس هنا ينهض على أحكامٍ قاطعة الدلالة معتبراً الموقفَ منها ضرورةً معرفيةٍ.

إلى هنا... هذا شيء يخص صاحب الرأي التلفيقي بين العلمانية الشكلية والميراث الثقافي. لكنه حين يريد تصفيقاً، فلا يحق له ذلك!!، فالمعادلات التي مرت تستقطب التفكير (بل تمزقه) بقوة تناقضها وتفترض حرباً كؤوداً بين مكوناتها. فضلاً عن أنَّها تُضيق مساحة الحرية داعيةً إلى خطٍ لا أصالة فيه. قد يُقال إذا كان لدينا الدين، فهناك العلم، ولا يعقل مواجهته. إذن الدين عقيدة وشريعة وآخرة بينما العلم دنيا وتطور وتقدم. بالتالي لماذا لا يتأسلّم العلم كما يواصل القول طرحه؟! وإذا كان هناك الكفر لا يعقل اختياره، إذن يجب التمسك بالإيمان مع حذر الوقوع في الشرك. والإيمان يتطلب حاضنةً... إذن هناك المجتمع المسلم.

خلطة عجيبة
تجري المفاهيمُ السابقة كأنها أفكارٍ خالصةٍ من أيّة ثغرات منطقية. فهي رُشقت بجسد الأفكار الجارية عبر تفضيلات الإيمان لا العقل نفسه. إنَّ خلطة: "دولة علمانية ومجتمع مسلم" لم تقُل أولاً ... كيف يتأسس المجتمع المسلم؟ ولا بأي معنى سيختلف عن العلمانية كي يلتقيان في النهاية؟ ألا يُحتمل حين يتشكل المجتمع المسلم أن يختار نظاماً خاصاً للحكم؟ وهل سيدل ذلك على حتمية وجود مجتمعات دينية باختلاف الأديان والمِلّل والنِحَلّ؟ وأيضاً هل مشروع أنْ تتكور الأديان إزاء العلمانية، وأنْ يتكور أنصارُها إزاء معارضي مواقفهم؟! ولماذا يختلف المجتمع الديني عن العلماني إذا كان هناك هذا الشيء؟!

أكاد أسمع من يقول: إنَّ هذا أمر معروف بفضل التناقض بين الدين والعلمانية، أمر لا يتطلب مناقشةً، فالتاريخ يثبته ليلاً ونهاراً!! هنا أسأل ثانيةً: إذا كانت القضيةُ صحيحة بهذا الطرح، كيف يلتقي مجتمعٌ مسلم مع دولة علمانية طالما يتضادان بعبارة المقولة؟! هل الإسلام رسم زيتي حتى يلون أقفية الناس وخدودهم كما في مباريات كرة القدم؟! هل العلمانية صفة ناجحة لو أخذناها شعاراً ؟! بل كيف سيرضى مجتمع مسلمٌ بدولة علمانيةٍ؟ لعل مجرد التسميات- أقول مجرد لا أكثر- سيعني طلاقاً بائناً بين الاثنين على يد مأذون شرعي( أو بالأحرى مُفكر شرعي ).

التجارب السياسية القريبة اثبتت أنَّ الدين في النظام الاجتماعي يكيِّف –بحسب فهم أتباعه- أوضاعَهم وأجهزتَّهم السياسية لأشكال الوعي لديهم. ألم توجد بمصر دولة علمانية بنسبةٍ ما؟! وكم تغنى المصريون بقِدَم دولتهم على مدار سبعة آلاف عاماً. وتعاقبت عليها أنظمة سياسيةٌ في العصر الحديث من محمد على إلى حسني مبارك وما بعد الحراك السياسي. وقد حافظ الرؤساء- إلى حدٍ ما- على عدم تلوين الدولة بلون معين.

لكن حينما اعتلى محمد مرسي "صهوة السلطة" تذكر أولَّ ما تذكر عرشَ الخلافة الإسلامية. وتنكر أولَّ ما تنكر لأهم مؤسسة في الدولة العلمانية( القضاء ). هذا ما فعله بالرغم من الفساد الذي يشوبها. فساد كان يقتضي منه بحثاً عن علاجٍ ناجع لا تدمير القضاء من أصله. ثم ظهرت الفرقة الناجية خلفه في غير مكان( الإخوان ولواحقهم ). وحلَّ أمامهم كفار قريش( أطياف المعارضة السياسية وبينها اسلاميون ). وأنشأ الرئيس ديوان المظالم تيمناً بالعصرين العباسي والأموي مُزيْحاً الأفق العلماني الحديث جانباً.

لقد جاءَ المجتمعُ المسلم( حتى المسيحي ) إلى مرسي من كل حدب وصوبٍ. جاء يقدم المظالم إلى دولة علمانيةٍ ممهورةً بمآثر الخلفاء ومبللةً بدموع المحتاجين. ولم تمضِ أيامٌ حتى فهم أنصاره ضرورةَ نزع صفة العلمانية عن الدولة. بمعنى أنه ينبغي دخول الدولة -مؤسسات وأبنية وأثاثاً وموظفين وعلاقات- في الإسلام. وطرحوا مسألة: كيف يحكم رئيس مسلمٌ دولةً تتدعي العلمانية؟! وظلت مناداة الاسلاميين طوال فترة مرسي بحتمية أسلمة الدولة والمجتمع معاً.

وهناك من صرَخَ من اتباع الاسلام السياسي: يا رجال الاسلام كيف تخالفون القرآن وانتم به مؤمنون...إنَّ المكاتب والأوراق والملفات تسبح لله تعالى... ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ثم رتبَ على ذلك: لا يوجد نص ديني يبيح لنا وصف الدولةَ المصرية بالعلمانية. أعلن ذلك معتقداً أنَّه لو وقع هذا الوصف لكان مسخاً لخلق الله!! فحرامٌ... حرامٌ وصف أشياء مسبِّحة بالعلمانية!! لأنَّ هذه العلمانية مرتبطة تاريخياً بالكفرة والملاحدة ولا ينبغي التشبه بهم. فهل يعقل هذا الخلط أو هذا الفصل حتى؟! لقد فُهمت العلمانية -خطأً- شعاراً لا بنية وعقيدةً لا طريقة في الإدارة!!.

إذن وفقاً لمقولة" دولة علمانية ومجتمع مسلم" انقسم المجتمع المصري على نفسه. حيث فهم المسلمون أنَّ دولتهم مسلمة وفهم المسيحيون أنَّ ذات الدولة شبه علمانية. وتحطمت ثنائية" مجتمع مسلم ودولة علمانية" إلى مجتمعين، مسيحي ومسلم، إزاء دولة نصفها علمانية والنصف الآخر( الله أعلم ) بحسب الظروف. بل من واقع صراعهم انقسموا أيضاً أثناء تطبيق العلمانية الإجرائية. فهناك من اعتبرها ليست سوى اجراءات إدارية يومية لتسيير الأمور وشئون المواطنين. وهناك من أخذها – أي العلمانية- مداراةً لمصالحه الخاصةِ كما فعلت الجماعات الدينية. وهناك من أصر على أثبات هويتها الإسلامية أينما ذهب.

حتى لو تمَّ ذلك بلصق آيات وأحاديث نبوية داخل المؤسسات والساحات العامة. ألم يرفع أحد السلفيين الآذان وسط جلسات مجلس الشعب في عهد مرسي؟ فالمعروف أنَّ البرلمان علماني حتى النخاع- هكذا يقول تاريخه- بينما البرلمانيون الاسلاميون لا يرون التزاماً بطابع العلمانية. فما كان منهم إلاَّ تحويل المنبر السياسي إلى مأذنةٍ. وريثما يدافعون عن الحقوق السياسية المنهوبة مع تقصيرهم في ذلك أعلنوا اسلامية الجلسة برفع الآذان.

النتيجة: طالما نقول دولة علمانيةً فهذا سيثير غضب المتدينين المتشددين. تماماً كما تثير قطعة القماش الحمراء ثوراً هائجاً في حلبة المصارعة. لأنّه يستحيل أيديولوجياً فصل العلمانية عن تاريخها الديني الذي نقدته وستظل تنتقده وتطارده حتى وإنْ اُتخِذت كنظامٍ آلي. وحقاً عقب الربيع العربي تحولت الساحتان- المصرية والتونسية وغيرهما- إلى حلبة مصارعة لمجرد طرح هذه الخلطة. وكم رأينا صراعاً دموياً كلما اقترب المسلم من أثاث الدولة العلمانية، فهو يرى ضرورة ادخالها عنوةً في دين الله شاء المجتمع أم أبى!!

عنف رومانسي
ولو فكرنا قليلاً، سندرك أنَّ مقولات( الدولة الدينية والدولة العلمانية) أحد مظاهر العنف الصامت في المجتمع العربي. فهي تشحن لا وعي المتلقي بطاقةٍ وجدانية متفجرةٍ. نظراً لكونها مستندةً على بطانة رومانسية خاصة بالعودة للأصول والعصر الذهبي للإسلام أو العكس هي تدعو لاستحضار الأصول ولإعادة تأسيس عصر ذهبي جديدٍ. وهذا شيء قابل للمناقشة مع تجديد الفكر الديني. لكنها ستكتشف أنَّ ذلك لن يحصل سوى بقانون التاريخ والحياة. عندئذ تستدرك فتقول يصعب القيام بتلك الخطوة بحكم الزمن الراهن. بل يصعب تطبيق فكرة المجتمع المسلم، لأننا لا نمتلك آليات الحياة المعاصرة.

وتبرر البطانة الرومانسية وضعها الحرج هكذا: ليس الزمن فقط مسؤولاً عن ذلك الاخفاق، فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، لكن منتجات الحضارة والتكنولوجيا هي السبب في انحراف الحياة كذلك. وتُسرّب ضمنياً اعتبار العلمانية افرازاً للحداثة والتقدم العلمي وفصل الدين عن الدولة. وإنْ لم تقُل ذلك صراحةً سيفهم المسلم أنَّ مقولتي "دولة علمانية ومجتمع مسلم" مقولتان يتم التمييز بينهما دوماً كشعارٍ. وبمعطى الترديد لا بحقيقة المعنى فحسب تصر البطانة الرومانسية على ابقاء التمييز ساخناً. وإلا لماذا تحاول الجمعَ بينهما؟! ومن ثم ستقرر أخيراً: بدلاً من ترك الدولة نهباً للآخرين فالمسلم أولى بعلمانيتها من سواه (كما يقول المثل: جحا أولى بلحم ثوره).

كأنَّ الوضعَ كالتالي: "مجتمع مسلم" مفقود في أضابير الماضي ولا نستطيع تطبيقه في مقابل علمانية مهيمنة. إذن فالأمر لله من قبل ومن بعد... يجب الجمع بينهما في منتصف الطريق. وسيفهم المسلم بقدر ما يحب دينه عليه أنْ يكره العلمانية، لأنّها هي التي أحالت بينه وبين ما يحب.

وبالتالي مع المقولة سيعيشها سياسةً وسيناقضها اعتقاداً وفكراً. ولكن طالما الغلبة لها فلا مانع من تنحية المشاعر والتحالف المخادع مع العلمانية لتسيير أمور الدولة. هكذا تُلّقِن تلك المقولة في المجتمعات الاسلامية ازدواجيةَ التفكير والمشاعر، وأنَّ الغاية تبرر الوسيلة على طريقتي الحجاج ومكيافيلي.

ربما يُقال الإسلام لا يمنع هذا الجمع بين العلمانية والدين. فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها. هنا تعتبر قضية" دولة علمانية ومجتمع مسلم" قضية زائفة. قضية أثيرت بلا موضوع وبلا قيمة ملموسة في الواقع. إذا اردنا معرفة المسألة نرجع مرة أخرى إلى ثنائية الدين والعلمانية.
والسؤال المهم: هل تلك الثنائية الأخيرة حقيقية؟ فيما أرى تعتبر تلك الثنائية مفتعلة لعدة ملاحظات:
  • تقوم الثنائية( الدين والعلمانية ) على تثبيت أحد طرفيها. في هذه الحالة( دولة علمانية ومجتمع مسلم ) يجري غالباً بحكم السياق تثبيت الدين( أسلمة المجتمع والمعرفة ). حيث يمثل محوراً معرفياً اجتماعياً خارج الواقع لرؤية جميع القضايا. إذن سيتحول الدين - رضينا أم لم نرضَ- إلى أيديولوجيا شمولية قاهرة في السياسة والأخلاق والفكر والحضارة. حتى سيلُغي أيَّ اختلافٍ بين الأشياء، كأي غطاء عام يُوحد بين الإيمان والمممارسة بفروعها المتباينة.

وهنا يمكن وضع الاسلاميون الدين مركزاً لكل مسائل الحياة وإلقاء العلمانية أرضاً. لأنَّ الدين بهذا الاسلوب لا يحتاج إلى أية مفاهيم أخرى. بل لن يكون السياقُ مناسباً إذا وضعنا بجواره شيئاً. بنفس النتيجة اعتبروا كلمةَ العلمانيةِ من باب الزوائد العارضة ليس إلاّ. هي ستعد مُصارِعاً ضعيفاً يطرحه المتدينون كلما أرادوا هزيمةَ خصمٍ معروفٍ في حلبات السياسة!!


  • لا يحارب الدين كدين العلمانية إلاَّ حين تتحول الأخيرة إلى معتقدٍ بنفس ماهية الدين. أي حين تصبح جداراً عازلاً بين الدين أيا كان وبين الناس. وليس هذا هدف العلمانية ابتداءً بأي حال من الأحوال. لأنَّها كعلمانية لو تحولت إلى دين لفقدت ماهيتها هي الأخرى. إذن حتى بالصراع ليس مطلوباً جمع العلمانية مع الدين.

    • العلمانية تصطدم بالدين متى يصبح الأخير أيديولوجيا مقدسة. أي عندما يصبح فعلاً وفكراً إنسانيين خارج التاريخ. وهذا الوضع الخارج غير ممكن بالأساس بقدر استحالة تحول الإنسان إلى إله. كذلك عندما يختزل عقلَّ الإنسان وكيانه في أشكال وجماعات لاهوتيةٍ. والإسلام ليس به هذا النزوع إطلاقاً.

القرآن يقول "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين". الإسلام كسَّرَ عمداً هذا الطوق اللاهوتي دون عودة. إنَّه في شخص الرسول – وكل فرد رسول بهذا المعنى- رحمة بلا جنس ولا لون ولا مركزية ولا خصوصية. لأنَّ هاجس العالمية في بذرته الأولى لا مجرد هدف بعيد.



    • تتعذر ممارسة الدين ويمتنع الايمانُ به إلاَّ بتجارب الحياة النسبية المختلفة. بمعنى يستحيل أنْ يمثل ديناً في الحياة دون الحياة ذاتها. ولهذا تؤثر التجربة الدينية على الأفعال والأخيلة والعلاقات الإنسانية. عندئذ لن يصبح – بالنسبة للفرد والجماعة- خارجَ الزيادة والنقصان. واللغة العربية تحْمل قلب الإنسان كمحل للإيمان على معنى التقلب والقولبة والتقولب.

يترتب على ذلك أن الدين تجربة تاريخية يلتحم بتصورات الناس حول الأشياء والعالم والحقائق. ويعيد فرز واقعهم بحسب محددات واقعية، وعلى خلفية الإيمان يمثل انتاجاً يومياً للرمز والمعنى بلغة الأشياء.



    • العلمانية – بخلاف ما نعتقد- تتفهم لا تلغي سلطة الأساطير والحكايات الكبرى عن العالم كما تشير ما بعد الحداثة. فهي لو حاولت الإلغاء ستتقمص دور الجلاد التاريخي للاوعي البشرية. هي مشتقة ليست من العِلُم بل من العالَّم، فهم العالّم كما هو بكل ثرائه وانسانيته. وبذلك هي تلتقي مع الجوانب الإنسانية للدين بالمغزى السابق. إذن ليس بالتوافق أيضاً يُجمع الدين والعلمانية... لأنَّ هذا تحصيل حاصل.!!

      • لا يعلِّق الدين بجميع أشكاله لافتات على صدور الناس مثل "مجتمع مسلم"،" مجتمع مسيحي"، " مجتمع يهودي". إذا كان المقصود أنَّ نسق القيم في هذا المجتمع أو ذاك قيم اسلامية أو مسيحية، فلتكن دينية حتى اسطورية أو ما شاءت إلى ابعد درجة. عندئذ ستتحول أنساق القيم كأي شيء مهم في حياة الإنسان إلى فعل رمزي. وسيثبت الواقع أنها ليست قيماً مقدسةً بالمعنى المتعالي. ولا يقتضي الأمر تعليق العلمانية أيضاً كنظام محايدٍ يستوعبها.

      • لا توجد دولة متدينة في كيانها المجرد، الدين للأفراد من حيث المسؤولية والتفرد والايمان. إذن الدولة بينة ممارسة مفتوحة تجدد فرصاً لحياة كلِّ مواطنيها دون إقصاء. وربما عكس هذه الفكرة هو الذي اخاف العلمانيين( من تدين الدولة كأنها شخص عيني) وكذلك جعل ثمة داع لتحارب الإسلاميين حرصاً على إلباسها رداء الدين وردعاً لانفلاتها من الاعتقاد الديني السائد!!

إذن دوماً المسألة هي مسألة كيف يوجد هنالك مجتمع حي وناهض ومتطور بملء الكلمة... وليس ما هي صفته ولا ما هي صفة دولته ولا لونها. المجتمع مجازاً كماكينة إنسانيةٍ لا يسير في التاريخ باللاصق الديني ولا باللاصق العلماني الأيديولوجي. بل بقدرات التروس والخامات والموارد المتاحة وطاقات العمل ونوعية الانتاج البشري وقدرات الإبداع الخلاق في الحياة.

حينئذ لا يهم: ما إذا كانت القطةُ سوداء أم بيضاء... المهم أنْ تأكل الفئران!!
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى