رحيم الحلي - وردة

حين توقف امام الخيمة، احس برغبة في ان يستفرغ ما في قلبه وروحه، فالحزن قد بلغ مداه، والنكد ملاقيه اينما اتجه في هذه الارض التي ضاقت كثيراً في عينيه حيث ضاقت روحه فصار يرى الكون صغيراً، ربما يشير ذلك الى ان روحه تتهيأ للرحيل الى عالم ارحب، هذه المرة اختار هذا البستان القريب من ضريح احد الصوفيين ليصبح محطة استراحته، سيظل فيه ردحاً من الزمن يطول ويقصر حسب مزاجه وعندما تمل روحه وتلح عليه بالرحيل سيبحث عن مقام اخر في هذه الارض الصغيرة، مقامه الاخير او محطة استراحته هو حقل كبير لأحد الاغنياء، استأجره احد المزارعين، حرثه وزرعه بواسطه الفاعلين أي العمال الاجراء من الفتيات الصغيرات وامهاتهن المتعبات، على اطراف الحقل الذي سيجته اشجار الرمان والمشمش والجوز، نُصبت مجموعة من الخيم لفلاحين رُحَّلْ، هؤلاء الفلاحون ينصبون خيمهم قرب الحقول التي سيعملون في بذارها ونكاشها وقطاف خضارها وثمارها، اما العمال الزارعين فهن النسوة، واما الرجال فيستفرغون للّهو والتسلية والنوم واشباع غرائزهم والتسبيح، اما النسوة فيا لسوء قدرهن هن ضحايا تقسيم العمل حيث وقع عليهن جور مسرف في التوزيع، وبارك ذلك الكهنة والسحرة والمشعوذون، عليهن نصب الخيمة وترتيبها وطبخ الطعام وغسيل الثياب والعمل في الحقول ثم يأتي شغل الليل فالرجل قد نام كثيراً ويريد ان يسهر وان يشبع حاجته في التهام النساء ليلاً .

_ تعال يا أبو ذر .

صوت جاءه من داخل الخيمة، التفت الى مصدر الصوت، لم يكن غريباً على اذنه، ذات الصوت الذي يسمعه طوال النهار وهو يصرخ على اولاده الصغار حين يطلب النار لاركليته او أي امرٍ أخر.

_ لا لا شكرا لا اريد، احب ان اتمشى .

جلس على حافة الساقية تحت شجرة التين الهرمة التي امتدت اغصانها وانتشرت اوراقها الخضراء بكثافة لترسم مظلةً كبيرة تفيأ ابو ذر تحتها محتمياً من وهج الشمس اللاهب، اخذ بعض حبات التين الواقعة على الارض غسلها في ماء الساقية، سمَّر عيونه على تلك الفتيات الصغيرات اللواتي انحنت ظهورهن صوب الارض، انها صلواتهن اليومية، اليوم يقطفن البندورة، اقتربت منه وردة، رحبت به قائلة :

_ أهلا ابو ذر طاب نهارك، لقد هلكتُ من التعب، اردفت قائلة بعد ان جلست جواره .

_ انظر اليه لم يمل من أركليته رغم انه لم يعد قادرا على التخلص من السعال، انظر اليه قد وضع طاقية بيضاء فهذا الشهر شهر الغفران، المسبحة الطويلة في يده، يريد ان يبادلني بفتاة سيتزوجها ايام العيد، ساعدني على الهرب يا ابا ذر، اظنك اعقل الرجال، انا افهمك رغم صمتك الطويل والثقيل، انت لست ممسوس كما يقولون عنك، انت الرجل الطيب الوحيد الذي رأيته، كلماتك قصيرة وصغيرة لكنها ذات معنى .

_ ارفضي الخضوع تمردي حتى لو ضُربتِ بالف سوط، ان قتلك انت فلن يقتل الاخريات ياوردة، من سيجلب له النقود ؟

_ في الليل يصبح قواداً يستقبل بعض الرجال الميسورين ليتسلون بمن يشتهون منا على صوت غناء والدتي التي شاخت مبكراً وتقوس ظهرها، والدتي تحاول اقناعنا بالقبول صارت تحب النقود مثله وتفكر بطريقته، ماعادت تشعر بنا رغم انها انثى مثلنا .

_ لاتهربي تمردي ان مت انت فستحيا الاخريات، اما ان هربت لن يتغير شيء .

_ مارايك اهرب معك ونتزوج يا ابو ذر ؟

_ لا لن اقدر، رحلتي طويلة وحياتي مريرة، لن تذوقي حلاوة الحياة معي، دعيني هائماً في هذه الارض اللعينة، لم ارغب ان ادق وتداً لخيمتي، في كل يوم لي بيت مختلف، مرةً تحت شجرة، ومرةً في مقام وليٍ زاهد، ومرة اخرى في خربة بيت مهجور، هذا عالمي لن تطيقي صبري وفقري وتشردي، لازلت احمل على ظهري صليبي، لم استسلم بعد فانا اسعى الى عالمٍ خالٍ من الظلم والتمييز، لن ارمي رايتي،ثم راح يدندن مواله المحبب الذي يردده دائما حين يصعد مد الحزن في صدره ليخرج من فمه غناءاً اشبه بالبكاء .

ما مرتــــــــاح

عركه ويه الزمن ورجعنه مكسورين

وبعيده المسافه وينـّـسي اللـّي طاح

ما مرتـــــــــــــاح

لأن شفت الشمس نزلت تبوس الكًاع

ما مرتـاح من ربعي ولا مرتاح

كل هذا وتريد أرتاح

ما مرتـــــــــــــــاح

انصتت وردة الى غنائه الحزين، فقد كان صوته جميلاً رغم التعب الذي بدا عليه وهو يجر انفاسه .

لم يعد قادراً على اكمال مواله تحشرج صوته، وغرقت عيناه بالدموع .

_ أهدأ ابو ذر لاتبكي وبعد برهة من الصمت اردفت قائلة :

_ انت لست مجنون ارى في عيونك ذكاءاً حاداً .

بعد ان غسل وجهه بماء الساقية الرقراق البارد، سَحبَ نَفَساً عميقاً ثم اطلق زفيراً ومسح وجهه بطرف دشداشته واجاب :

_ انا حزين ياوردة، انظري الى شجرة التين لقد رحلت عنها البلابل، انا لست مجنوناً بل انا خيط الفجر الابيض في هذه الدنيا المظلمة، انا الصوت الشاذ في هذا الصمت العميق وفي هذا السكون المطبق على الروح، افيق حين ينام الاخرون، وانام حين يهذون بلا معنى ويتحدثون بلا مضمون، وحين يلهون ويعبثون، وابكي واصرخ حين يتقاتلون مثل الديكة او حين يصمتون على الظلم ويصفقون بنفاق منقطع النظير، انه قرف ياوردة، لقد نجوت من سياط الظالمين وهجرت الكاذبين المدعين الذين ارتدوا ثياب ادوارهم برفق و انتقوا كلماتهم بعناية وكذبوا بإتقان لامثيل له، فاختلط الابيض بالاسود، ونام السفان ياوردة وتاهت السفينة وتقاتل الركاب ونسوا وجهتهم، لو لم ينم السفان ماكنت انت هنا ياوردة في هذا الهجير المضني ولا انا، لما جلس ذاك الرجل المتحجر بمسبحته الخضراء بذاك المقعد وهو ينتقص حقكن في الحياة، لقد نسي شعرائنا قصائدهم وانشغلوا بالتهام الطعام فأنتفخت بطونهم وصغرت رؤوسهم، اما عيونهم فغارت كنقط سوداء وراء خدودهم المتضخمة مثل قدور الولائم، فقد نسوا القصيدة وتحولت دوواينهم الى اوراق اللعب، وثملوا حتى الصباح بين هرج ومرج وصياح، لم احتمل الضجيج الفارغ،خرجت ابحث عن عالم ارحب لكني اينما وضعت قدمي ارى مشهد للظلم والألم فيزداد حزن روحي، وحين اعجز عن البوح اصمت، فقد اعياني زمني وماعادت حنجرتي تستحملني وشُلَتْ يداي، اما قدماي فهن الوحيدات بقين يشتغلن في جسدي فرحلت عبر الضياع والبلدات، اسمع حكايا الناس البسطاء فيزداد حزني، هل هذا العالم وجر للذئاب ياوردة ؟!.

_ عودي ياوردة للعمل لماذا تجلسي قرب المهبول ؟ هكذا صرخ الرجل المتحجر في الخيمة .

التمعت حبات البندورة الحمراء وقد انعكس عليها ضوء شمس الظهيرة الساطع وسط الحقل الاخضر الواسع، بدت لعينيه مثل حبات من الجمر وسط منقل كبير ربما اشعلن حطب روحه، خطرت في باله فكرة متمردة اخرى حين راى منقلة النار المشتعلة امام الخيمة، هرول صوبها مثل ثور هائج، فحملها ورماها وسط الخيمة، ولاذ بالفرار فلازالت ساقاه تسابقان الريح في زمنه العاثر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى