أمل الكردفاني - أنطولوجيا الهشاشة..

إن الحد أو التعريف هو أب العلوم..؛ وكلمة أب لا تعني السببية التوليدية كما كان ينظر للفلسفة كأم للعلوم. في الواقع الفلسفة وغيرها من علوم طبيعية وإنسانية مادية أو ميتافيزيقية ليست أكثر من حفريات مستمرة للكشف عن حدود الوجود وموجوداته عبر وضع تعريفات تستند إلى عناصر أو خصائص أو ما يسمى بالعرض. التحليل العلمي للماء أنه H2O هو في الواقع تعريف للماء ، ووصف السلوك المضاد للمجتمع بالجريمة هو في الأساس تعريف للجريمة (من منظور المدرسة الوضعية) ، وهكذا فليست العلوم سوى عمليات مستمرة لوضع تعريفات أيا كانت مصدر ومصداقية فحوى تلك التعريفات فسواء كانت ذات مصدر امبريقي أو حدسي أو حتى عقلي بل وذهاني ؛ فالتعريف هو عمل العلوم ، بل حتى الفنون والآداب هي حركة تعريف دؤوبة لا يستثنى منها تلك المدارس ذات الاتجاه اللا قيمي أو الرافضي كالدادية وغيرها...
وعندما نمارس علاقاتنا فنحن نعرف أنفسنا ونعرف الآخر ونعرف كل شيء .. وعندما تتبول الوحوش لترسم حدود عرينها فهي تضع تعريفاتها الخاصة ببيئتها. وفي أقصى الحالات غموضا لا سبيل إلا لوجود تعريف يمكن أن يرتكز عليه الخيال لفهم ما حوله. إن الغول والعنقاء والبعاتي لهما مكوناتهما المفهومية الخاصة والتي تعكسها القصص الشعبية والفلوكلور وحكاوي الجدات قبل الاستغراق في الحكي. وحتى الآلهة فمهما تعالت وفارقت سواها فلا بد من وضع تعريف لها سلبا أو إيجابا.
إن نشاطنا الانساني هو تعريف الأشياء...مد أيدينا لنشرب الماء يعني أننا قمنا مسبقا بتعريف الكوب والماء واليد والالتقاط والعطش والجسد ولو في حدود شديدة الضحالة والبدائية. ولولا ذلك التعريف المتصل لفقدنا رابطتنا بكل شيء محايثا كان أو مفارقا.
وحيث أن التعريفانيةDefinism
هي فعل تمييزي فهي تورطنا في صلادة مفترضة تنفي التماهي حتى عندما نقول بأن واحد زائد واحد لن تساوي إثنين بل تساوي واحد زائد واحد ؛ ذلك أن تماهي الواحد مع الواحد يعني بذاته واحدا. ولا سبيل إلا بافتراض قضايا تخالف المنطق كأن يتمايز كل من الواحدان عن الآخر وهنا فلا سبيل إلى جمعهما أصلا أو يتماهيان فلا سبيل إلى جمعهما أيضا. وهذه ما أسميت بالمعرفة العقلية... وإذا افترضنا تلك الصلادة لنفينا السببية والعلية معا. فإن فعلنا ذلك لاصطدمنا بما استقر عليه الفلاسفة عدا هيوم حول التسليم بالعلية. غير أن ذلك -حينئذ- سيستدعي منا بحثا أعمق أو ربما سطحيا لفهم العالم. فالعالم لا يحتمل نفي السببية ، وهنا وجب أن نبحث عن بديل أكثر قابلية للفهم ولتبرير ومن ثم لتعريف (الفاعلية الوجودية) ، هنا لا نستطيع إلا أن نضع ما يخالف الصلادة كأصل لتلك الفاعلية ؛ أي الهشاشة. إن العناصر في الواقع لا تحمل قيمتها من الصلادة بل من الهشاشة. ذلك الضعف الذي يسمح بخضوع عنصر لتأثيرات عنصر آخر. ومع ذلك فذات هذا العنصر الهش نجده صلبا أمام عناصر أخرى. فلكل عنصر صلابته وهشاشته ، ولكن لا فائدة من صلابته بقدر فائدته من هشاشته. وحينما نبحث عن دواء لقهر مرض فنحن نعمد إلى النفاذ من خلال هشاشة ذلك المرض. وهذا المرض سواء كان بكتريا أو فيروسات أو غيرها ، إنما يبعث بتأثيره على أجسادنا من خلال هشاشة الجسد لا من صلادته. فالدواء إما أن يعمق هشاشة المرض أو يقوي صلادة الجسد.
تبدو التفاعلات الكونية معتمدة على الهشاشة أكثر من كونها معتمدة على الصلادة. ولكي نفهمها فليس بالضرورة أن نتحدث عن السبب (لماذا why) بل عن الهشاشة (ماذا what). فالمسألة ليست السببية أو العلية ؛ بل المسألة هي وضع تعريف دقيق لحدود الأشياء ؛ لعناصرها الصلدة والهشة ، للشيء ذاته وليس غيره. فلا نهتم بالمؤثر بل بالمتأثر. لا نهتم ب(لماذا) بل نهتم ب(ماذا) أي بالماهية لأن ال (لماذا) تسوقنا نحو ميتافيزيقية السببية وال (ماذا) تبقينا في حدود المعرفة الوضعية. (لماذا) يمكنها أن تحيلنا على لا متناه من ال (لأن) ، أما ماذا فتبقينا في ال (هو). ال (لماذا) تبقينا في شكوكنا وال (ماذا) تعمق موثوقية مدركاتنا. ال (لماذا) تشتتنا ، وال (ماذا) تكثف تركيزنا. ال (لماذا) تبحث خارج المشكلة ، وال (ماذا) داخلها بل وفي عمقها.
إن أنطولوجيا الهشاشة يمكنها أن تمنحنا شيئا من الأمان ، أو أن توجه سيرنا الحثيث نحو الحقيقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى