لينا كيلاني - أصوات في عالم أصم (قصة قصيرة)

لينا كيلاني.jpeg

لم أكن قد ابتعدت كثيراً عن ذلك الفندق الفخم الذي كنت أقيم فيه حتى تذكرت انه يجب علي العودة بسرعة لأمر مهم كنت قد سهوت عنه. عدت أدراجي بسرعة بينما انشغل تفكيري بأمور متضاربة عدة، وكلما تسارعت خطواتي باتجاه ذلك الفندق المتألق وأنا أنظر إليه من بعيد كلما ازداد تشوش أفكاري.. حتى أصبحت في حالة من الاضطراب ظننت معها أنني أبتعد عن هدفي بينما أنا في الحقيقة أقترب منه؟.. يا إلهي هل كنتُ قد قطعت كل تلك المسافة قبل أن أتذكر ما تذكرته!.. ما لهذه الطريق لا تنتهي رغم خطواتي اللاهثة المتسارعة!.. أريد أن أصل الى غرفتي في الفندق. أنظر الى الساعة في معصمي فلا أرى عقاربها.. أهز يدي بعنف وعصبية وكأنني أستدعي الوقت لينبئني بما بقي لدي من دقائق تفصلني عن ذلك الموعد الذي طالما انتظرته.. عجيب أن يختفي مؤشر الزمن!.. إنه الأمر الوحيد الذي لا يمكن أن يهزمه أحد.
حسن.. ها أنا أقف أخيراً على أعتاب فندقي العتيد.. لم يبق إلا أن أتوجه نحو غرفتي في الطوابق العلوية.. لا.. بل يجب علي قبلاً أن أجتاز الحدائق التي تبدو كحدائق ملكية تزدهر بالنظافة والجمال. وحتى أصل المصعد الزجاجي وقبل أن يحملني بمشهد بانورامي الى أعلى لابد أن أقف في بهو الفندق قليلاً لأحصل على بطاقة الكترونية جديدة تفتح باب الغرفة بدل التي أضعتها.
ترى كم تبقى لدي من الوقت قبل أن يحين موعدي؟.. لأنظر في ساعتي من جديد.. ها هي عقاربها تبين وسط الدائرة البيضاء وعلى حوافها أرقام بدت لي كوجوه تحمل تعابير مختلفة تتأرجح في مساحة بين الغضب والابتسام أو الضحك.. وجوه خبيث بعضها وأخرى مسالمة. وقبل أن أستوعب أي من الوجوه يطل على موعدي قفزت أمامي قطة بيضاء صغيرة وكأنها نبعت من الأرض فجأة فأجفلتني حتى كدت أتعثر بها.
وقفت وأنا أضع يدي على قلبي الراجف.. ما هذا اليوم يا ربي؟.. ولكنني أحب القطط.. لم أكرهها في يوم.. إلا أنني خاصمت عالمها عندما عضني ذلك القط الغادر المتوحش.. ولم أعد متحمسة لأي علاقة معها.. ثم إن هذه قطة بيضاء يناقض لونها كثيراً عن الأخرى التي تُفزع بعض المتشائمين المتطيرين.
ولكن ليس هذا وقت مناقشة العلاقة مع القطط أو غيرها.. لأسرع إذن الى غايتي. إلا أنني لم أكد أخطو خطوة جديدة حتى انبثق أمامي كلب بني اللون يلهث، ويسرع وكأنه في مطاردة لتلك القطة الهاربة.. أو هكذا هيئ لي الى أن عادت القطة باتجاهي ومن ورائها الكلب، وهما يسيران في وئام.. لبثت في مكاني أقلّب ناظري بينه وبينها، وأنا أستغرب وجودهما في هذا المكان الراقي النظيف.
القطة كانت بيضاء، ونظيفة أيضاً، ووبرها القصير يلتمع تحت أشعة الشمس.. وفي رقبتها عُقدت شريطة حمراء رهيفة بدت معها وكأنها ستصبح هدية يقدمها أحدهم للآخر. أما الكلب فبدا كما لو أنه مشرد يبحث عن صيد ما.
وفجأة تلتقط أذني صوتاً ما.. عبارات ما.. لم أتبينها.. لم أميز كلماتها.. ولم أسمع بالتالي إيقاعاً مشابهاً لهذا الصوت. تلفتُّ حولي.. بل درت حول نفسي وأنا أستعرض موقعي وأبحث عمن صدرت عنه تلك الكلمات المبهمة.. ولكن ما من أحد بجواري!!.. عادت الكلمات تطرق مسامعي بوضوح وجلاء أكبر.. أجل ها قد التقطتها.. إنها تقصدني أنا.. كلمات بعبارات مختصرة تريدني أن أعرف أمراً ما. مَنْ هنا؟.. مَنْ ذا الذي يتحدث إلي دون أن أراه؟!
ازدادت حيرتي.. واضطربت أفكاري من جديد.. ووقفت كتمثال غامض وأنا أبحث عن مصدر الصوت.. وفجأة وقعت عيني غير مصدقة على القطة البيضاء وهي تنظر إلي بعينين مدركتين تكــــــــاد تكون لبشر لا لحيوان مستأنس.. ولمحت الفم يتحرك وهو ينطق بتلك الكلمات. يا للهول.. حيوان ينطق كما الإنسان!.. بت غير مصدقة لما يجري أمامي.. ورحت أنفض رأسي لأخلع عنه تلك التهيؤات.. لكنها في الواقع لم تكن كذلك بل إنها حقيقة سافرة تقع أمام عيني: القطة تتحدث وتخبر الكلب أنني يجب أن أعرف.. أعرف ماذا؟.. ما الذي تريده مني؟.. وهل يمكن لحيـــوان أن يتحدث كما الإنسان!؟ هذا مما لم يحــــــــــدث عبر الأزمان!! أمر عجيب فعلاً!!!.. ترى هل أصبحت لدي فجأة موهبة سليمان عليه السلام في معرفة لغة الحيوان؟!.. لا.. هذا أيضاً غير ممكن.
كانت القطة تريدني أن أعرف حقيقة أمر ما يخصني أنا وحدي.. وهي تقول: “يجب أن نخبرها.. لابــــــد لها أن تعرف ما حصل”.. والكلب يهز رأسه يمنة ويسرى وكأنه لا يوافق ويعترض على ذلك.
امتدت يدي الراجفة نحو تلك القطة العجيبة أريد أن ألمسها لأتأكد أنني لست في كابوس.. وقبل أن أفعل هربت مني، وتوارت بين نباتات الحديقة والكلب من ورائها.
ما أنت أيتها القطة الشيطانية.. هل تقمصتك روح شريرة.. أم أنك الشر ذاته.. وماذا تريدين مني؟..
لم أعد أتذكر موعدي.. أو أنني نسيته وأنا أخطو بتثاقل نحو بهو الفندق كمن يمشي في نومه.. لا أعرف ماذا أو مَنْ أقصد. وينتشلني صوتها من ذهولي.. إنها أمي التي تبحث عني وتبادرني:
ـ أين كنتِ؟.. لقد ضيعتِ منك فرصة ذلك اللقاء الثمين.. تأخرتِ عن موعدك.. بينما كانوا بانتظارك. لم يعد لديك فرصة أخرى لموعد آخر قريب.
لم أهتم لما قالته، بل خرج صوتي مضطرباً وأنا أقول لها:
ـ أمي.. فسري لي ما الذي جرى معي.. هل تصدقين أنني بت فجأة دون مقدمات أفهم لغة…
وقبل أن أتم جملتي اندفعت نحونا صديقة من الماضي أعرفها ولا أطمئن لها التقيتها هنا، فقاطعتنا بسلام حار يؤكده العناق وتزيد من حرارته القبلات.. ولم تلبث صديقتها الأخرى التي لا أثق بمشاعرها نحوي أن ظهرت أيضاً. قلت وأنا استغرب لهفتهما عليّ:
ـ ألم نكن معاً قبل ساعات.. لماذا تبادراني بكل هذا اللقاء الحار وكأن سنوات كانت تفصل بيننا؟
ضحكت الأولى، وقالت:
ـ هذا لأن اليوم هو عيد ميلادك.
وأضافت الثانية:
ـ عيد سعيد نرجوه لك.. والأماني تتألق كأزهار الربيع.. لعل هديتنا إليك في يوم ميلادك تنال رضاك.
قلت بتوتر بادٍ:
ـ ومن أخبركما أن اليوم هو عيدي؟
نظرت كل منهما الى الأخرى باستغراب فأضفت بعصبية وفجاجة غير مألوفة لدي:
ـ أي هدية هذه.. أنا لم أتلق منكما أي هدية.. بل إنكما تبدوان لي مثل تلك الساحرة التي أهدت الى أميرة الجمال النائم غرسة دبوس في إصبع جعلتها تغرق في نوم هو أشبه بالموت.
امتقعت الوجوه.. وسرت موجة من النفور بيننا.. وأسرعت أمي لتسحبني من يدي مبتعدة بي وهي تعنفني:
ـ ما هذا الذي قلته؟ إنهما تتوددان إليك.. ولعل هديتهما قد سبقتك الى غرفتك.
سحبت يدي منها وأنا أقول:
ـ لا أريد هدايا.. ولا أمنيات.. أريد أن أعرف ما الذي يجري من حولي؟!
مشيت باتجاه المصعد غير عابئة بشيء.. وأصوات من كل اتجاه تتناهى الى سمعي.. يا إلهي أنا أسمع كل الأصوات.. هل أصبحت عتبة السمع عندي أعلى من المألوف عند البشر.. ما من نأمة أو همسة إلا وأذني تلتقطها.. إنني أسمع.. وأسمع.. وبوضوح كل ضجيج العالم من حولي.. وكل ما يقال وتنطق به الشفاه. رباه.. ما هذا أكاد أجن. ها هو صوت أمي تتحدث اليهما:
ـ عــــــــذراً لتصرف ابنتي معكما.. لعلها المفاجأة فقط.. والهدية التي تحدثتما عنها ربما لم تستلمها بعد.
ـ لا بل إنها معها.
ترد أمي باستغراب:
ـ تقصدين أنها قد تلقت هديتكما.. لماذا إذن أبدت استغرابها.. أو أن الهدية لم تعجبها؟
تضيف الأخرى:
ـ إنها هدية ليست كأي من هدايا أعياد الميلاد..
وأشحذ اهتمامي باتجاه حديث أمي مع المرأتين، وإحداهما تقول:
ـ لقد زرعنا لها في أذنها جهازاً إلكترونياً صغيراً يلتقط الى مساحة السمع كل ما يدور حول صاحبه من أصوات مهما كانت بعيدة أو هامسة.. أليست هذه هدية رائعة؟
عادت القطة اللعينة تطاردني وكأنني غدوت فريسة لها فكان من الضروري الآن أن أمسك بها ولكن لأتأكد بعد أن وقعت يدي على ملمس وبرها الخشن أنها ليست مخلوق من لحم ودم.. إنها دمية ناطقة لا أكثر.. نعم دمية. ولكن من أين لهذه الدمية متطورة الصنع أن تتعرف إليّ، وأن توجه لي تلك الكلمات الغامضة.. بل كيف تفاهمت مع ذلك الكلب.. أم أنه هو الآخر ليس كلباً حقيقياً؟
كابوس عجيب أصبح يلفني وأنا أغرق في بحار من السؤال والدهشة: لماذا هذه الهدية؟ وما فائدة أن أسمع أكثر مما ينبغي للمخلوق أن يسمع؟ وكيف زرع ذلك الجهاز في أذني؟ بل متى كان ذلك؟ هل ما أزال في مساحة الوعي أم غياب الوعي؟
أسئلة كثيرة.. وضجيج أكثر يخترق حساسية أذني وكأن مفرداته سهام حادة تثقب الأذن بكل ما هو ممنوع أن يسمع أو أن يعرف إلا من قبل أصحابه.
وتقول أمي وصوتها يختنق بالدموع:
ـ لماذا فعلتما هذا الأمر الفظيع.. لا شك أنكما ستدفعان بها الى الجنون.. كيف لها أن تسمع كل شيء دون أن تصاب بالمس؟
أجل هذه كانت هدية عيد ميلادي وأنا أتم عامي الأربعين.. عيد للنضج والدراية وإدراك الأشــــياء.. والآن فقط أتذكر مساحة من الزمن شعرت أنني فقدتها عندما كنت بين هاتين الصديقتين بعد أن شربت ذلك الشراب حلو المذاق كالعسل الذي قدمته إحداهما لي.. أتذكر كيف شعرت فجأة بغربة وأنا بينهما.. أو كأن نفسي قد غابت عني لبرهة ثم عادت ليفاجئني المشهد أمامي كشريط قام الرقيب بقص جزء بسيط منه ثم عاد ليستمر في عرضه. إنها إذن الثواني المفقودة، والتي فقدت معها بالتالي سلامي مع العالم بعد أن غرس طبيب ماهر ماكر جهاز استقبال متناه في الصغر، ومتطور جداً في أعماق سمعي.
إنها لعبتي الآن.. سأسمع.. وسأسمع أكثر.. وسأحول هزيمتي الى انتصار.. وسأعيد.. وأردد.. وأذيع.. ما أسمعه.. بل كل ما أسمعه وما ستنطق به الشفاه من حولي من أسرار هذا العالم الذي يموج بالأسرار، وبالمؤامرات التي تحاك في الغرف المغلقة والمظلمة.. ولا يهم أن يتهمني الآخرون بالجنون.
أخذت أبتعد عن المكان.. أو أن قدمي أخذتا تقوداني بعيداً.. ثم أبعد وأبعد.. حتى لم أعد أرى الفندق.. ودخلت في حارات وأزقة لم أعرفها في يوم.. وأنا أسمع ما يقوله كل مَنْ مررت بهم أو هم تجاوزوني في زقاق ضيق ولم ينتبهوا الى وجودي بينهم. وأخذت عيناي تتحول باتجاه مصدر كل صوت يتناهى الى سمعي حتى أصبحت كبوصلة فقدت ميزانها وهي تتحرك تارة الى اليمين وأخرى الى الشمال، بل الى الوراء أو الأمام.. اختلطت الاتجاهات وضاعت العلامات.. ولم أعد أميز هل كنت أذهب في طريق أم أعود منها.. وأنا أرى الناس في المكان، وأسمع هذا يتحدث الى ذلك.. وآخر يفشي سراً الى شيخ انحنى ظهره وكأنه يحمل ثقل سنين عمره فوق جسده النحيل.. وتلك التي تبث هموم الفقر الى صبية في عمر الورود.. وذاك الصبي الذي يغري رفيقه بلفافة تبغ مغشوشة.. وغيرهم كثيرون ممن ينوؤون بهموم الحياة وقهر الأقدار.
وأسمع من بعيد همس كدوي النحل.. همس مبهم.. وغير مفهوم.. ولكنه يشي بسوء ما.. ويدفعني فضول مجهول لأن أسير باتجاه تلك الهمسات المريبة. فأنصت وأنا أسمع.. وتزداد الأصوات وضوحاً كلما اقتربت من اتجاه مجهول ومكان لا أعرف ما هو.. وكأنني نسيت أزمتي.. أو أنني بت أستعذب سماع ما يدور خلف الأبواب المغلقة ووراء الأستار.
وأتقـــدم أكثر فأكثر من مصدر الأصوات تلك وهي تبوح بمؤامرات يحيكونها لكل الأخيار والأطهار من البشر.. وعند انجلاء السمع بشكل كامل، وبعد مسير طويل وقفت مدهوشة أمام قلعة حصينة سمعت عنها من أهل البلدة ولم أرها. إنه المكان الغريب إذن الذي تحاك فيه الشرور ولا يُرى منها سوى آثارها.
ياه.. هل هو القدر.. أم سخريته التي قادتني الى هذا المكان المغلف بالغموض والأسرار، والذي لم يجرؤ أحد على اقتحامه في يوم أو حتى الاقتراب منه. ولكني لست كأي أحد من هؤلاء الذين يقع عليهم الظلم في كل يوم ولو أنني يمكن أن أكون منهم.. لأطلق العنان إذن لصوتي.. وأدعه يبوح بكل ما سمعت.. أجل.. لعل ما جرى لي يتحول الى نعمة بدل أن يكون نقمة فأذيع ما سمعت عن أمور فظيعة حدثت، وأخرى ستحدث.. ولم لا؟ ألن يكون صوتي جرس إنذار، أو ناقوس تحذير لما جرى ويجري؟ أنظر من حولي فلا أرى أحداً.. أمر عادي ألا يكون في الجوار من أحد في هذا المكان المنعزل الكئيب. ولكني أريد أن أخبر هؤلاء التعساء من الأهالي بما أصبحت أعرفه من هول يتربص بهم.
وأعود لأركض وأركض باتجاه ساحة البلدة، وأتلهف كيما أقف وسط جموع الناس هناك وأحدّث بكل ما عرفت.
ها قد وصلت.. وها هم الناس يحتشدون وسط الساحة.. إنها فرصتي الآن.. ها هو صوتي يرتفع وأنا أفشي الأسرار وما يدور وراء الأستار.. ولكن ما من أحد يعيرني اهتماماً وكأن الناس لا يسمعون صوتي.. أنادي بصوت عالٍ.. ولا أحد يسمع.. أصرخ.. وما من مهتم أو مستمع.. وأبكي.. وأسأل نفسي: “هل هي أقدارهم التي ختمت على أسماعهم لأنهم سائرون إليها لا محالة؟”
وتصيبني الخيبة.. وأعود مع حيرتي الى الفندق، وأنا لا أشعر بالعالم الذي يغلف وجودي.. وأدلف الى غرفتي في الطوابق العليا.. أغلق الباب جيداً، وأستلقي في السرير وأنا أردد لنفسي: “يبدو أن هذه الحقيقة ستظل معي أنا وحدي.. ستظل معي أنا فقط”.
واستسلم لنوم عميق يحجزني عن كل الأصوات.


القاهرة
12/1/2007

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى