أمل الكردفاني - الحزن بلغة أجنبية.. قصة قصيرة

قبل كل شيء:
لا يوجد حزن في هذه القصة.. وكل المسألة أنني قررت أن أجذب المكتئبين اكتئابا مزمنا لقراءة هذه القصة ، وكذلك الذين كلما رأيت وجوههم أحسست أنهم يسحقون بأضراسهم كتل الملح ولديهم صداع نصفي.. أو إمساك ناتج عن سوء هضم الواقع.
والغرض من جذب هؤلاء غرض إنساني نبيل جدا وذلك حتى يفهموا الحكمة من القصة والتي غالبا ما يعمد الكتاب لجعلها غامضة ومحيرة حتى يشعر الناس بقيمة ما يدونونه من تفاهات. وعموما فالناس بالفعل يصدقون هذه الإيهامات ويرغبون في تصديقها. وعلى أي حال فحكمتنا من هذه القصة بسيطة جدا وهي أنه -ووفقا لما حدث لبطل هذه القصة- فعلى ماضغي الملح هؤلاء أن يعرفوا أن واقعنا البشري لا يتحمل مزيدا من التجهم لأنه متجهم بالفعل كوجه صنم هندي. ورغم أن هذه ليست حكمة في الواقع بل ربما تكون نصيحة فمن الأفضل أن ننعطف مباشرة إلى الشابة الطويلة والنحيلة التي تدعى حد الريد ، وحد الريد يعني منتهى الحب (لا يهم إن كان له معنى آخر) ؛ مع ذلك فحد الريد لم تقابل حبا ما في حياتها بل ولا حتى نظرة شفوقة من أمها ناهيكم عن مغازلة من ذكر يصغرها أو يكبرها. كانت طويلة جدا ؛ أطول من جملة لكاتب يظن نفسه أديبا. وهذا الطول كان يجعل جميع الذكور ينأون بأنفسهم عن السير إلى جانبها ، المرحومة جدتها كانت تسألها عن مورثها لهذا الطول وكأنها خلقت نفسها. لم تكن تسألها كنوع من الفضول وإنما لتؤزمها نفسيا ، والحق يقال لقد وجدت كثيرا من الناس -بل حتى الآباء والأمهات- يعمدون إلى استفزاز أبنائهم لتأزميهم نفسيا. لم أعرف السر في تحطيم ثقة أحد من أسرتك بكل تلك القسوة مهما حاولت تخيل السبب. أن يمقت أب ابنه أو أم ابنتها أو جد لحفيده على هذا النحو المرضي. ولن استرسل في مرض جدة حد الريد وقسوتها عليها بتذكيرها بطولها وكأنها مصابة بالجزام. لن أسترسل لأنني أوضحت منذ البداية أنه لا توجد أحزان في هذه القصة. تربت حد الريد مع جدتها لأن والدها تزوج وأمها تزوجت ويمكنكم فهم باقي الشرح بحسب نباهتكم. لقد تربت تحت ضغط الاستفزاز .. الاستفزاز المستمر ، التسفيه والتصغير والإشعار بالنقص ، جدتها لم تكن تسهو لدقائق إلا لتتعمق في خطاب استفزازي شديد توجهه لحد الريد. بل ولم تكن هذه المسكينة لتهنأ ببضع دقائق من الراحة إلا وأمرتها الجدة بعمل شيء ما أو في الحالات التي ينعدم فيها العمل تعمد إلى إرسالها لمنزل خالتها حتى لا ترى وجهها القبيح.
وحتى لا نسترسل في الحزن فلندخل مباشرة في علاقتها مع خالتها هذي ؛ فهذه العلاقة انتهت على نحو مفجع ؛ لقد سرقت خالتها نصيبها من أرباح بيع الكسرة. ثم قامت بعمل تضريبات غريبة وغير منطقية بل ولا تمت لعلم الرياضيات ولا حتى أي علم آخر بصلة. أصرت حد الريد على أن حسابات خالتها غير صحيحة فطردتها الخالة شر طردة. وعادت إلى جدتها التي أكدت لحد الريد أن حسابات خالتها صحيحة. ولمزيد من التأكيد فقد جمعت كل جاراتها وصاحب الدكان وبائع اللبن والطعمية ومؤذن الزاوية الذين أجمعوا بدورهم على صحة حسابات الخالة ، وهكذا عادت حد الريد إلى خالتها وقد اقتنعت -إلى حد ما بأنها مخطئة- وكان عليها أن تبدي فروض الولاء والطاعة حتى تسمح لها خالتها بالمبيت عندها ليلة واحدة...
لكن لماذا لا ننتقل لتلك الصدفة السعيدة التي جمعت حد الريد بأحد الشبان اللطفاء ؛ كان طويل القامة ربما أقل بقليل من طول حد الريد ، وكان رياضيا حاول كثيرا تعلم كرة السلة لكن المدربين أكدوا له أن خطواته غير متوازنة ؛ حاول مجادلتهم بأنها متوازنة لكنهم أكدوا له أنه حين يجري بالكرة يشعرون بأنه سيسقط في أي لحظة ؛ وأن شعورهم هذا تحول لفوبيا بل هلع مستمر أثناء المباريات وخاصة في الدقائق الأخيرة. لذلك نصحوه أن يتجه للتمثيل. لكنه كان أقل رغبة في العمل بألف وجه. في الواقع كان أقل ذكاء من أن يكون ممثلا.. بل كان تماما كوحيد القرن...إتجاه واحد. ولا أعرف لماذا تنحرف بنا القصة إلى الحزن كلما استدعينا لحظة من الفرح ؛ غير أن هذا لن يستمر طويلا فقد التقى الشاب (نوري) بحد الريد...لقد كان لقاء غريبا جدا ؛ فنوري المحمل بشعوره بالخزي من عدم الاعتراف به كرياضي بل وطرده من الفريق بسبب اضطراب حركات ساقية قرر أن يستسلم لليأس ؛ بل قرر أن ينتقم من ماضيه كله الذي أضاعه في الجري لمسافات طويلة بلغت آلاف الكيلومترات لو سارتها سيارة لما قبل أحد بشرائها. قرر ذلك اليوم أن يستقل عربة النقل... ذلك اليوم تحديدا الذي تغير قدره تماما حينما بصق ما بفمه من صعوت عبر نافذته فتطاير ما بصقه ليلتصق بوجه حد الريد التي تجلس خلفه. رغم طول حد الريد ورغم قبح وجهها لكنها كانت شديدة التقرف ؛ حتى أنها نادرا ما كانت تطالع ساقيها النحيلتين لكي لا تتقيأ. فما بالكم وبصقة كاملة تتطاير وتلتصق بوجهها النحيل. لقد جن جنونها فهاجت وماجت ثم وقفت لتشتم الشاب الذي وقف بدوره لينفس عن غضبه من فشله في الحياة فتبادل الإثنان السباب واضطر سائق الناقلة للانحراف بها إلى قسم الشرطة حيث سجل المتعاركان بلاغات في بعضهما البعض وتم وضع كل منهما في الحراسة ؛ هذه في الحراسة المخصصة للنساء وذاك في المخصصة للرجال ؛ وتم تعيين يوم محدد لجلسة النظر في القضية.
قبل يوم الجلسة تم ترحيل حد الريد لفحص الحمل ؛ فكل أنثى يجب التأكد من عدم حملها حتى تتجنب الشرطة مشاكل هي في غنى عنها. وعلى نحو ما كانت حد الريد خائفة من أن تظهر النتائج إيجابية. لقد وقف نوري وحد الريد أمام القاضي ليحكم بينهما ؛ وقد شعرت حد الريد بأن القاضي يميل لتجريمها رغم أن هذا القاضي اشتهر بتبرئة الفتيات الجميلات كما أخبرتها نزيلة زاملتها في الحراسة. في النهاية وجد القاضي أن من الأفضل غلق القضية حين أمر حد الريد بأن تقبل جبين الشاب نوري كاعتذار صادق منها. وبالفعل -ورغم اعتراض نوري الشديد- إلا أن حد الريد رأت أن استمرار القضية لن يكون في مصلحتها ؛ ليس فقط بسبب كره القاضي غير المبرر لها بل لأن جدتها ستستخدم ما حدث كوسيلة استفزازية أخرى. وهكذا تقدمت حد الريد من نوري وأمسكت جمجمته بكفيها الكبيرين ثم حنت رأسها لتقبله في جبهته غير أن نوري رفع رأسه معترضا فجاءت القبلة في شفتيه... وهنا حدت التماس الكهربائي بينهما...تراجعت حد الريد والصدمة تكمش تجاعيد وجهها.. واتسعت عينا نوري فزعا... فما كان من القاضي إلا أن ثار غاضبا معتبرا أن نوري تعمد القيام بهذا الفعل الفاحش الفاضح في محراب القضاء فأمر بجلده خمسين جلدة وأمر بجلد حد الريد ستين جلدة -دون أن يبين سبب جلده لها.
حتى الشرطي الذي نفذ الجلد كان متساهلا مع نوري لكنه أبرح حد الريد جلدا فأخذت هذه الأخيرة تبكي وتصرخ والمخاط يسيل من أنفها مما جعل نوري يطلب من الشرطي أن يضربه ما تبقى من نصيب حد الريد ؛ وحد الريد التي كانت كرامتها مجروحة صمتت وانتظرت رأي الشرطي الذي رفض طلب نوري وأمرها أن تعطيه مؤخرتها لإكمال عمله. وحين تعب الشرطي من صراخ حد الريد وبكائها وحركاتها الجافلة من ضربات السوط قال وهو يحسب عدد الجلدات:
إثنان وثلاثون ، تسعة وخمسون ، ستون.
ثم تركها لتغادر. وكما اقتنعت حد الريد بحسابات خالتها الخاطئة اقتنعت أيضا بحسابات الشرطي. وغادرت المحكمة وهي تبكي وأحينا تضرط بسبب آلام الجلد على مؤخرتها.
لحقها نوري واعتذر لها فاكتفت بهز رأسها قبولا وهي تبكي ، ثم سارا صامتين نحو منزل جدتها هذه الأخيرة التي ما أن رأت حد الريد بصحبة شاب حتى بدأت في سن سكاكين لسانها لها وسخرت من كونها قد وجدت عاهة مثلها ليقبل السير قربها ، اللهم إلا إن كان أعمى ، وبسبب هذا شعر نوري بالنفور من حد الريد رغم القبلة الطائشة وبادر بالفرار منذ تلك الساعة فلم تره مرة أخرى.
تبدو القصة محزنة من شدة رتابتها وليس للتراجيديا العالقة فيها والضرورية لخلق أزمة إنسانية من العدم ؛ فلا توجد أقاصيص وحكايات بلا أزمات ولكن النهايات غالبا ما تكون سعيدة كما في المسرحيات اليونانية أو الحكايا الشعبية أو الكلاسيكية أو كئيبة كنتاج للحداثة أو مفتوحة كنتاج أيضا للحداثة وما بعدها أو نتاج لاضطراب المسلمات السابقة أو نتاج لعجز المؤلف.. لكن هذه الرتابة لن تستمر...أعدكم بذلك...
فالنقطة المفصلية حدثت في لحظة شعور حد الريد بفقدانها أي أمل للشعور بالحياة الكاملة. لقد توجهت حد الريد نحو الجسر مباشرة .. وقفت على حافته وألقت نظرة على لون النهر البني...كانت أمواجه المتسخة تمور في بعضها .. وأدركت أنها كافية جدا لتحول بينها وبين التراجع فقفزت مطلقة صرخة السخط من القدر.
لا تعتقدوا بأن هذه نهاية كلاسيكية وساذجة ؛ فهي أولا ليست النهاية وهي ثانيا ليست كلاسيكية إن أعظم الروايات لهيرمان هيسه والطيب صالح وغيرهما انتهت بذات النهاية ولم يتجرأ أحد على اعتبارها نهايات كلاسيكية أو ساذجة. وبما أنه لا يوجد نص بل جملة في هذا العالم محصنة ضد التهميش فإن العديد من النقاد يعملون على استغلال ذلك اسوأ استغلال ؛ ففي الوقت الذي يتجرأ فيه أحدهم على وصم رواية ل(أوي) أو تابوكي بالهشاشة فإنه يستطيع اجتذاب قلب مراهقة بتحويل خواطرها الملتاعة إلى أعظم عمل أدبي في العالم...إنه يبتدر نقده بجملة مفخمة ومعهودة حين يقول:(إن تفكيك بنية نص الأديبة ينفتح على هيرمونطيقية انحلال الذات في الموضوع ) فتتحول الخواطر إلى بنية ؛ بل بنية عميقة ليس هذا فحسب بل أن تفكيكها أصعب من خلق السموات والأرض في ستة أيام.
امنحوا هذا النص ذات الفرصة وتابعوا ألم القراءة.
***
لا أحد يتذكر لحظة خروجه من حيث يهتك العرض أو يصان. ولا أحد كتلك الصبية امتلك تلك الساقين النحيلتين الطويلتين ، الساقان اللتان فرضتا على القابلة أن تعض لسانها حين بذلت ما في وسعها لإخراجهما في تلك اللحظة الحاسمة. الصبية لا تتذكر كل ذلك بل ولا تتذكر وجه القابلة وغير متأكدة البتة مما حكته جدتها لها بأنها لم تصرخ كبقية البشر عندما تنفست أول نسمة للوجود. كان ذلك بحسب جدتها في سنة غريبة جدا ؛ أسموها عام التمساح الخشبي. لم يعرف أهل الصبية التاريخ المسترسل أبدا ، بل كانوا يؤرخون بالأحداث المنافية للمنطق أو العظيمة ؛ كاليوم الذي شاهدوا فيه سفينة ضخمة تعبر نهر النيل وعليها رجال بيض زرق العيون ويرتدون طرابيش حمراء ، قالوا بأنهم جاءوا ليتعقبوا منابع نهر النيل. أخبرتها جدتها بأنهم عاشوا مئات السنين دون أن يفكروا في معرفة منبع النيل ، لأنهم كانوا يعلمون أنه ينبع من سرة إله الشمس...لقد أدركوا فشل الحملة منذ البداية لذلك فقد قبلوا هدايا البيض وتركوهم لإكمال مهمة لن تكتمل أبدا. (في ذلك العام خرجت ساقاك الطويلتان بعد جهد شاق من القابلة)... قالت الجدة ذلك وهي ترمق الصبية بنظرة مرتابة زرعت الحزن والخوف داخلها. ثم صمتت الجدة ، وغادرتها الصبية لتلعب تحت شجرة النخل الباسقة ، وكلما مدت راحتها الصغيرة لتغمرها في التراب انتفض قلبها وذاكرتها تستدعي نظرة جدتها المرتابة...نظرت الصبية لساقيها...كانتا طويلتين على نحو ملحوظ.. ونحيلتين أيضا... الصبية لم تفهم نظرة الجدة إلا باعتبار أن ساقيها خطأ لا يغتفر...وقررت إصلاح الخطأ.. سارت ببطء حتى بلغت مشارف الحقل الجاف حيث يجمع جدها المحاريث والفؤوس... حملت فأسا وبدأت في تكسير عظام ساقيها .. كانت تتألم ولكن إصلاح الأخطاء لابد أن يكون له ثمن...
شبان القرية حملوها والفزع يقطع قلوبهم ؛ جروا بها إلى منزل جدها ... الجدة رأت حفيدتها بلا سيقان والدماء تغطي ثوبها .. غير أنها لم تجزع.. نظرت نحو الشباب ونظرت نحو الصبية... وطلبت من عبدتها أن تغلي زيتا لوقف النزيف...
بكى الشباب من هول المشهد ، قال أحدهم والهدج يعرقل صوته بأنه رآها تحطم ساقيها قبل أن تفقد وعيها وأن هذا المشهد لن ينتزعه من ذاكرته إلا الموت.
وبعد سنوات كان كل من يسأل عن تاريخ ميلاده يخبرونه بأنه ولد في العام الذي حطمت فيه حد الريد ساقيها...
حد الريد لم تمت بعد تلك الحادثة بل عاشت دهرا مديدا بلا ساقين...ولم تشعر أبدا بالحزن حتى عندما شارفت على السبعين من عمرها... على العكس.. لقد كانت مؤمنة تمام الإيمان بأنها فعلت ما كان يجب عليها بالفعل أن تفعله...لم تهتم بكونه فعلا صائبا أم لا...لكنه ضروري في كل الأحوال...
يمكنني القول أن القصة تتداعى بشكل طيب..رغم أن التداعي كلمة سلبية باعتبار أن الأقاصيص والأساطير والحكايا تنمو لأعلى ولا تتداعى ؛ لكن لا بأس ؛ ففي النهاية حتى جذور الأشجار تموت تحت الأرض.

***

أظهر موسى الحزن حين اعترضت مريم ومعها هرون على علاقته بالكوشية...هكذا قالت التوراة ، والتوراة قبل ذلك قالت بأن نوحا دعا على أحفاد حام ليظلوا عبيدا لأحفاد سام وهكذا لعبت التوراة دورا سياسيا في تكريس العنصرية ضد السود. ولهذا أيضا اعترضت أخت موسى وأخوه على زواجه من كوشية .. فصاح بأنه سيصعد إلى جبل مواب ليموت هناك..مع ذلك فموسى لم يفعل ذلك.. لقد تسلق الجبل ثم هبط من الجانب الآخر حيث التقى بحبيبته الكوشية وهاجرا نحو الجبل المقدس أو جبل البركل ؛ حيث دفن بعد موته. وإذا كان كل قصة تحمل وجهها السياسي ؛ فلا مانع من القول أن الكوشية كانت تتمتع بقوام إفريقي ممشوق كحربة صيادي الوحوش. الكوشية نالت حظوة لدى موسى لأنها امتكلت ساقين طويلتين..طويلتين بحيث أكدتا أنها من سلالة ملكية ، ففي ذلك الزمان كانت الأمراض والأوبئة وسوء التغذية تؤدي في مجموعها إلى هزال البنية وقصر العمر. ولذلك فمن ينال ذلك القوام الممشوق سوى من عاش محصنا برغد العيش وطلاوة التجربة. لقد انتشرت تعاليم موسى على نحو واسع في كوش حتى أن هناك من ملوكها من حرك جيوشه دفاعا عن أنبياء أورشليم. غير أن هذا لم يحدث دفعة واحدة بل ككل الآيدولوجيات (غيبية كانت أو مادية) ؛ كان لابد لها من أن تعاني من الاحتقان وهي تهدد حراس معبد أمون...مات موسى وقادت الكوشية ذات السيقان رحلة الكفاح من أجل الحفاظ على تعاليمه ؛ وهي رحلة كفاح حقيقية لأن كهنة الآلهة الوثنية لم يقبلوا أبدا بسلبهم لمزاياهم الزمنية والروحية.
كانت ضفاف النيل في ذلك الزمان أكثر حنوا منها اليوم ، كانت هادئة جدا ، تمد خضرتها إلى أقصى ما تتحمله خصوبتها من القدرة. ومن التواءات النهر الأفعوانية استنبط الكوشيون شكل الآله. ومن ذلك أيضا نحتوا الأفاعي المقدسة على تيجان الملوك وعلى جبانات العظماء ، وعلى المسلات والمعابد. لقد كان ذلك مبعث أول صدام بين الكوشية ذات السيقان وكهنة المعابد. فالأفعى في تعاليم موسى هي الشيطان الذي أغوى آدم وحواء ليأكلا من الشجرة ، ثم ليهبطا إثر ذلك إلى عالم الفساد. لم تقبل الكوشية ذات السيقان بقاء الأفعى رمزا لكوش ؛ ولم يقبل الكهنة سلب أفعاهم القداسة المنزهة. وهكذا حشد الطرفان حشودهما ، كان لكل منهما عقيدته ، ولذلك كانت تلك الحرب أول انقسام لشعب كوش العظيم...
الكوشية ذات السيقان أمرت أنصارها بجمع التقدمات ؛ وذبحت ما ذبحت من قرابين استتئزارا بمجد رب الجنود. أما الكهنة فقدموا فتاة عذراء قربانا للآلهة ؛ حملوها مكبلة وألقوها في النهر المقدس استنصارا بقوة الآلهة. والكهنة لا يقدمون قربانا بهذه العظمة إلا لأمر فيه من الخطر والجلل ما فيه...غاصت العذراء في أعماق النيل ؛ وجسدها يهتف طالبا مزيدا من الحياة..تلك هي الحالة الوحيدة التي لا يمكن للإنسان فيها طلب النجاة من الآلهة التي يقدم قربانا لها. ما كان أمام العذراء إلا أن تدعوا إله الكوشية ذات السيقان ، ففي كل حرب يتسع هامش الحركة لمن لا ينتمون لأحد الخصوم. كانت عينا العذراء لا ترى سوى لون النيل المشوب بكلاحة الموت.. وكان هناك إله يقف على الضفة الأخرى يعلن موت الإله على الضفة المقابلة. وحين يئست العذراء من النجاة واستسلمت لوداع الشمس ، وجدت نفسها تطفوا ووجها يقتحم السماء...لقد نجت بدعائها .. أدركت حينئذ أنها لجأت للإله الحق.
الكوشية ذات السيقان قادت جيشها ضد الكهنة بنفسها ، غير أن غالبية شعب كوش كانت لا تزال تكتنز حنينها للماضي ، لذلك تقهقرت جيوش ذات السيقان ، صاحت جيوش الكهنة محتفلة بمؤازرة آلهتها لها ، وتسرب الشك إلى جيوش ذات السيقان. كان النهر يجرف الجثث بتياره نحو شاطئ ذات السيقان ، فيزداد قنوط الجند من نصر الإله. لم تجزع ذات السيقان أبدا فقد أعدت لاحتمال الهزيمة كما أعدت لاحتمال النصر. وعلى حين غرة أمرت برفع العذراء على أكتاف الجند ... وقفت العذراء فوق الأكتاف ولوحت بيديها ، وصاحت: أنقذني إله ذات السيقان. فاضطرب جند الكهنة ، حين داخلهم الشك في آلهتهم... وانقلب الأمر عليهم .. فاندحروا شر اندحار.
لم تغمد ذات السيقان سيفها ولم ترخ مقاليعها حتى سفكت دماء الكهنة عن بكرة أبيهم وغنمت كنوزهم وعبيدهم وإماءهم ، ثم حدائقهم ومواشيهم وصلبت أجسادهم فوق السماء...ثم اصطفت العذراء إلى مجلس خاص أخبرتها فيه بأنها توقعت ما فعله الكهنة فهيئت من ينقذها. حينها سألتها العذراء مندهشة: ألم ينقذني إلهك يا ذات السيقان. أجابتها بنظرة صامتة باسمة وساخرة في نفس الوقت...
(إن كل صراع في هذا العالم يتخفى وراء أقنعة من المفاهيم المجردة...)
قالت ذات السيقان ذلك ثم غادرت تاركة العذراء في حيرة والتباس كبير. لقد مات الآلاف من الجند من أجل تلك المفاهيم المجردة.
يقول المتفلسفة من أهل الفن أن الفن يترك ولا ينجز...أي أن العمل الفني لا يبلغ منتهاه أبدا...إنه يترك وحسب.. والفنان يشعر حينها بأنه غير قادر على إضافة شيء أو أنه خائف من إضافة نقطة صغيرة لهذا العمل.. إنه يتردد كثيرا قبل أن يعلن موته لحظة ميلاد فنه... ربما؟!

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى