رحاب إبراهيم - أغنية للقلب - قراءة في رواية جليلة لحمود الشايجي

وهل هناك ما يطرب القلب مثل حب الوطن ؟
هذه رواية تستمد روحها من محبة عميقة للتراث والتاريخ , من خلال أحداث متشابكة وشخصيات عديدة , تجاوزت العشرين شخصية أساسية بالإضافة للشخصيات الثانوية , في بناء روائي مقسّم إلى سبعة فصول تتفاوت من حيث الطول : جليلة , حسينة , صالحة , الحنة , الحبوش , المقام , جليلة.
-----------------​
" تذكري الإيقاع من هنى مو من أذنج , أذنج دايما راح تخدعج بس صدرج عمره ما راح يخدع"
جليلة ...الطفلة التي تجيد الرقص مثل العارفين, هي الأجمل بين كل البنات , لا يعرف القاريء كيف ولا من أين أتت , و لم تعش سوى خمس سنوات , لكن بها تبدأ الرواية وبها تنتهي ..رغم أن الحكي يمتد لسنوات طويلة قبل العثور عليها وبعد موتها , إذ تبدأ في ليلة 19 يونيو 1961 , ثم تمتد الأحداث قبلها وبعدها من عام 1871 وحتى عام 1986.
لماذا تحمل الرواية اسمها بالذات وهي ليست محركا رئيسيا في الأحداث , بل مجرد لمحة خاطفة فيها ..عاشت جليلة خمس سنوات من 1943 وحتى 1948
وقتلت في العام الذي يُكنّ له العرب الكثير من الشعور بالأسى .
لكن دون إشارة صريحة لحرب فلسطين , فقط صراعات بين أبناء البيت الواحد , وطلقة طائشة.
------------------​
" السر هو ما تراه بقلبك ولا تراه بعينك .
أعطيتك إياه , لكن السر لا تراه ولا تحسه, إنه يتخللك من الداخل , لا تستعجله . "
في عام 1871 يتم اختطاف " حسينة " الفتاة الحبشية,وبيعها للشيخ مراد وزوجته الست شاهة , لتبدأ الأحداث .
حسينة التي بدت وكأنها تساق إلى قدر لا تجهله ولا تخشاه
" ب ( كل أمر الله خير) ودّعت حسينة كل واحد من أهل البيت إلى عمله الذي عليه أن يقوم به , سكنت صدورهم بهذه الكلمات, شعروا بأنهم إلى أمر جلل سائرون , لكن إلى حق يجب أن يتحقق "
تتطور الشخصيات خلال الحكاية صعودا حتى تبلغ قمة مجدها ثم تبدأ في الانطفاء .
تدور الأحداث حافلة ما بين عدن ونجد وأرض الحجازوجزيرة فيلكا, فيها صراعات على المال والسلطة , حيل النساء وطقوسهن , ومعارك الرجال الواضحة والمستترة ...حكايات الفن وعشق الأغاني التراثية التي شكلت جزءا أصيلا من الوعي قبل أن تنقلب عليه الجماعات المتأسلمة وترهبه.
تموت حسينة أيضا في نفس العام الذي قتلت فيه جليلة , وهو العام نفسه الذي يتزوج فيه " غانم " ابن الشيخ مراد من ابنة عزرا اليهودي , والذي يشاركه مرغما في امتلاك البيت الكبير.
-----------------​
بميلاد صالحة , أعتق الشيخ مراد والديها بلال وزينب , فصار الجميع أحرارا
"هالبنت يا زينب صارت أم لنا , على جيتها أنا معك انولدت من جديد , البنت هذي جات حرة على الدنيا"
لم تعتد زينب على فكرة الحرية فلا شيء تغير في حياتها, عاشت كما عاشت "كلنا مأمورون العبد والحر" هكذا تعلمت من شيخها منذ الصغر , لذا لم ترغب أن تكون لابنتها روح متمردة , لكن حسينة ذات البصيرة كانت هي من يتصدى لها.
تكبر صالحة الحرة,و هي التي تكفلت بجليلة وربتها وعلمتها أن تنصت لإيقاع قلبها لا أذنها , وصالحة هي التي تتصدى لغانم , وهي راعية المقام , يحتاجها الناس ويهابونها ...تماما كالحرية.
-----------------​
تعجن حسينة حنتها, وتسقيها من بئر الشيخ مبلول لتحل بها البركة , تتصاعد رائحتها تعبق المكان بينما تتلو هي طقوسها السرية
" أول تباشير حملج يا ستي راح يكون مع تباشير مشي هالبنت , تأملت الست شاهة وجه صالحة , لم يكن لها أية ملامح مميزة تجعلها من أهل الكرامات ما جعل الست تشكك في قدرتها
- وإذا ما صار؟
- يسقط المكتوب كله الذي تحفظه صالحة وما يكون عليج شي يا ستي..لكن إذا صار تبنين لحليل صالحة مقام"
في نفس العام تلد الست شاهة ابنها " فارس "وتبني فنار البحارة والذي يطلق عليه الناس "المقام" , ولكن فرحتها لم تكتمل إذ تدخل سويرة البيت الكبير ليتزوجها الشيخ مراد وتنتهي أيام مجده, ويبدأ الصراع الأزلي بين الخير والشر ممثلا في الأخوين غير الشقيقين فارس وغانم أبناء الشيخ مراد ..يفر فارس خارج البلاد وينسحب من المواجهة , ولا يعثر له القاريء على خبر حتى نهاية الرواية , فارس هذا الزمان لن يظهر فجاة ليقلب الموازين وينتصر للمظلوم , وينبغي على المعركة أن تدار بوسيلة أخرى غير انتظار المخلّص .
---------------​
"عشرون سنة انتصب فيها المقام , في كل خميس يغتسل بماء الورد ويتعطر بالعود ويرفع في لياليه الغناء من قادري وخماري وغيرهما , الذبائح تذبح تكفي أضعاف المتواجدين مهما بلغوا , وفي العشرين سنة الماضية لم يجع أحد"
يهبط على الجزيرة رجل يدعى عبدالوهاب , يصير إمام المسجد ويحذر الأهالي من الموالد والبدع , وتصل أخبار الإنجليز وعزمهم على بناء أسطول كامل ومواني بطول البحر , ويظهر البترول وتبدأ حياة الناس في التغير ..
يُهدم المقام ثم يعاد بناؤه , ولكن الأيام التي مرت لا تعود أبدا..
الرواية حاشدة, تتقاطع فيها خيوط السرد , وأحداث الزمان والمكان مما يشكل أحيانا جهدا على القاريء ليلم بكافة التفاصيل والشخصيات , ورغم التمكن من اللغة الفصحى وسلاسة السرد إلا إن استخدام اللهجة العامية ضاعف هذا الجهد على القاريء من خارج المنطقة .
العامية تضفي خصوصية وحميمية على السرد لكن ينبغي استخدامها بحذر لتقوم بهذا الدور دون التباس , مثلا عبارة " السموحة يا طويل العمر " ستكون مفهومة لأي قاريء عربي , بينما استخدام ألفاظ مثل " تريقت " ستسبب ارتباكا , فهي تعني هنا تناول الفطور بينما في مناطق أخرى تستخدم كدلالة على السخرية.
لكن بشكل عام قدمت الرواية توثيقا لمرحلة تاريخية هامة , من حيث الأحداث الاجتماعية والسياسية والفنية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى