محمد غرير - لعنةُ بجماليون

_أتحتاجُ شيئا آخراً أستاذ خالد ؟

يسألني نادلُ (البار)، وهو يضعُ قدحَ (الكونياك) الثالثة أمامي، أشيرُ برأسي بأن كلّا، فينصرف

أشعلّ لفافةَ تبغ، أتحسّس القدحَ البارد الموضوع على (البار) , أتكوّر داخلَ معطفي, وأنفثُ الدّخان

أراقبُ الدوائرَ وهي تتصاعدُ أعلىً ، فأعلى

لو تصيرُ هذه الدوائرُ أطواقا أنقضُّ بها على عنقِ فؤاد، أخنقهُ حتّى تتدلّى عيناهُ أمامَ رأسِه

أخنقه أو أخنق نفسي , لا يهمّ, المهم أن تنتهي هذه (الدراما) المستمرة منذ خمسِ سنوات،

خمس سنوات, من العجز الأدبي, والشلل اللغوي، والتصحر الروحي,

سأقتلك يا فؤاد، سأقتلكَ بأيِّ شكل، لكن، ماذا سيفيدُ موتُك يا بنيّ؟!

هل ستكفُّ ليلى عن حبّك؟، وهل سأفوز بحبِّها إذ ذاك؟، وإن أحبّتني، كيف سيكونُ وصالنا؟!

وصالنا الذي حُكم عليه منذُ البدءِ أنّ يكونَ مستحيلا

وكيفَ سأنهي هذه القصّة؟، أبنهايةٍ سعيدةٍ لكما، وتنازلي عن ليلى لك،

أمّ بتنازلِك ليّ عنها, وإن حدث ذلك، فكيف سنلتقي أنا وهي؟ كيف ستلتقي الصور والظلال؟

وكل هذه المستحيلات تحكم الأرض .

نحن معادلةٌ لا وجودَ فيها لظالمٍ ومظلوم ،ولا تقبلُ القسمةَ على واحد، ولا على إثنين، ولا حتّى على ثلاثة

فما الحلّ ؟

لا بدّ من الموت..

النادلُ يطفئُ الأضواءَ ويشعلُها, يمسحُ (البار) للمرّةِ الثالثة, يجلسُ على كرسيّه ويبادلُني النظرات، إنّه يكتفي بالإشارات، وعليّ أن أكتفي بتفسيرِها،

أعبُّ ما تبقى في الكأس أمامي، أضعُ الحسابَ على الطاولة، أحيّيه بإيماءةٍ وأغادر ..

الشوارعُ خالية، لا بدّ أن البردّ كنّسَ الناس إلى بيوتِهم قبلَ عدّة ساعات،فالساعةُ قد تجاوزت الثانيةَ عشرة، وهمُ الأن يغطّون تحت أغطيةٍ سميكة، يحلمون بالنّساءِ والشوكولا والشمس ..

أصلُ إلى مدخلِ “البناية” بشكلٍ (أوتوماتيكي)، أنسابُ على درجاتِ السلّم صاعداً مثل لصّ، أفتحُ بابَ البيت وأدلف ..

أتهالكُ على أوّل “كنبة” في الصالون .. وأتحاشى قدرَ استطاعتيَّ النظرَ إلى غرفةِ النوم، ففؤاد وليلى هناك .

أتجرّدُ من ملابسيّ المبلّلة, وأقصدُ الحمّام، أعدُّ حتّى العشرة، ثم اسكبُ فوقيّ دلّواً من الماء البارد، روحيّ تنتفض, سأقتلهما، سأقتلُهُما معاً

أخرجُ إلى الصالون، أخلعّ عنّي “المشاية”، أتحسّسُ برودةَ الأرض بباطنِ قدميّ, هذه البرودة تشعرني بوجوديّ وحضوريّ

أستلُّ المسدّسَ من بين كومةِ الثياب، أقتربُ من غرفة النوم بهدوء، أتردّد ..أتراجع،

جسدي يرتجف، حتّما ليس بسببِ البردّ، أشدُّ من حزمي، أأخذُّ نفسا عميقا،

( الآن أو أبدا )

أفتح الباب بهدوء، أدخل، وأغلقه ورائي..

الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الّليل، دويّ الطلقة النارية كفّن الصمت الذي كان يلفّ البيت بمزيدٍ من الصمت، المكان غارقٌ في العتمة باستثناءِ الضوء المنبعثِ من غرفة النوم ..

غرفةُ النوم مضاءةٌ بمصباحٍ مكتبيّ، وُضِعَ على طاولة بسيطة للكتابة، على الكرسيّ أمام الطاولة تكوّمت جثّةُ خالد ، بأعوامه الخمسين، كان مكبّا على المفكّرة السوداء، منهمكا بالكتابة، حين دقّت الرصاصةُ أبوابَ قلبِهِ من جهةِ الظهر, لتكملَ طريقها لوتشرع نافذةً تطلّ من الصدر

لفافته لم تزل مشتعلةّ ، مرسلة عموداً من الدخان، رائحةُ البارود تختلطُ برائحة التبغ المحترق

قطرات الدم بدأت تنزلق على قدم الكرسي لتستقر على الأرض،

وما بينَ الطاولة والسرير، بين الجثّة والشخص الذي أطلق الرصاصة، كانت ليلى كأيقونةٍ قدّت من مرمرٍّ وصخر، تتأمّل المشهدّ بشرودٍ وقد شلّ ركبتيها هولُ الموت

على طرف السرير كان يجلس فؤاد، مشدوها ومنهارا مثلها، والمسدّس مقيم في يده اليمنى، كان جمود الموت القاتل هو سيد هذه الليلة..

فؤاد هو بطل الرواية التي أرّقت خالد، وقد بدأ كتابتَها منذ خمس سنوات كمشروع اعتزال، أراد أن يقول فيها كلّ ما لم يستطع قوله على مدى خمسة عشر عمل سابق ، خلق خالدٌ شخصيةَ فؤادٍ على صورته، حمّلهُ رؤاهُ، أحلامَهُ، أفكارَه وحتى انتماءاتِه وتحزّباته،

حين ظهرت ليلى في إحدى الجمل الإعتراضيّة، بدتْ مثلَ أمرأةٍ عابرةٍ ككلّ النساء العابرات،

ومع توالي الفواصل والسطور والصفحات نُحِتَت شخصيتُها لتشرقَ مثلَ شمس

لم يحلم بها لا الكتابُ ولا حتّى أبطالُ الروايات

وهنا أنشقّت الأرضُ عن خنادق ودهاليزٍ أبدايّة وبدأت المأساة،

خالدٌ أحبَّ ليلى، فقرّر التخلّص من بطله فؤاد بحادثِ سير، لم يفلح

بسرطان في الدم ، ثمّ بكوليرا، حتى بآيدز ولم يفلح

أراد أن يسيّرهما حسبَ أرادته فسيّراه، ورّطاه في دائرة عدوٍ أبديّة، راح يلهث فيها خلفهما , ليلى تلهث خلفَ فؤاد، وهو يلهث خلفها، بلا نهاية، بلا نهاية

حين دخل غرفة النوم اليوم، جلس إلى طاولة الكتابة، فتح المفكّرة السوداء، حيث خلقهما، مقررا قتلهما معاً بأقلّ عدد من الصفحات، وبأقصر تركيبٍ ممكن من الجمل ..

كان على وشك أن يَخِطّ صفحةَ النهاية، حين تسلّل فؤادٌ من إحدى الصفحات المنزوعة والمرمية على الأرض،

لم يفكّر كثيرا، أغمض عينيه وصوّب ..

قطراتُ الدمّ بتواتتر سقوطها بدأت تشكّل بركةً أسفل الكرسي، فؤاد على جلسته لم يزل شاردا، ليلى على حالتها الأولى

أشعة الشمس بدأت تخترق ستائر النافذة ، الصباح يقترب، فؤاد يلقي المسدس من يده،

يقترب من الكرسيّ ، يمسح بيديه على شعر خالد ، يتأمل الجثّة السابحة بدمّها بحنوً ويقول :

_سامحني

يقترب من ليلى، ينهضها من ذراعها ثم يضمها إليه، وببكاء هو بكاء الامهات الثكالى ينشجان

يسحبها من يدها، يقطعان باب غرفة النوم..يفتحان الباب ..يعبران الصالون..يصلان باب البيت

ترتدُّ ليلى بخطوات سريعة إلى الجثّة ، تمسح عليها، تعانقها ، ثم وبقبلة طويلة، ممتدة ولا نهائية تودّع خالد، تسجب المفكّرة السوداء من على الطاولة

تلقى نظرة أخيرة على مشهد الخراب، تسرع باتجاه فؤاد المنتظر عند الباب ،

طبقا باب البيت، وراحا يركضان ، تائهين هاربين، تاركين خلفهما بيت هذا الخالق المهجور،

وهذا البيت الفارغ ، إلا من الجثّة التي حين سمعت صوت اطباق الباب .. بدأت عيناها تدّمع.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة نادي شام للقصة القصيرة – الدورة الثالثة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى