صابر رشدى - شوكولاته نيتشه.. قصة قصيرة

كنا نعرفه، متملص ومراوغ، لا تمر عليه الأشياء دون استغلال لها، هذه طبيعته، فالعالم لديه قائم على المنفعة، لكن ملامحه خادعة، توحى بالطيبة، وربما التسول، خاصة عندما يتحدث عن عوزه الدائم، وعدم كفاية الراتب، ونفاده فى الأيام الأولى من الشهر، رغم أنه يقطن بيت والده، لا يسدد إيجار مسكن، أو فواتير الماء والكهرباء، فالأب رجل سخى، يحمل على عاتقه كل هذه الأعباء، يستقبل أفراد الأسرة فى الطابق الأول، جالبًا المؤونة، وموزعًا لها بالتساوى على الجميع.

كان يطاردنا بحكاياته العجيبة، وأساطيره المذهلة، مبالغًا فى معظم أقواله، حتى وهو يخلط كلماته بالشكل المبتذل والعابر، فخياله الجامح يتغذى على فانتازيات مدهشة، تشعر معها بأنك تملك الوجود، متمنيًا فى الوقت ذاته أن تكون أحد أبطالها، إنه يتحدث بثقة غريبة، ومعرفة واسعة عن عوالم ماورائية، مخترقًا أكوانًا مشحونة بالرهبة والتفرد، تجعلنا نرتعد ونحن ننصت إليه مشدوهين، فى صمت مهيب، متماهين مع كلماته، حيث يصعب تجاهل المحاولات التى يسعى إليها لرأب الصدع بين الخرافة والحقيقة، على نحو شائق ومضمر فى ثنايا عباراته، دون أن يدرى أهمية ما يقوم به.

ربما وجب التوقف هنا مع ما جرى له مع قرين زوجته، عندما اكتشف وجوده مصادفة أثناء تحولاتها خارج حدود الوجود الأرضى، وتأرجحها بين عالمين متضادين، كانت المرأة الصغيرة تمتنع عنه، تعده دائمًا بغد سعيد تكون فيه أكثر جاهزية، وأكثر جمالًا. يجيء الغد، وهو مشحون، ومهيَّأ لنشاط صاخب، لكنه يأتى مطابقا للأمس، تعاد فيه تلك المبررات، التى تفتقر إلى الإقناع والصدق من كثرة التكرار. حتى جاء يوم تملكه فيه غضب عارم، على غير عادته، جعله يهجم عليها هجومًا وحشيًّا، مصحوبًا بالضرب. أوثق يديها وقدميها بالسرير محاولًا معها بطريقة عنيفة، كان صراخها يلهبه، ويصاعد رغوة الجنون فى خلاياه، قبل أن يفاجأ بها تتحول إلى كائن آخر، غريب، وصادم، لقد فكت وثاقها بسهولة ودفعت به بعيدًا، ثم عبثت بمحتويات الغرفة، مبعثرة لها فى كل اتجاه، قبل أن تدنو منه وهو مرعوب، يحاول استعادة ذاته المهلهلة.

لا تقترب منها مرة أخرى.

رنَّ صوت ذكورى، أقرب إلى صوت صبى صغير.

مرتبكًا، ومذعورًا، أخذ يحدق إلى زوجته، وجدها مغمضة العينين، يخرج الصوت من أعماقها، منذرًا، ومهددًا، مشحونًا بعبارات بذيئة. فعرف فى لحظتها سر امتناعها عنه، وتأكد من تخمينات والدته وهى تردد على مسامعه:

زوجتك مسكونة، يلازمها قرين غيور.

بعد حوار قصير مع الصوت، اكتشف أنه بإزاء جنى صغير، هش وغير متعقل. فهو على قدر من الدهاء، جعله يدرك، على الفور، وبشيء من الفطرة، أن هذا المخلوق لا يحمل سطوة مرعبة كما تصوره فى البداية، انحرافه غير متطابق مع ذاته، وأنه يشاركه فى العدم، ضعفه المطمور داخل صوته لا يكافئ عشقه لأنثى ذات جمال مفرط. وتذكر مرة أخرى، تقديرات أمه، أن ميل امرأته إلى ارتداء ملابس خفيفة وشفافة تظهر مفاتنها وهى تدب بخطوات مزلزلة داخل الشقة، وجسد يترجرج كل شيء فيه بدلال واضح، وراء انجذابه لتلك الطريدة ومحاصرتها كصيد ثمين.

كانت ليلة بلا انتهاء، لم يغمض له جفن، وهو يواصل صراعًا مع ضيفه الذى أخذ يلهو بضجة، واقعًا فى تصرفات هازلة، اختتمها بطلبات شديدة الغرابة، لم تخطر له مطلقا، ما جعله يصيح عليه محتدمًا:

إذا لم تنصرف الآن، أحضرت لك شيخًا.

كان فى ذهنه رجل مشهور، يلجأ إليه الناس لطرد هذه الكائنات.

فور انتهائه من هذه التحذيرات، فوجئ بزوجته تنهض من غيبوبتها، وتنظر حواليها بعينين شديدتى الاتساع، محدقة إلى الفراغ طويلًا، قبل أن تدخل فى نوبة بكاء عميق، بدت بعده منهارة، مكدودة، يرهقها التوتر حيال هذا التغير الدرامى، لم يرد إزعاجها، بذل ما فى وسعه لتهدئتها، حتى جعلها تخلد إلى نوم مستريح.

إنه لا يعرف الخوف من المخلوقات الماورائية، رغم كونه يتسم بالجبن، وعدم الجسارة، لا سيرة، ولا تاريخ ينهض على التمرد والمشاغبة، كان يمضى وئيدًا، جنب الحائط دائمًا.

لم يشأ أن يخبر أحدًا بما حدث، حتى يستطيع التعرف على ماهية هذا الطارئ، ويعرف أهدافه كلها.

فى اليوم التالى، حاول مرة أخرى معها، فظهر له هذه المرة أشد غضبًا.

جعل ينهره:

ماذا تريد؟

أريد زوجتى.

أنا أحبها.

أنت طفل مجنون.

أحبها. أحبها.

قال. ثم راح يبكى بكاء مضحكًا.

فشعر بالغيظ، وخاطبه مهددًا بنبرة حانقة:

سأحرقك.

لا أرجوك، دعنى، وسألبى لك كل مطالبك.

هنا توهجت النزعة البراجماتية لديه، بدأ ينتبه إلى أنه أمام نموذج آخر لحكاية علاء الدين، امرأته هى المصباح والمعقل.

أى أمنية؟

نعم.

أى طلب؟

نعم.

أريد نقودًا كثيرة.

ليست من مهامى.

انفجر فيه:

يبدو أنك فاشل، لا قيمة لك.

قال. ثم استدرك سريعًا حتى لا يفقده:

ما الذى تستطيع تقديمه إذن؟

أساعد فى أعمال المنزل.

كان ردًّا صادمًا، غير متوقع، أغرقه فى نوبة إحباط مفاجئة:

ماذا؟

ولى شروط أيضًا.

شروط؟

نعم. أريد فلافل ساخنة.

بدت هذه المطالب كاكتشاف ساخر، وغير منتظر، حطم كل تصوراته السابقة التى تنهض على معلومات مغايرة عن هذه المخلوقات الخفية، لكنه شحذ تفكيره، محاولًا التعامل مع هذه المنحة الطارئة، متحولًا عن رغباته العنيدة، متخليًا عن مباهج اللذة الطارئة.

سأله:

ماذا أفعل عندما أريد رؤيتك؟

الأمر غير معقد.

أجابه، ثم لقنه بضع كلمات، عندما يرددها يظهر له فى الحال، ثم كلمات أخرى لصرفه.

لم يكن يتوقع أن تتهادى الأمور بيسر، وأن تكون على هذا النحو من الوضوح.

قام بإحضار الفلافل، وجده يلتهمها بسرعة غريبة، أكثر من عشرين قرصًا كبيرًا، يلتهمها فى المرة الواحدة. كان متعجبًا من هذا النهم، وهو يتأمله مستهجنًا.

لاحظ الجنى نظراته فبادره غاضبًا:

أنت محظوظ، لم أطلب منك طعامًا باهظ الثمن.

كان اللاتناسب مذهلًا بين أفكاره السابقة، وبين هذه الأشياء المتواضعة. لقد شرع فى إصدار أوامره على الفور، مختبرًا جديته، طالبه بالبدء فى تنظيف المسكن، وإعادة ترتيب الأثاث. إنها فكرة جيدة فلم تكن زوجته من تلك النساء اللواتى يقمن بهذه الأعباء عن رضًا، فهى امرأة كسول، لا تهتم كثيرًا بالأعمال المنزلية، فقط، تمضى وقتًا طويلًا أمام المرآة، تمشط شعرها أكثر من مرة، تتأمل ذاتها، حتى تستقر على تسريحة معينة. متيمة بملامحها، وتفاصيلها الفاتنة، نادبة حظها، حيث ألقى بها إلى أول طارق حضر طالبًا يدها، زوج لا تطيق رؤيته.

عبر هبة استثنائية بدأ الجنى فى العمل، كان دقيقًا، متمرسًا، صاحب ذوق رفيع، ونظرة جمالية واضحة، تبدت فى إعادة تشكيل محتويات المنزل على نحو مبهر. تحولت الأشياء تماما صارت جديدة ولامعة، كأنها مجلوبة للتو من المتجر.

ما رأيك؟ قال مغتبطًا

ليس كما ينبغى، كنت أعتقد أنك أكثر مهارة.

هكذا هو، تاجر، لا يفرط فى عواطفه، ولا يبدى انبهاره بشيء، متظاهرًا على الدوام بعدم الرضا، حتى يجلب أكبر قدر من المكاسب، ذو عقلية تجارية، تجيد الضغط والمساومة.

بعد الانتهاء من العمل، بدت المرأة مرهقة، خائرة القوى، لا تعلم بما جرى وهى تلقى بنفسها فوق السرير، غائبة عن الوعى، ومستغرقة فى نوم عميق.

لم يتوقف عند هذا الحد، انطلق من خيالات مذهلة، كانت تجول فى خاطره، ولكن تنقصها اللغة المعبرة عنها. متأرجحًا أمام هذا الوجود المتشابك، يريد الاستفادة القصوى. أَسَرَّ لشقيقاته المتزوجات بما حدث، عارضًا عليهم تكرار التجربة، حتى وصل الأمر إلى إعادة طلاء بيوتهم، إنهم لا يحضرون سوى البويات وأدوات الدهان، وكميات الفلافل المناسبة، كان كريمًا معهم فى هذا الصدد. غير مبالٍ لشكاوى زوجته من آلام فى صدرها، شعورها بأن هناك حريقًا مشتعلًا لا تعرف سببًا له.

لماذا لا يفكر فى نقلة أخرى...

استثمار فى صناعة صغيرة، تتم مراحلها كافة داخل مسكنه، جعل يفكر حتى توصل إلى مشروع جيد: صناعة نوع من الشوكولاتة، فى محاولة خاطفة لاقتناص هدف مريح من أكثر الفرص غموضًا، وبجرأة لا تخلو من التردد، أحضر كميات كبيرة من القوالب الخاصة، وعبوات معينة للصب داخلها. كان يقوم بتسييل الشوكولاتة، وإضافة الحليب إليها، وبعض المكونات الأخرى، كان خليطًا رائعًا، يقوم بتغليفه بعدها، مستندًا إلى خبرة سابقة له فى هذا العمل. كانت تسيطر عليه مسألة وضع اسم لبضاعته، بعد هذا الانتشار السريع، يريدها جملة واحدة. ظل طويلًا يفكر، حتى اهتدى فى لحظة ملهمة، إلى اسم برق كومضة خاطفة، وشده على نحو غير طبيعى، دون أن يعرف له معنًى، لكنه فى النهاية وجد فيه تسمية جاذبة، ذات رنين مؤتلق: شوكولاتة نيتشه.

ربما كانت لديه فكرة غائمة عن صاحب الاسم، مطمورة فى اللاوعى، لمحة بسيطة مشوشة، قد يكون مؤلفًا موسيقيًّا، أو رسامًا عالميًّا، أو ربما يكون هذا الرجل صاحب المقولة الشهيرة: «أكون أو لا أكون». ثمة شخص مشهور على أية حال، واسمه جميل.

فى بضعة أشهر، انتشرت الحلوى فى أرجاء العاصمة، فقرر التوسع جنوبًا وشمالًا، شرقًا وغربًا، للوصول إلى بقية المدن. اقتنى سيارة صغيرة من المكسب السريع، غير المتوقع نموه على هذا النحو، وتوغل بها فى كل مكان باحثًا عن تجار الجملة.

كانت النقود تنهال عليه بوفرة، فى الوقت الذى كانت المرأة تذوى دون أن يلاحظ شحوبها، وانخفاض وزنها، مكتفيًا بتكديس الأرباح، وكان القرين المتواضع يعمل بلا كلل، لكنه، وفى لحظة اضطراب وجودى هيمن عليه بغتة، جعل يتلكأ، ويتباطأ فى العمل، وراح يمتنع عن الظهور أحيانًا، وشرعت نفسه فى الميل إلى طعام آخر، بعدما أصيب بالضجر، وغياب الغاية والهدف، ما جعله يفاجئ سيده بقدر كبير من الاستعلاء والتمرد:

أريد لحومًا، ودجاجًا مشويًّا.

كان مطلبًا كارثيّا، وصاعقا.

أجابه مبهوتًا:

ماذا تريد؟

أنت تكسب أموالًا كثيرة، بمجهودى وحدى.

تحسدنى إذن.

قال غاضبا، وهو يفكر فى طريقة للتخلص منه. لكنه تراجع. من سيساعده فى هذا العمل؟

إنه يحتاج إلى عشرة أفراد على أقل تقدير، يعملون بأجور باهظة.

كان الوضع مربكًا، بالغ التعقيد، لكنه انصاع فى النهاية، محضرًا اللحوم والدجاج المشوى، مقهورًا ببخله، كان الجنى لا ينام، يظل مستيقظًا لوقت طويل فى عمل متواصل، تحت الضغط والمراقبة. إنه يبكى أحيانًا من الإرهاق والسهر، ويرجوه متذللًا أن يترك له وقتًا للراحة. لكنه كان يراوغه، يعده بالموافقة ظاهريًّا دون أن يترك له سويعات كافية.

فى الفترة الأخيرة، ثمة انطباع بدا محيرًا. عمل مضاعف، طاقة غير اعتيادية، كان هذا المخلوق يصل الليل بالنهار لتوفير كميات كبيرة من الإنتاج بينما هوسعيدً جدًّا، ولكنه يخفى سعادته. لكن، ثمة أعراض غريبة أخذت فى الظهور على مستهلكى الحلوى، إسهال وقيء، ورائحة عطنة وغريبة تتصاعد من الشوكولاتة عند مضغها. بدأت الشكاوى تتوالى بعدما التفت التجار إلى هذا المنتج، أحدهم أمسك به وأصر على تقديمه إلى الشرطة، لكنه سقط منهارًا بين يديه، راجيًا أن يتركه، عارضًا عليه رد المبالغ التى أخذها منه. حدث ذلك مع أكثر من تاجر حتى صار مطاردًا فى كل مكان، فقرر التوقف ممرورًا ومتحسرًا أمام سقوط هذا المشروع المربح.

على الجانب الآخر، كانت الزوجة المسكينة تتلاشى تحت وطأة شيخوخة مقبضة، كانت تغزوها بلا توقف، حتى بدت كعجوز شائهة، متهدلة الجسد والملامح، يتهيَّأ فى رحمها جنين شقى، تسمع ضجيجه، وتشعر به، وهو فى داخل بطنها المكور.

هو. الذى لم يمسها فى تلك الفترة خمن ما حدث، وعرف متأثرًا بغريزته المهجورة ما جرى فى انشغاله الـ... بعدما وضعت المرأة طفلًا غريبًا، مخالفًا لأى حضور فيزيائى للبشر، عندما أبصره ارتجَّ تمامًا، وسقط فى غيبوبة قاتلة وهو يدمدم بعبارات مبهمة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى