غياث المرزوق - التَّمَاهِي -1- «إِيجَابِيَّاتُهُ وسَلْبِيَّاتُهُ»

يُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أنْ يَرْمَأَ رَمْأَ العُصَابِيِّ
حِينَمَا يَسِيرُ تَسْيَارًا نَفْسَانِيًّا بِسَيْرُورَةِ التَّمَاهِي

زيغموند فرويد



يناقشُ هذا المقالُ ظاهرةَ «التَّمَاهِي» identification بوصفِها فحواءَ التعبيرِ النفسانيِّ عن أبكرِ ارتباطٍ عاطفيٍّ تقيمُه «هُوِيَّةُ» الطفلةِ، أو «هُوِيَّةُ» الطفلِ، مع هُوِيَّةِ شخصٍ آخرَ. ويقترنُ هذا الارتباطُ العاطفيُّ الناشئُ، بحسبِ تنظيرِ زيغموند فرويد، بصِلَةٍ لَبِيديةٍ (نسبةً إلى «اللبيدو» libido) موازيةٍ مع ذلك الشخصِ الآخرِ. سيبدأُ المقالُ النقاشَ حولَ مجموعةِ المعاني الجذريةِ التي يتضمَّنُها مصطلحُ «التَّمَاهِي» من وجهةِ النظرِ اللسانيةِ (وذلك باللجوءِ المبدئيِّ إلى المعاني الجذريةِ التي يتضمَّنُها المصطلحُ اللغويُّ المُحَاذي «الدَّمْجُ»، في اللغةِ العربيةِ)، وسيشدِّدُ من ثَمَّ على المعنى الجذريِّ المحدَّدِ، أي سياقِهِ الانعكاسيِّ أو «المُطَاوِعِيِّ» reflexive، الذي تمَّ تطبيقُه في أدبيَّاتِ التحليلِ النفسيِّ، على وجهِ التحديدِ. بعدئذٍ، سيشرحُ المقالُ كلاًّ من المضمونَيْنِ النفسانيَّيْنِ المتناقضَيْنِ تناقضًا مطلقًا لمصطلحِ «التَّمَاهِي» في هذه الأدبيَّاتِ: المضمونَ الإيجابيَّ الذي يشيرُ إلى الشعورِ بالإضفاءِ المثاليِّ، والمضمونَ السلبيَّ (أو المَرَضيَّ) الذي ينوِّهُ عن الشعورِ بالإبداءِ العدوانيِّ، كما في تنظير ابنتِهِ آنا فرويد لاحقًا. سيتَّضِحُ، إذن، أنَّ هذَيْنِ المضمونَيْنِ النفسانيَّيْنِ المتناقضَيْنِ ناشئانِ، في الأصلِ، عن الطبيعةِ الازدواجيةِ ازدواجًا تأرْجُحِيًّا لظاهرةِ التَّمَاهِي، من حيثُ كونُها طُوَيْرًا مشتقًّا من طُوَيْرَاتِ ذاتِ «الطَّوْرِ الفمِّيِّ» oral phase في أطوارِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنَوِيِّ (نسبةً إلى «الأنا» the ego). وعلى فَرْضِ أنَّ ظاهرةَ التَّمَاهِي تهيِّئُ المحيطَ النفسيَّ لظاهرةِ «عقدةِ أوديبَ» Oedipus complex، وتمهِّدُ من ثَمَّ السبيلَ لها – تلك الظاهرةِ الأكثرِ ألفةً في أطوارِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنَوِيِّ –، سيشرحُ المقالُ، علاوةً على ذلك، إسهامَ سيرورةِ التَّمَاهِي في العكسِ الآنيِّ لِتَسْيَارِ عقدةِ أوديبَ، وإسهامَها بالتالي في تحطيمِها الحتميِّ لهذه العقدةِ، وذلك بالإشارةِ إلى بضعةِ أمثلةٍ ملموسةٍ من أمثلةِ الأعراضِ المَرَضيةِ النفسيةِ ذاتِها. بعد ذلك، سيتطرَّقُ المقالُ إلى الفَحْوَى التمييزيِّ الذي وضعهُ جاك لاكان، بدورهِ هو الآخَرُ، استنادًا إلى الاصطلاحِ الفرويديِّ الأصليِّ، بينَ ما يُسمِّيهِ بـ«التَّمَاهِي الخَيَاليِّ» imaginary identification وبينَ ما يَدْعُوهُ بـ«التَّمَاهِي الرَّمْزيِّ» symbolic identification، ذلك الفَحْوَى التمييزيِّ غيرِ اليسيرِ إدراكُهُ إدراكًا كاملاً نظرًا لكثرةِ تلك التغيُّراتِ النظريةِ الملحوظةِ التي كانَ قد خضعَ لها من قبلُ في مؤلَّفاتهِ بالذاتِ. أخيرًا، سيبيِّنُ المقالُ أنَّ العلاقةَ النفسانيةَ التي تقومُ بالفعلِ التبادُلِيِّ بين ظاهرَتَيِ التَّمَاهِي وعقدةِ أوديبَ إنَّما هي، في آخِرِ المطافِ، علاقةٌ نفسانيةٌ تَصَارُعِيَّةٌ بين ضدَّيْنِ متصارعَيْنِ، علاقةٌ تلقي الضوءَ، بادئَ ذي بَدْءٍ، على النواحي التطوريةِ الحتميةِ لماهيةِ «الأنا» the ego، بوصفِها ماهيةً نفسانيةً لها خفيَّاتُها الباطنيةُ، من طرفٍ، ولها جليَّاتُها الظاهريةُ، من طرفٍ آخرَ.

من حيثُ المنظورُ اللسانيُّ لمصطلحِ «التَّمَاهِي» identification (وباللجوءِ المبدئيِّ إلى المعاني الجذريةِ التي يتضمَّنُها المصطلحُ اللغويُّ المُحَاذي «الدَّمْجُ»، في اللغةِ العربيةِ)، تُستعمَلُ الصيغةُ الاسميةُ المصدريةُ «الدَّمْجُ»، أو «الدُّمُوجُ»، لكيما تدُلَّ على مجموعةٍ من المعاني الجذريةِ المتميِّزةِ في التدليلِ اللامجرَّدِ والمرتبطةِ بعضِها ببعضٍ ارتباطًا تدليليًّا مجرَّدًا، تلكَ المعاني الجذريةِ التي تحدِّدُها جملةُ التغيُّراتِ الجوهريةِ طارئةً طُرُوءًا تزمُّنيًّا على طبيعةِ ما يُسَمَّى بـ«المحتوى التَّصَوْرُنِيِّ» ideational content للصيغةِ الفعليةِ «دَمَجَ» في هذه اللغةِ. وتتحدَّدُ جملةُ هذه التغيُّراتِ الجوهريةِ، بدورِها هي الأُخرى، تبعًا لكلٍّ من قوى التكافؤِ المقصودةِ التي تفرضُ، في الأصلِ الجَبْرِيِّ، عددَ العباراتِ الاسميةِ وأنواعَها، أي عددَ المفاعيلِ بالإضافةِ إلى الفاعلِ، وذلك في إطارِ الصيغةِ الفعليةِ ذاتِها وفي إطارِ كمونيَّتِها في الاقترانِ بهذه العباراتِ الاسميةِ. بناءً على ذلك، ينسجمُ المجملُ من قوى التكافؤِ المقصودةِ هذه مع المجملِ من تلك السياقاتِ الدلاليةِ للصيغةِ الفعليةِ عينِها، السياقاتِ التي يمكنُ إيجازُها على النحوِ التالي: أوَّلاً، في السياقِ المتعدِّي الأحاديِّ (uni)transitive للصيغةِ الفعليةِ «دَمَجَ»، تعيِّنُ قوةُ التكافؤِ المقصودةُ لهذه الصيغةِ الفعليةِ عبارةً اسميةً خارجيةً واحدةً، أو مفعولاً خارجيًّا واحدًا ليس إلاَّ، نحوَ: «دَمَجَ فلانٌ في الشيءِ»، أي دخلَ في هذا الشيءِ واستحكمَ فيهِ. ثانيًا، في السياقِ المتعدِّي الثنائيِّ ditransitive للصيغةِ الفعليةِ «دَمَّجَ»، تحدِّدُ قوةُ التكافؤِ المقصودةُ لهذه الصيغةِ، والحالُ هنا، مجموعةً مؤتلفةً من عبارتَيْنِ اسميَّتَيْنِ خارجيَّتَيْنِ، أو مفعولَيْنِ خارجيَّيْنِ، نحوَ: «دَمَّجَ فلانٌ فلانًا في الشيءِ»، و«دَمَّجَ فلانٌ شيئًا في الشيءِ»، أي أدخلَهُما في هذا الشيءِ وجعلَهُما يستحكمانِ فيهِ. ثالثًا، ما بين السياقِ المتعدِّي الأحاديِّ والسياقِ المتعدِّي الثنائيِّ، ينشأُ ما يُعرفُ بالسياقِ الانعكاسيِّ، أو المُطَاوِعِيِّ reflexive، لأيٍّ من الصيغتَيْنِ الفعليَّتَيْنِ «دَمَجَ» أو «دَمَّجَ»، بحيثُ تخصِّصُ قوةُ التكافؤِ المقصودةُ لهذه الصيغةِ، والحالُ ها هنا، مجموعةً مؤتلفةً من عبارةٍ اسميةٍ داخليةٍ، أو مفعولٍ داخليٍّ، وعبارةٍ اسميةٍ خارجيةٍ، أو مفعولٍ خارجيٍّ، نحوَ: «دَمَجَ/دَمَّجَ فلانٌ نفسَه في الفلانِ»، و«دَمَجَ/دَمَّجَ فلانٌ نفسَه في الشيءِ»، أي أدخلَ نفسَه في نفسِ هذا الفلانِ وفي نفسِ هذا الشيءِ وجعلَها تستحكمَ فيهما (أو، بالحريِّ، من الآنَ فصاعدًا، «تَمَاهَى تَمَاهِيًا» فيهِما أو بهِما أو معهُما)[1].

وهكذا، على وجهِ التعميمِ، يتَّضحُ أنَّ ثَمَّةَ، في المحتوى التَّصَوْرُنِيِّ للصيغةِ الاسميةِ «التَّمَاهِي»، بالقياسِ إلى الصيغةِ النظيرةِ «الدَّمْجُ» في اللغةِ العربيةِ، ثَمَّةَ ثلاثةَ معانٍ جذريةٍ متميِّزةٍ من حيثُ سياقاتُها الدلاليةُ على أقلِّ تقديرٍ، ويتَّضحُ كذاك أنَّ المعنى الجذريَّ، في سياقِه الانعكاسيِّ أو المطاوعيِّ، على وجهِ التحديدِ، إنَّما هو المعنى الذي يحتلُّ مكانَ الصدارةِ في خضمِّ أدبياتِ التحليلِ النفسيِّ، فيما يبدو، حيثُ لا يعني مصطلحُ «التَّمَاهِي» في هذا السياقِ عَنْيًا بالضرورةِ إثباتَ المرءِ معنى هُوِيَّتِهِ إثباتًا متعمَّدًا، أي واعيًا. ذلك لأنَّ الحالةَ النفسانيةَ المعنيَّةَ، إنْ كانتْ مثالاً حقيقيًّا من أمثلةِ التَّمَاهِي، ليس لها إلاَّ أن تتمثَّلَ، في أدنى تخمينٍ أيضًا، في مستويَيْنِ هامَّيْنِ من مستوياتِ التمثيلِ النفسانيِّ (أو مستوياتِ التطوُّرِ النفسانيِّ، بالأحرى)، مستويَيْنِ هامَّيْنِ من العسيرِ جدًّا إدراكُهُما إدراكًا كلِّيًّا، وعلى الأخصِّ فيما يتعلَّقُ بالإطارِ الكلِّيِّ لسيرورتَيِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ. ففي المستوى التمثيليِّ أو التطوُّريِّ الأوَّلِ، تتجلَّى الحالةُ النفسانيةُ المعنيَّةُ، من جهةٍ أولى، في شكلٍ ناقصِ النموِّ إبَّانَ مرحلةِ الطفولةِ، بحيثُ إنَّ الحدَّ الفاصلَ بين المفعولِ الداخليِّ، أو الشخصِ/الشيءِ الداخليِّ، وبين المفعولِ الخارجيِّ، أو الشخصِ/الشيءِ الخارجيِّ، غيرُ قابلٍ للإدراكِ بعدُ، في الواقعِ الذهنيِّ، فينجمُ عن هكذا لاإدراكٍ تحييدٌ ذهنيٌّ للتمايُزِ الصارخِ بين العالَمِ الباطنيِّ (أي عالَمِ الذاتِ) وبين العالَمِ الظاهريِّ (أي عالَمِ الآخَرِ). في المستوى التمثيليِّ أو التطوُّريِّ هذا، ليس بوسعِ الطفلِ أو الطفلةِ أن يميِّزا أيَّ معنىً من معاني الهُوِيَّةِ خاصٍّ بكلٍّ منهُما: إذ أنَّ عجزَهُما بذاك عن إدراكِ الحدِّ الفاصلِ المشارِ إليهِ قبلَ قليلٍ يمكنُ عزوُه إلى «صراعِهما» الحتميِّ مع أطوارٍ أخرى، أو حتى مع طُوَيْرَاتٍ فروعِها، من أطوارِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ. وفي المستوى التمثيليِّ أو التطوُّريِّ الثاني، تتبدَّى الحالةُ النفسانيةُ المعنيَّةُ، من جهةٍ ثانيةٍ، في شكلٍ أكثرَ نموًّا، على الخلافِ، إبَّانَ مرحلةِ الطفولةِ، بحيثُ إنَّ الحدَّ الفاصلَ بين الشخصِ/الشيءِ الداخليِّ وبين الشخصِ/الشيءِ الخارجيِّ، قابلٌ للإدراكِ في ظلِّ أشتاتِ الظروفِ الحاضرةِ من أمامٍ أو من وراءٍ، فينشأُ عن هكذا إدراكٍ إحياءٌ، لا تحييدٌ، ذهنيٌّ للتمايُزِ الصارخِ بين العالَمِ الباطنيِّ (أي عالَمِ الذاتِ) وبين العالمِ الظاهريِّ (أي عالَمِ الآخَرِ). في المستوى التمثيليِّ أو التطوُّريِّ هذا، إذن، في مقدورِ الطفلِ أو الطفلةِ أن يميِّزا «معنىً» ما من معاني الهُوِيَّةِ خاصًّا بكلٍّ منهُما، لأنَّ مقدرتَهُما على إدراكِ الحدِّ الفاصلِ المنوَّهِ عنه تجيزُ لهُما أن يولِّدا إمَّا شعورًا بالإضفاءِ المثاليِّ idealization وإما شعورًا بالإبداءِ العدوانيِّ agressivity نحو الشخصِ/الشيءِ الخارجيِّ، بوصفهِ جزءًا تجريبيًّا من العالمِ الظاهريِّ (أي عالَمِ الآخَرِ)، بحيثُ تتمُّ مخاطبةُ هذا الشعورِ الأخيرِ بلغةِ التحارُبِ النفسانيِّ من خلالِ تدخُّلٍ مباشرٍ منْ لَدُنْ إواليةٍ من إوالياتِ الدفاعِ الذاتيِّ، بشكلٍ أو بآخَرَ. وعلى وجهِ القياسِ، بالتالي، يظهرُ أنَّ هذين الشعورَيْنِ بالإضفاءِ المثاليِّ والإبداءِ العدوانيِّ يناظرانِ مضمونَيِ التَّمَاهِي الإيجابيِّ والسلبيِّ (أو المَرَضيِّ)، على الترتيب، كما سيتمُّ إيضاحُه بعد قليلٍ.

وعلى غِرَارٍ مشابهٍ، فيما يبدو، يستخدمُ زيغموند فرويد مصطلحَ «التَّمَاهِي» Identifizierung، بمقابلِهِ الاصطلاحيِّ في اللغةِ الألمانيةِ، يستخدمُهُ في مؤلَّفاتهِ غالبًا بالإشارةِ إلى المعنى الجذريِّ في إطارِ سياقِه الانعكاسيِّ (أو المطاوعيِّ)، لكيما يؤكِّدَ على تلك الظاهرةِ النفسانيةِ التي ينزعُ الطفلُ، أو تنزعُ الطفلةُ، من خلالِها إلى كُلِّيَّةِ أو جُزْئِيَّةِ «الاستيلاءِ الذِّهْنِيِّ» mental preemption على سمةٍ خاصَّةٍ، أو أكثرَ من سمةٍ خاصَّةٍ، كانا قد أدركاها واستوعباها في الشخصِ/الشيءِ الخارجيِّ المعنيِّ بالذاتِ. ومن ثمَّ، تؤدِّي كُلِّيَّةُ أو جُزْئِيَّةُ هذا الاستيلاءِ الذهنيِّ، بدورِها هي الأُخرى، إلى خضوعِ هُوِيَّةِ الطفلِ أو الطفلةِ (أو، بالقمينِ، إلى خضوعِ «معنى» هذه الهُوِيَّةِ المُدْرَكِ من لَدُنْ كلٍّ منهُما) لسلسلةٍ من التحوُّلاتِ المثيرةِ حينًا بعد حينٍ إثارةً عاطفيةً عن طريقِ سلسلةٍ تتوازى معَها، بنحوٍ تدرُّجيٍّ أو بآخَرَ تدريجيٍّ، من حالاتِ التماهي، في حدِّ ذاتِها وذواتِها[2]. ووفقًا لذلك، في هذه القرينةِ، يمكنُ لظاهرةِ التماهي أن تعبِّرَ عن فحوى أبْكَرِ ارتباطٍ عاطفيٍّ يربطُ هُوِيَّةَ الطفلِ أو الطفلةِ، والحالُ هنا، بهُوِيَّةِ شخصٍ ما أو شيءٍ ما، بحيثُ أنَّ «معنى» الهُوِيَّةِ المُدْرَكَ ذاتَهُ يشيرُ إلى المفعولِ الداخليِّ (أي العالَمِ الباطنيِّ أو عالَمِ الذاتِ) وأنَّ «معنى» هُوِيَّةِ الشخصِ أو الشيءِ المُرْتَبَطَ بِهِ ينوِّهُ عن المفعولِ الخارجيِّ (أي العالَمِ الظاهريِّ أو عالَمِ الآخَرِ)[3]. ففي ظاهرِ الأمرِ من هذه القرينةِ، تستلزمُ أيَّةُ حالةٍ من حالاتِ التماهي كينونتَيْنِ نفسانيَّتَيْنِ، على أقلِّ تقديرٍ: أوَّلاً، كينونةٌ تشرعُ في القيامِ بفعلِ التماهي عينِهِ، أي الشخصُ الذي يتماهَى في شخصٍ ما أو شيءٍ ما؛ وثانيًا، كينونةٌ تحرِّضُ على القيامِ بفعلِ التماهي عينِ عينِهِ، أي الشخصُ أو الشيءُ اللذانِ يتماهَى ذلك الشخصُ الأوَّلُ في أحدِهما. فأمَّا الشخصُ الذي يتماهى في شخصٍ ما أو شيءٍ ما (سَمِّيَاهُ من الآن فصاعدًا «المُتَمَاهِي» identifier) فيتجسَّدُ في الوجودِ الفعليِّ للمولودِ، أو للمولودةِ. وأمَّا الشخصُ أو الشيءُ اللذانِ يتماهَى ذلك الشخصُ الأوَّلُ في أحدِهما (سَمِّيَاهُ كذاك قياسًا «المُتَمَاهَى (فيهِ)» identified) فيتجسَّمُ في السِّمةِ الخاصَّةِ، أو في مجموعةٍ من السِّمَاتِ الخاصَّةِ، التي تمَّ إدراكُها واستيعابُها في الوالدِ ذي، أو في الوالدةِ ذاتِ، الجنسِ المماثلِ أو أيَّةِ نيابةٍ إنسانيةٍ، أو حتى غيرِ إنسانيةٍ، تنوبُ منابَهُ، أو منابَهَا. وهكذا، يمكنُ للارتباطِ الذهنيِّ الناشئِ بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ)، في النوعِ الأبْكّرِ في حدِّ ذاتِهِ، أن يفضيَ أيَّما إفضاءٍ إلى البناءِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي: إذ يبدو في هذه الحَالِ أنَّ ثَمَّ تقاربًا عاطفيًّا ملحوظًا بين الكينونتَيْنِ المعنيَّتَيْنِ. وهكذا، أيضًا، يمكنُ للارتباطِ الذهنيِّ الناشئِ ذاتِهِ، على النقيضِ، أن يتأوَّجَ في الهدمِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي ذاتِهِ: إذ يظهرُ في هذه الحالِ أنَّ هناك تباعدًا عاطفيًّا بين الكينونتَيْنِ المعنيَّتَيْنِ، بدلاً من التقاربِ. يتَّضحُ، إذن، أنَّ هذا التضادَّ الكاملَ بين البناءِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي، من جانبٍ أوَّلَ، وبين الهدمِ النفسانيِّ لهذه الهُوِيَّةِ، من جانبٍ آخَرَ، لَيَدُلُّ بجلاءٍ على أنَّ لظاهرةِ التماهي مضمونَيْنِ متناقضَيْنِ تناقضًا مطلقًا، أحدُهُما إيجابيٌّ والآخرُ سلبيٌّ (أو مَرَضيٌّ)، ذينك المضمونَيْنِ اللذين يوازيانِ توليدَ الشعورِ بالإضفاءِ المثاليِّ والشعورِ بالإبداءِ العدوانيِّ، كما أُشِيرَ إليهِما آنفًا.

فيما يتعلَّقُ بالمضمونِ الإيجابيِّ لظاهرةِ التماهي، من طرفٍ أوَّلَ، فإنَّ فحوى الارتباطِ الذهنيِّ الناشئِ بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ) قد يفضي، كما ذُكِرَ، أيَّما إفضاءٍ إلى البناءِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي، بناءٍ يسيرُ باتِّجَاهِ ما آلتْ إليهِ إواليَّاتُ التكوينِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهَى (فيهِ)، إن لم «ينحرفْ» هكذا تكوينٌ عن اتِّجَاهِ ما آلتْ إليهِ إواليَّاتُهُ في الأصلِ، كما يمكنُ رصدُ هذا البناءِ النفسانيِّ رصدًا علميًّا في المسارِ «السَّوِيِّ» لسيرورتَيِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ. في هذه الحالِ، ها هنا، قد يعيدُ البناءُ النفسانيُّ المُتَكَلَّمُ عنهُ ذاتَهُ في حضورِ التقارُبِ العاطفيِّ حضورًا متواصِلاً بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ)، حضورًا ليس لَهُ إلاَّ أن يُطِيلَ بتواصُلِهِ هذا بقاءَ تفعيلِ وتأثيرِ سلسلةٍ تدرُّجيةٍ وتدريجيةٍ من أشكالِ البناءِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي ومن كذاك أشكالِ إعادةِ البناءِ النفسانيِّ لهذه الهُوِيَّةِ (إعادةً بنَّاءَةً نفسانيًّا أيًّا كانتْ تحوُّلاتُهَا)، عن طريقِ سلسلةٍ تدرُّجيةٍ وتدريجيةٍ موازيةٍ لها من حالاتٍ ناجمةٍ من أنواعِ التماهي نُجُومًا لا يدعُو إلى التنفيرِ ولا إلى الانسلابِ. وبناءً على ذلك، من قبيلِ الإيضاحِ الأكثرِ، يمكنُ إيرادُ المثالَيْنِ النموذجيَّيْنِ على فحوى الارتباطِ الذهنيِّ الناشئِ بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ) بمضمونِهِ الإيجابيِّ، على النحوِ التالي: تتماهى الطفلةُ في هُوِيَّةِ الأمِّ (أو في هُوِيَّةِ المرأةِ التي تنوبُ عن هذه الأخيرةِ)، ويتماهى الطفلُ في هُوِيَّةِ الأبِ (أو في هُوِيَّةِ الرَّجُلِ الذي ينوبُ عن هذا الأخيرِ). فيدلُّ هذا المضمونُ الإيجابيُّ، من ثَمَّ، على كَمٍّ وكَيفٍ من الإضفاءِ المثاليِّ من طرفِ المُتَمَاهِي بالذاتِ على ذاتِ المُتَمَاهَى (فيهِ)، إضفاءٍ مثاليٍّ يتجلَّى بوصفِهِ وسيلةً عاطفيةً يتَّخِذُ المنابُ الإنسانيُّ الأوَّلُ جَرَّاءَهَا المنابَ الإنسانيَّ الأخيرَ مثلاً أعلى أو نموذجًا يُحتذى[4]. لهذا السببِ، فإنَّ الصِّلَةَ اللبيديةَ التي تميلُ إلى النشوءِ عن نوعٍ، أو أكثرَ، من أنواعِ التماهي الإيجابيِّ إنَّما هي صلةٌ تتطبَّعُ، والحالُ هنا، بطابعِ شكلٍ مشتقٍّ من أشكالِ تركيزِ الطاقةِ النفسيةِ (أو الذهنيةِ) على الشخصِ أو الشيءِ، شكلٍ مشتقٍّ يُصْطَلَحُ عليهِ في كتاباتِ فرويد عادةً بـ«المَرْكَزَةِ (النفسانيةِ)» cathexis (أو حتى بـ«التوظيفِ (النفسانيِّ)» Investition، كما في اللغةِ الألمانيةِ أيضًا). وهذا التركيزُ، تركيزُ الطاقةِ النفسيةِ (أو الذهنيةِ)، يتطبَّعُ، بدورهِ هو الآخَرُ، بطابعِ رابطٍ نرجسيٍّ من روابطِ «الاشتهاءِ (الجنسانيِّ) المُمَاثِلِ» homosexuality: إذ ليس، في واقعِ الأمرِ، شكلُ «المَرْكَزَةِ (النفسانيةِ)» هذه، أو شكلُ «التوظيفِ (النفسانيِّ)» هذا، سوى شكلٍ آخَرَ من أشكالِ التمثيلِ الشخصيِّ أو التمثيلِ الشيئيِّ[5]. وهكذا، تتكشَّفُ هذه الصلةُ اللبيديةُ، بطابعِها النرجسيِّ المُبَيَّنِ للتَّوِّ، عن تغايُرٍ سَافرٍ بينها وبين تلك الصلةِ اللبيديةِ التي تنزعُ إلى النُّجُومِ عن ظاهرةِ «عقدة أوديبَ» الأكثرِ ألفةً في هذا المضمارِ، تلك الظاهرةِ التي تبيِّنُ، على الخلافِ، أنَّ «المَرْكَزَةَ (النفسانيةَ)» المعنيَّةَ، أو «التوظيفَ (النفسانيَّ)» المعنيَّ، إنَّما يتطبَّعانِ بطابعِ رابطٍ لانرجسيٍّ، أو «غيريٍّ»، من روابطِ «الاشتهاءِ (الجنسانيِّ) المُغَايِرِ» heterosexuality، كما سيتمُّ تفصيلُهُ فيما بعدُ. وبالتالي، تحثُّ ظاهرةُ التماهي، أيًّا كانتْ طبيعةُ مضمونِها، على الاقتراحِ بأنَّ الارتباطَ الذهنيَّ الحاضرَ الذي ينشأُ فعلاً بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ) إنْ هو، من حيثُ المبدأُ، إلاَّ تكرارٌ مباشرٌ أو لامباشرٌ لارتباطٍ ذهنيٍّ ماضٍ كانَ قد نشأَ بالفعلِ بين الوالدِ (أو الوالدةِ) وبين الجدِّ (أو الجدَّةِ) ذوَي الجنسِ المماثلِ، أو مَنْ ينوبُ عن المنابِ الإنسانيِّ الأخيرِ جنسًا مماثلاً كذلك: إذ يظهرُ أنَّ هذا التكرارَ المباشرَ أو اللامباشرَ للارتباطِ الذهنيِّ المعنيِّ إنَّما هو تكرارٌ تَزَمُّنِيٌّ diachronic repetition يُضفي على ظاهرةِ التماهي صفتَيْنِ نشوئيَّتَيْنِ متلازمتَيْنِ، تتعلَّقُ إحداهُما بنشوءِ الكائنِ الحَيِّ ontogeny وتتعلقُ الأُخرى بنشوءِ النوعِ الحَيِيِّ phylogeny.

وفيما يخصُّ المضمونَ السلبيَّ (أو المَرَضيَّ) لظاهرةِ التماهي، من طرفٍ آخَرَ، فإنَّ فحوى الارتباطِ الذهنيِّ الناشئِ بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ) قد يُسْهِمُ، على النقيضِ، أيَّما إسْهَامٍ في الهَدْمِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي، بدلاً من البناءِ النفسانيِّ لهذه الهُوِيَّةِ، هَدْمٍ يسيرُ باتِّجَاهِ ما آلتْ إليهِ إواليَّاتُ التكوينِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهَى (فيهِ)، إن «انحرفَ» هكذا تكوينٌ عن اتِّجَاهِ ما آلتْ إليهِ إواليَّاتُهُ أصلاً، كما يمكنُ رصدُ هذا الهَدْمِ النفسانيِّ كذاك رصدًا علميًّا، ولكنْ، والحَالُ، في المسارِ «اللاسَوِيِّ» لسيرورتَيِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنويِّ. ففي هذه الحالِ، هنا، قد يُفاقِمُ الهَدْمُ النفسانيُّ المُتَحَدَّثَ عنهُ من ذاتِهِ في وجودِ التباعُدِ العاطفيِّ وجودًا مستمرًّا بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ)، وجودًا ليس لَهُ إلاَّ أن يُخْضِعَ المُتَمَاهِيَ باستمرارِهِ هذا لتفعيلِ وتأثيرِ سلسلةٍ تدرُّجيةٍ وتدريجيةٍ من أشكالِ الهَدْمِ النفسانيِّ لهُوِيَّةِ المُتَمَاهِي عينِهِ ومن كذاك أشكالِ إعادةِ الهَدْمِ النفسانيِّ لهذه الهُوِيَّةِ (إعادةً هَدَّامةً نفسانيًّا أيًّا كانتْ تحوُّلاتُهَا، كذلك)، عن سبيلِ سلسلةٍ تدرُّجيةٍ وتدريجيةٍ موازيةٍ لها من حالاتٍ ناجمةٍ من أنواعِ التماهي نُجُومًا يدعُو إلى كلٍّ من التنفيرِ والانسلابِ. وتبعًا لذلك، ولكيما يتمَّ، من لَدُنِ المُتَمَاهِي عينِهِ، إبطالُ مفعولِ ذلك التأثيرِ التسلسُليِّ التدرُّجيِّ والتدريجيِّ الوشيكِ لأشكالِ الهَدْمِ النفسانيِّ المعنيِّ، تتحولُ ظاهرةُ التماهي إلى إواليَّةٍ أشدَّ فاعِلِيَّةً من إواليَّاتِ الدفاعِ الذاتيِّ self-defence mechanisms، إواليَّةٍ تشيرُ إلى ما يُسمَّى اصطلاحًا، في هذه القرينةِ، بـ«التماهي في المعتدي»، أي تَمَاهِي المُتَمَاهِي في هُوِيَّةِ شخصٍ مُعْتَدٍ أو حتى في هُوِيَّةِ شيءٍ لا يقلُّ اعتداءً، على حدِّ تعبيرِ آنا فرويد[6]، مع أنَّ أباها (أي زيغموند فرويد نفسَهُ) كانَ قد ألمعَ إلى فحواءِ هذه الإواليَّةِ، بنحوٍ أو بآخَرَ، في معرضِ الحديثِ عن تلك التجاربِ النفسانيةِ البغيضةِ والمُرْعِبَةِ، حينما يدركُها الطفلُ (المُتَمَاهِي)، أو تدركُها الطفلةُ (المُتَمَاهِيَةُ)، وحينما يستوعبانِها، من ثَمَّةَ، سَعْيًا حَثِيثًا وراءَ «اللذَّةِ والمَلَذَّةِ من مصدرٍ آخرَ»[7]. يتبيَّنُ بجَلاءٍ، إذن، أنَّ اللُّجُوءَ الجَلِيَّ إلى إواليَّةِ الدفاعِ الذاتيِّ هذه لَلُجُوءٌ إنْ هو إلاَّ محاولةٌ تنطوي على التمرُّدِ والعصيانِ، محاولةٌ تتيحُ للمُتَمَاهِي فُرَصَ التَّضَلُّعِ الشَّمُوسِ من ضَرْبٍ من ضُرُوبِ الحُصَارِ anxiety أو حتى من ضُرُوبِ الرُّهَابِ phobia، فتتيحُ لهُ بالتالي فُرَصَ التغلُّبِ «النَّجِيعِ» على هكذا حُصَارٍ أو على هكذا رُهَابٍ: إذ يحدثُ اللُّجُوءُ الجَلِيُّ إلى إواليَّةِ الدفاعِ الذاتيِّ هذه في حَالٍ نفسانيٍّ يُبَيِّنُ أنَّ المُتَمَاهِيَ بالذاتِ يحاولُ أن يتماهى في ذاتِ سِمَةٍ جِدِّ خاصَّةٍ من سِمَاتِ المُتَمَاهَى (فيهِ)، إنْ لم يَكُنْ أكثرَ منها، سِمَةٍ جِدِّ خاصَّةٍ ذاتِ طابعٍ عدائيِّ لم يزلِ المُتَمَاهِي بالذاتِ يقاسي منها في تجربتهِ مع المُتَمَاهَى (فيهِ) بذاتِ الذاتِ، ممَّا يولِّدُ في المنابِ الإنسانيِّ الأوَّلِ، في هكذا حالٍ نفسانيٍّ، شعورًا بالإبداءِ العدوانيِّ agressivity، كما تمَّ ذِكْرُهُ آنفًا. ثَمَّةَ أمثلةٌ نموذجيةٌ على فحوى الارتباطِ الذهنيِّ الناشئِ بين المُتَمَاهِي والمُتَمَاهَى (فيهِ) بمضمونِهِ السلبيِّ (أو المَرَضِيِّ) تشيرُ إلى طفلٍ يَتَهَوَّلُ من وجودِ معلِّمٍ صَفيقٍ ليس غيرَ، فإذا به يقلِّدُ كِشْرةَ هذا المعلِّمِ ذاتِهِ تقليدًا «لاإراديًّا»، أو تشيرُ إلى طفلةٍ تتخيَّلُ في حضورِ شبحٍ مُرِيعٍ فحسبُ، فإذا بها تتظاهرُ، والحَالُ، بأنها هذا الشبحُ ذاتُهُ تظاهرًا «إراديًّا». وهكذا، فمن خلالِ التَّحَاكِي «الإراديِّ»، أو «اللاإراديِّ»، لذاتِ سِمَةٍ جِدِّ خاصَّةٍ من سِمَاتِ المُتَمَاهَى (فيهِ) كانتْ قد أُدْرِكَتْ بطابعِها العدائيِّ، يسعى المُتَمَاهِي إلى تحويلِ ذاتِهِ تحويلَ العارِفِ من ذاتِ السُّلوكِ المُنفعِليِّ الدفاعيِّ إلى ذاتِ السُّلوك الفاعليِّ الهجوميِّ، تحويلٍ يُبدي للعِيانِ العكسَ الفعليَّ من أداءِ المُتَمَاهِي – وقد كانَ، في أوَّلِ المطافِ، يؤدِّي دورَ المعتدَى عليهِ ذاتِهِ، ثمَّ صارَ، في آخِرِ المطافِ، يؤدِّي دورَ المعتدِي ذاتِ ذاته. لهذا السببِ، فإنَّ الصِّلَةَ اللبيديةَ التي تميلُ إلى النشوءِ عن نوعٍ، أو أكثرَ، من أنواعِ التماهي السلبيِّ (أو المَرَضِيِّ) لا يمكنُ اعتبارُها صلةً تتطبَّعُ، والحَالُ هناك، بطابعِ رابطٍ نرجسيٍّ من روابطِ «الاشتهاءِ (الجنسانيِّ) المُمَاثِلِ»، كما هي الحَالُ في أنواعِ التماهي الإيجابيِّ، بل يمكنُ اعتبارُها صلةً تتطبَّعُ، والحَالُ هنا، بطابعِ رابطٍ ساديٍّ-مازوخيٍّ من روابطِ «الاشتهاءِ (الجنسانيِّ) المُغَايِرِ»، ذلك الرابطِ الفاعليِّ-المُنفعِليِّ الذي لا يعدُو أن يكونَ، في واقعِ الأمرِ، انصهارًا لاسَوِيًّا من دوافعَ لبيديةٍ وعدائيةٍ، على حَدٍّ سَوَاءٍ[8].

يَسْتَتْبِعُ ممَّا تقدَّمَ، إذن، أنَّ هذا التغايُرَ الصَّارخَ والسَّافرَ بين المضمونِ الإيجابيِّ وبين المضمونِ السلبيِّ (أو المَرَضِيِّ) لظاهرةِ التماهي إنَّما يفترضُ افتراضًا مقدَّمًا، إلى حدِّ التوكيدِ بتقديمِهِ القاطعِ، أنَّ لظاهرةِ التماهي هذه طبيعةً ازدواجيةً ازدواجًا تأرجُحِيًّا (أو حتى تناقُضِيًّا)، طبيعةً تؤكِّدُ تأكيدًا على أهمِّيَّةِ، وعلى خطورةِ، هكذا ظاهرةٍ نفسانيةٍ، من حيثُ كونُها طُوَيْرًا مشتقًّا من طُوَيْرَاتِ ذاتِ «الطَّوْرِ الفمِّيِّ» oral phase في أطوارِ التطوُّرِ اللبيديِّ والتطوُّرِ الأنَوِيِّ، حيثُ يتمُّ في هذا الحينِ كُنُونُ الرَّغائبِ كُلاًّ، على اختلافِ درجاتِ جُمُوحِها وعلى ائتلافِ دركاتِ جِمَاحِهَا كذاك، حيثُ يتمُّ في هذا الحينِ كُنُونُ الرَّغائبِ كُلاًّ في ذاتِ الشخصِ أو ذاتِ الشيءِ (الخارجَيْنِ عن الذاتِ الرَّاغبةِ)، وحيثُ يُصَارُ من ثمَّ إلى تحطيمِ وإلى تدميرِ هذا الشخصِ ذاتِهِ أو هذا الشيءِ ذاتِهِ كلِّيَّةً في حينٍ آخرَ – تمامًا مثلما تتجلَّى هكذا «تَيْمُومَةٌ» وهكذا «صَيْرُورَةٌ» في التَّمَارُسِ الحياتيِّ الفعليِّ الذي يتمارسُهُ والخِصْمَ آكِلُ اللَّحْمِ البشريِّ المُعَرَّبُ تَسْمِيَةً بـ«القَنْبَلِيِّ» cannibal، ذلك الأدميِّ المتوحِّشِ الذي يُبدي في البدايةِ توقًا رَغَائِبِيًّا شديدًا إلى التهامِ ألدِّ خُصُومِهِ، ولكنَّهُ في النهايةِ يعدو بتوقٍ رَغَائِبِيٍّ أشدَّ إلى التهامِ أحَمِّ أصدقائِهِ وأحَمِّ أقربائِهِ وحتى أحَمِّ مُساكِنيهِ الأشدِّ حميميةً من هؤلاءِ كلِّهِمْ وبكلِّيَّتِهِمْ[9].


[انتهى القسم الأول من هذا المقال ويليه القسم الثاني]


_________

المراجع

Abraham, Karl (1927): Selected Papers. Hogarth Press.

Freud, Anna (1937): The Ego and the Mechanisms of Defence. International Universities Press, Inc.

Freud, Sigmund (1900): The Interpretation of Dreams. Penguin Freud Library, vol. 4.

Freud, Sigmund (1905a): Three Essays on the Theory of Sexuality. Penguin Freud Library, vol. 7.

Freud, Sigmund (1905b): Fragment of an Analysis of a Case of Hysteria. Penguin Freud Library, vol. 8.

Freud, Sigmund (1920): Beyond the Pleasure Principle. Penguin Freud Library, vol. 11.

Freud, Sigmund (1921): Group Psychology and the Analysis of the Ego. Penguin Freud Library, vol. 12.

Freud, Sigmund (1924a): The Dissolution of the Oedipus Complex. Penguin Freud Library, vol. 7.

Freud, Sigmund (1925): Some Psychical Consequences of the Anatomical Distinction Between the Sexes. Penguin Freud Library, vol. 7.

Freud, Sigmund (1931): Female Sexuality. Penguin Freud Library, vol. 7.

Fromm, Erich (1979): To Have or to Be. Abacus.

Lacan, Jacques (1953): Some reflections on the ego. International Journal of Psychoanalysis, 34:11-17.

Lacan, Jacques (1960-1): Le Séminaire. Livre VIII. Le Transfert. Paris: Seuil.

Lacan, Jacques (1966a): Écrits: A Selection. Trans. Alan Sheridan. Routledge (1997).

Lacan, Jacques (1966b): Écrits. Trans. Bruce Fink. Norton (2006).

Lagache, Daniel (1962): Pouvoir et personne. L’évolution psychiatrique, 1:111-119.



***


الحواشي

[1] لاحظا، هنا، أنَّ الصيغةَ الفعليةَ في اللغةِ الإنكليزيةِ تختلفُ، بعضَ الشيءِ، عن نظيرتِها في اللغةِ العربيةِ في السياقِ المتعدِّي الأحاديِّ والسياقِ المتعدِّي الثنائيِّ، تحديدًا. فأمَّا في السياقِ المتعدِّي الأحاديِّ، فيدلُّ المعنى الجذريُّ للصيغةِ الفعليةِ المقابلةِ identify على فحوى تعيينِ هُوِيَّةِ الشخصِ أو الشيءِ، مثلاً: He could not identify the writer of this book (= «لم يكنْ بوسعِه التعرُّفُ إلى مؤلِّفِ هذا الكتابِ»). وأما في السياق المتعدِّي الثنائيِّ، فيشيرُ المعنى الجذريُّ للصيغةِ الفعليةِ ذاتِها إلى فحواءِ المماثلةِ أو المطابقة بين الشخصَيْنِ أو الشيئَيْنِ المعنيَّيْنِ، مثلاً: She was always identifying Stalin with Hitler (= «كانتْ على الدوامِ تقارنُ ستالين بهتلر»)، إلى آخرِه.

[2] ممَّا يجدرُ بالذِّكْرِ المقابلِ، من ناحيةٍ أُخرى، أنَّ فرويد يستخدمُ مصطلحَ «التَّمَاهِي» Identifizierung، أيضًا، بالإشارةِ إلى المعنى الجذريِّ في إطارِ السياقِ المتعدِّي الثنائيِّ للمصطلحِ المُحَاذي «الدَّمْجُ» في اللغةِ العربيةِ، وذلك من خلالِ ما يقتضيهِ اقتضاءً اصطلاحيًّا تنظيرُهُ حول عملِ الحلمِ dream-work، تحديدًا. ففي هذا السياقِ المتعدِّي الثنائيِّ، يؤكِّدُ فرويد على فحواءِ المماثلةِ أو المطابقةِ بين شخصَيْنِ أو شيئَيْنِ (انظرا: الحاشية 1) لكيما يؤكِّدَ على المقايسةِ بين عمليَّتَيِ «الدَّمْجِ» و«الاستبدالِ» substitution. وهكذا، فإنَّ العمليةَ التي يتمُّ بواسطتِها «دمجُ» صورةٍ (حلميةٍ) في صورةٍ (حلميةٍ) أُخرى، على سبيلِ المثالِ، إنَّما تقايسُ العمليةَ التي يتمُّ بواسطتِها «استبدالُ» صورةٍ (حلميةٍ) بصورةٍ (حلمية) أُخرى، لمجرَّدِ أنَّ الصورتَيْنِ (الحلميَّتَيْنِ) المعنيَّتَيْنِ متماثلتانِ أو متطابقتانِ (قا: فرويد، 1900، ص 231 وما يتبعها، ص 431 وما يتبعها، إلخ).

[3] قا: فرويد، 1921، ص 134.

[4] قا: فرويد، 1921، ص 134 وما يتبعها.

[5] بما أنَّ التمثيلَ الشخصيَّ، أو التمثيلَ الشيئيَّ، يشيرانِ إلى التمثيلِ النفسانيِّ للمفعولِ الخارجيِّ أو للعالَمِ الظاهريِّ (أي الشخصِ أو الشيءِ اللذين يوجدانِ خارجَ النفسِ أو العالَمِ الباطنيِّ)، وأنَّ المفعولَ الداخليَّ يدلُّ على نفسِ الفاعلِ ذاتِها بالمعنى اللسانيِّ (أي السياقِ الانعكاسيِّ، أو المطاوعيِّ، لفعلِ «الدَّمْجِ» كمصطلحٍ لغويٍّ محاذٍ لمصطلحِ «التماهي»، كما سبقَ ذكرُهُ في بدايةِ النصِّ)، يُؤمَلُ من القارئةِ الكريمةِ والقارئِ الكريمِ ألاَّ يخلطَا خطأً بين المفعولِ الداخليِّ، بوصفِهِ إحدى الكينونتَيْنِ النفسانيَّتَيْنِ الأساسيَّتَيْنِ لفعلِ التماهي، وبين الكينونةِ النفسانيةِ التي اكتسبتْ أهميةَ المفعولِ الخارجيِّ، بوصفِهِ إحدى الكينونتَيْنِ النفسانيَّتَيْنِ الأساسيَّتَيْنِ لهذا الفعلِ، أيضًا. فإذا تمَّ تمثيلُ المفعولِ الداخليِّ تمثيلاً نفسانيًّا لكي يكتسبَ أهميةَ المفعولِ الخارجيِّ، فللمفعولِ الداخليِّ، عندئذٍ، أنْ يشابهَ تلك الصورةَ التي تحدُثُ «بدئيًّا» في عوالمِ التخيُّلِ (أو الاستيهامِ) والخيالِ والتخييلِ الحالمِ (أو حتى الحلمِ النهاريِّ). لهذا السببِ، كثيرًا ما يجري في أدبياتِ التحليلِ النفسيِّ الخلطُ خطأً بين مصطلحِ «التماهي» بمعناهُ الحاليِّ وبين معاني مصطلحاتٍ أُخرى، من مثلِ: مصطلحِ «التذويتُ (الحقيقيُّ)» internalization (أي إضفاءُ صفةٍ ذاتيةٍ حقيقيةٍ على الشخصِ أو الشيءِ) ومصطلحِ «التذويتُ (التخيُّليُّ)» incorporation (أي إضفاءُ صفةٍ ذاتيةٍ تخيُّليةٍ (أو استيهاميةٍ) على الشخصِ أو الشيءِ)، وما أشبهَ ذلك.

[6] قا: فرويد، آ.، 1937، ص 109 وما يتبعها.

[7] قا: فرويد، 1920، ص 286؛ فرويد، 1931، ص 383 وما يتبعها.

[8] قا: لاغاش، 1962، ص 111 وما يتبعها.

[9] قا: فرويد، 1905 آ، ص 116 وما يتبعها؛ فرويد، 1921، ص 135.





* عن مجلة معابر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى