رمضان الصباغ - العقلانية العربية ومشكلات الحداثة

إذا كانت بعض سمات الفكر القديم لا تزال راسخة في عقول العديد من الناس ممن لا يطرحون الأسئلة الجديدة على أذهانهم ، فإنها أيضاً تلقي ببعض ظلالها على أفكار من يشتغلون بالبحث عن الجديد ، وهذا يشكل عائقاً جوهرياً أمام كل معرفة جديدة وإذا كان الفكر الحديث يرتكز بالدرجة الولي على التفكير العلمي ، حيث يعدّ العقل هو الحكم الأول على أفكارنا ، فإن التفكير العلمي الذي يقوم على التجربة والممارسة إنما يؤكد على نفي كل قديم ، ولا يتصالح معه بل ينهض على أنقاضه فكل تفكير جديد هو في صراع مع التفكير القديم ، فالجديد يقوم على ما هو نسبي متحرراً مما هو قبلي ومطلق

وعلى هذا الأساس فإن الفكر العقلاني بما هو فكر علمي – أو لكي يكون هكذا – فإنه في سجال مع الفكر السّلفي بما يرتكز عليه من القبليات والبديهيات ، ولا عقلانية ، وأساطير ومسلمات ، لا تقبل النقد 0 بل تجرّمه ، وتكفّره

وقد نشأت العقلانية وترسخت عندما تحرر العقل الإنساني من الاعتماد على الماضي وتقديسه ، وتخلّي عن النقل ، وانطلق بعيداً عن سيطرة فئة من اللاّهوتيين إدّعو امتلاك الحقيقة المطلقة وكان انفلات العقل من هذه السيطرة متزامناً مع بدء ظهور نوع من الحياة المدنية تقوم على أسس جديدة يحكمها العقل والمنطق ، وينتهي فيها دور التعصب العرقي والديني والعلاقات القبلية والعشائرية وتتحول فيه الحياة ، إلى حياة يمتلكها الإنسان ، يجددها ويتجدّد معها

والجدير بالذكر أن ظهور النزعة العقلانية وتطورها قد تزامن مع التخلص من العلاقات الريفية والبدائية ، وظهور الإنتاج الصناعي الذي غير إيقاع الحياة ، واستبعد القيم الريفية والبدائية ، وأحلّ محلها قيما تتوافق مع المجتمع الصناعي وكان كلما تقدّم المجتمع الصناعي ، إزدادت العقلانية ازدهاراً ، وتقلّص دور اللاهوتيين ونمتْ الفلسفة العقلانية والتفكير العلمي وكان الإنسان إذ يطور من أدواته الإنتاجية (في الاقتصاد) وأدواته في العمل الذهني ، يتطور معها ، يثريها ، وتثريه

وهكذا صارت القيم السائدة قيما اجتماعية مدنية تقوم على العقل فالتطور الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن التقدم في العلم والتكنولوجيا وتطويرهما لأدوات الإنتاج أدّي إلى طفرة في العلاقات الاجتماعية ، ومن ثم إلى تغيرات عميقة في القيم ، وإيجاد قيم جديدة لم تكن ذات بال في المجتمعات القديمة

وإذا كانت العقلانية ترتكز على النسبية ، هذه النسبية التي صارت واضحة جلّية في كل ميادين الحياة المعاصرة ، نظرية وتطبيقية ، من المعرفة إلى القيم ، ومن السياسة إلى الاقتصاد إلخ فإن هذه العقلانية لا تعني الجمود والتحجر ، أو التمذهب والتحول إلى لاهوت ، بل إن ما يجعلها عقلانية بحقّ هو ممارسة النقد تجاهها لأن ذلك هو الذي يسمح بتجدّدها ، وتطورها واتسّاع مجالاتها 0 كما أن الاعتقاد السابق باليقين المطلق ، وعجز العقل لن يصححه في الحقيقة – سوى سلاح النقد ، والصراع الفكري الذي بوسعه توضيح الخطأ من الصواب على أسس عقلية وعلمية

وإذا كنا في مجتمعاتنا العربية ندرك بوضوح الجنوح بعيداً عن العقلانية ، والتعلل بالأساطير والخرافات ، والتمسك بالماضي ، ومحاولة إيجاد حلّ لكل مشاكلنا في ماضينا ، أو القياس على حلول لبعض المشكلات التي حدثت في الماضي وكيف حاول السلف حلّها كل هذا ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين بكل ما فيه من تقدم علمي وفكري وفني واجتماعي

فإن المشكلة الأساسية تكمن في استدعاء حلول من أزمنة مغايرة تماما لزمننا الحالي فلم تكن المجتمعات القديمة بهذا التعقيد الذي نراه الآن ، وكانت حياة الأسلاف بسيطة ، وبالتالي مشكلاتهم مختلفة وأبسط من توجد الآن

لقد كانت خواص التفكير البدوي والريفي ، هي نتائج لأنماط الإنتاج السائدة آنذاك ، وللظروف التاريخية ، والعلاقات السائدة داخل هذه المجتمعات ، وبينها وبين المجتمعات الأخرى ذات العلاقة وبالتالي فإن ظروف هذه المجتمعات كانت تجعل الفكر السائد فكراً سحرياً وأسطورياً ، إنه فكر ينطلق من عقل يمثل طفولة الإنسان ، وقد استقاها من العلاقات الريفية والبدوية ، والتي ترسخّ السكون والاستاتيكية ، والتمسك بالماضي ، وتقديس الأسلاف فالإنسان الريفي ، أو البدوي ، يرفض كل جديد ، لأن هذا الجديد سوف يدمرّ مصالحه ، ويقلق ذهنه ، وهو المشغول دائماً بالماضي ومارتّبه له من استقرار ، وما حققه له من فوائد ، سواء كان من المستغلّين الذين ينعمون بكدّ الآخرين ، أو كان من الشعب الذي يعاني الجهل والأمية ، وبالتالي لا يعرف حقوقه فيركن إلى الاستكانة والطاعة والرضا بالأمر الواقع ، والهروب إلى الغيبيات والخرافة

ومن هنا فإنه عندما بدأت مع القرن التاسع عشر تهب رياح العقلانية – على بلادنا رغم أن شروطها لم تكن مكتملة – كانت المقاومة لها ، وما زالت ، على أشدّها ، وكان المفكرون الذين حاولوا نشرها وتطبيقها في أعمالهم ، يعانون من الاضطهاد ، والقهر ، كما أنها تعرّضت على أيدي معارضيها لكثير من التشويه والرفض

ولقد كان لتشوّه العقلانية – في بعض الأحيان – أسبابه الجوهرية التي ترجع إلى نشأتها في بلادنا فقد كانت العقلانية الأوروبية تعبيراً عن تطور اقتصادي جوهري أدي إلى قطيعة مع العصر السابق على المستويات الاقتصادية والاجتماعية ، ومن ثم المعرفة فقد نشأت الرأسمالية الأوروبية في تضاد مع الإقطاع ، وبالتالي كان الفكر الحديث في قطيعة مع الفكر القديم

وقد كان الشكّ هو الأساس الذي قامت عليه الأفكار الحديثة في مواجهة يقين الفكر القديم وكان العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر - على حد تعبير ديكارت – فكانت حرية الإنسان ، والاعتراف بحقوقه الطبيعية وحقه اختيار أنظمة حياته السياسية والاجتماعية وغيرها أي أن الإنسان هو صانع القيم وباني الحضارة وكان النقد للماضي هو جوهر العمل الذهني

أما في مجتمعاتنا فإن الرأسماليين خرجوا من بطن كبار الملاك – الطبقة القديمة – وبالتالي لم يكن الصراع بين الطبقتين موجودا ، بل تم على جميع المستويات التوفيق بين القديم والجديد وفي نفس الوقت كانت هذه الطبقة الرأسمالية الجديدة طبقة (رثة) ، فهي تعمل في التجارة ، وتقوم على التوكيلات للرأسمالية الغربية ، أي أن علاقتها بالإنتاج ليست سوي علاقة هشة أو معدومة وقد أدي ذلك إلى عدم القطيعة مع الماضي ، وما يمثله من أفكار ، بل انتشار الفكر القديم إلى جانب الجديد ، مع الأفكار التوفيقية والتلفيقية ، كما أنه أدي أيضاً إلى تشوّه في العلاقات الاجتماعية ، والقيم ، فنجد القيم الجديدة تحاول التوافق مع القيم القديمة

لقد استمر المجتمع التقليدي الذي ما زالت العلاقات البدوية في بعض المجتمعات ، والريفية في البعض الآخر قائمة به جنبا إلى جنب مع مجتمع صناعي يعيش على الاستهلاك ، وينتج نخبة ، تحاول قطع جذورها مع المجتمع التقليدي ، بل وتجد في آليات هذا المجتمع حفاظاً على مكتسباتها ، وعلى تحيزّها لقد أصبح المثقفون العصريون هنا أشبه بالكهنة في بعض الأحيان فقد حالت أصولهم الأرستقراطية ، والأمية التي تسيطر على جماهير الشعب من وصول الأفكار التحررية والعقلانية إلى الأغلبية ، كما حالت الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردية للشعب ، وفترة الاستعمار دون اندماج أو اقتراب المثقف من المواطن العادي وفي أغلب الأحوال كانت تصل الإنسان العادي الأفكار الرجعية التي تدعوه إلى الاستكانة والسكون ، وترسخ عجز العقل ، والفوارق الطبقية والعقلية ، وكذلك ترسخ العنصرية بين البشر

وإذا كانت الأفكار هي نتيجة لما يدور في المجتمع يؤثر فيها وتؤثر فيه ، فإن ما نتج من أفكار في مجتمعنا كان بالضرورة يحمل سمات ما يدور في مجتمعنا فنجد الفكر العلمي والعقلاني بدءاً من " شبلي شميل" " وفرح أنطون" ، " وطه حسين" ، " وفؤاد زكريا" ، وغيرهم الذي يواجه انتشاره عقبات كثيرة ثم الفكر اللاهوتي السلفي الذي ينتشر بشكل أوسع بين الناس ، وأخيراً بعض الاتجاهات التوفيقية والتي كانت تجد صداها في بعض الصحف ، وفي الجامعات

لقد عاني العقلانيون في بلادنا من سيطرة العقلية التقليدية وانتشار الفكر القديم ، وسيطرته على كثير من العقول ، وذلك بما قام به مروجوا الفكر التقليدي من تسطيح للأفكار الجديدة ، ومهاجمتها بعنف ، ودون قراءة أو فهم ، ولإدعاء بأنهم أصحاب الحق في الخوض في كل المجالات العلمية والإنسانية والحياتية متسلحين بفكر ما ضوي يدافع بشراسة عن نفسه معتمدا على الأمية والجهل المنتشرين في المجتمع وقد عمد أصحاب هذا الفكر إلى استخدام كل الوسائل فهم يستخدمون الدين ، والخرافة والأسطورة والأمثلة الشعبية الدراجة – والتي جاءت من الماضي لتعبر عن ظروف وعلاقات عفي عليها الزمن ، وتقاوم كل جديد

لقد ادّعو أن أفكارهم هذه عابرة للأزمنة ، ويقينها مطلق ، وتعارض كل فكر نسبي ويرفضون أحكام العقل والتجربة والممارسة العملية ، كما يرفضون تعدد الآراء ، ويجعلون من المفاهيم النظرية أساساً يمتحنون به الواقع ، مع أن الواقع والتجربة العملية هما المحك الحقيقي لصواب أو خطا الأفكار النظرية

وإذا كان التقليديون يجعلون مرجعيتهم في النصوص ويعبدون الأجداد على أساس أن هذا يحافظ على الهوية ، فإن ذلك يتنافي مع واقع الهوية الذي لا علاقة له بما هو ما ضوي ، أو بنصوص محنطة في المتاحف ، بل تعدّ الهوية تعبيراً عن الذات وعلاقتها بالآخر في ظل ظروف اجتماعية وسياسية ودولية محددّة ، وهي – أي الهوية – متجدّدة بتجدّد وتغير هذه الظروف فالتراث يجب ألا يكون عبئاً على الحاضر ، أو سلاحا تواجه به الحداثة والتقدم ، بل يجب دراسته في إطار عصره ، والظروف الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الدولية التي اتبعتهُ والتي هي بالضرورة مختلفة جذرياً عما هو كائن الآن أي أن التشدّق بالتراث كبديل عن الفكر المعاصر ليس إلا هروباً ونكوصاً من العصر ومشكلاته

إن القول بالأفكار المستوردة ، أو الغزو الفكري ليس إلا محاولة للتقوقع على الذات ، والتكلّس وعدم طرح السؤال الأساسي الذي يدخلنا في العصر الحديث كما إن القول بأن لنا قيمنا ، وأن الغرب بلا قيم ، ليس إلا قولاً مرسلاً لا علاقة له بالعلم ، ذلك أن القيم موجودة في كل المجتمعات ، وفي كل الطبقات والفئات وهذه القيم ليست مطلقة – كما أوضحنا – بل هي نسبية ، وذات صلة وثيقة بالمجتمع وتطوره ودرجات الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي للأفراد والجماعات وكلما تقدم المجتمع ، كلما كانت قيمه ارقي وأفضل فالمجتمع الصناعي يهجر القيم الكائنة في المجتمعات الإقطاعية والقائمة على علاقات ريفية والمجتمعات البدوية القائمة على علاقات عشائرية وقبلية فلا وجود لمجتمع بلا قيم ، وإنما الموجود هو مجتمعات مختلفة بقيم مختلفة

وكما أن الفرد الذي يستوعب أفكار الحداثة يرفض القيم التي لا ترتبط بها – أي القيم القديمة ، كذلك في المجتمعات المتخلّفة يرفض أفرادها وجماعاتها قيم الحداثة وإذا كان من المنطقي أن نربط الفكر والقيم بالمجتمع الجديد ، وننحو باتجاه التجديد ، فإنه من غير المنطقي أن نربط نهضتنا الثقافية والاجتماعية بالتراث ، لأن التمسّك بالتراث – كتراث – ومحاولة جعله أيديولوجية حاكمة لنا إنما يعوق ، بل يقوض ، دخولنا إلى الحداثة ، وبالتالي يجعلنا خارج العصر ، ومجرد كائنات فلكورية تعيش على هامش التاريخ

إن الفكر التقليدي إذ يتعلل بالأساطير ويقع تحت سيطرة التراث فإنه يصور الجديد في الفكر والفن والعلم 00 إلخ كعدو له ، وتدمير لوجوده ، مستنجدا في ذلك باللاهوتيين والقوي الظلامية التي تحول الحوار بين الجديد والقديم إلى اغتيالات وقهر وإرهاب والتي تلغي قانون العقل ، وتلجأ إلى النصّ وتؤكد على الطاعة العمياء والاستجابة المستكينة

إن الموقف الذي ينبع منه العداء للفكر المعاصر بتطوراته وتعقيداته ، والرفض الدائم لإنجازات العلم والعقل ، إنما يقوم على أساس من الجهل وعدم القدرة على استيعاب الإبداع نتيجة للخضوع المستمر للقهر الفكري ، وعبادة الأسلاف والعنعنة ، والعمل دائماً على إيجاد مبرّرات للحاضر في الماضي ، واستمرار مخاطبة الغرائز لا العقل ، والاعتماد على الانفعالات والعواطف ، والركون إلى لغة بدائية ترسّخ التفكير الفطري والبدائي

ولذا فإن النهوض بالمجتمع سواء كان في مجالات الفكر أو العلم أو الفن أو السلوك الاجتماعي ، إنما ينهض بالدرجة الأولى على التفكير العلمي ، واستخدام العقل كحكم في كل شئ وبذلك كان أول ما يجب أن يقوم به الإنسان الراغب في الحياة الحقيقية هو إزالة العقبات التي تقف في طريق التفكير العلمي ، والعقلاني ، ثم الولوج إلى عالم العلم والعقل متسلحاً بالأدوات والآليات الضرورية لذلك

وإذا كانت اللاعقلانية تعتمد على الأساطير والخرافة ، فإن أول ما يقاومه الإنسان يجب أن يكون هو التخلص من سيطرة وقوّة هذه الأساطير وتلك الخرافات التي عايشها سنوات وسنوات كما يجب عليه التخلص من سيطرة الأشخاص سواء كانوا أجداداً أو معاصرين وذلك على أساس أحترام العقل ، وجعل كل فكر ، وكل سلوك قابلاً للنقد ، وتشغيل ملكة النقد هذه دائماً هو الضمان للتجديد والتغيير ، واستعاب الحداثة

وإذا كان المجتمع القديم يجمع بين أنماط مختلفة من العلاقات الإنتاجية ، وبالتالي فإنه يجمع أنماطا متباينة من التفكير ، بعضها في صراع مع البعض الآخر ، وفي أحسن الأحوال يلجأ إلى التوفيق بين هذه الأتجاهات المتباينة ، فأن هذه التوفيقية تعد عائقاً أصيلا في فكرنا العربي ، ولذا يجب اجتثاثها والتخلص منها لأنها تمسخ كل جديد وتحوله إلى كيان ميّت لا حياة فيه كما أنها تعوق الإبداع والتقدم ، وترسخ فكرة أنه ليس في الإمكان إبداع مما كان هذه الفكرة التي تصادر على التجديد والتغيير

ومن هنا فإن القطيعة الابستمولوجية هي الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه عملية التغيير والإبداع وذلك لأن المعرفة الجديدة هي تدمير للمعرفة القديمة ، كما أن المجتمع الجديد ، هو تغيير جذري ، أو نفي للمجتمع القديم وعلى هذا الأساس فإننا نرى أن لكل عصر فكره وقيمه وعلاقاته الاجتماعية إلخ ، وكذلك فإن المحاولات التي يقوم بها البعض لاستدعاء بعض الأفكار أو القيم أو الحلول للمشكلات معتمدين على التراث ليس إلا نكوصا وهروباً ، وفي أحسن الأحوال مغازلة لأصحاب الفكر التقليدي ، والوقوع في براثنهم والخضوع لآلياتهم

ولذا فإنه إذا كان الأصوليون يقدّسون النصّ ، ويرجعون إلى الماضي في كل شئ ، ويلجأون إلى الكتب الصفراء ، والنصوص شديدة التعصب والتزمت والتي جاءت نتيجة لعصور الانحطاط والتدهور سواء كان ذلك من الأحاديث الموضوعة ، أو أعمال أبو حامد الغزالي ، أو فخر الدين الرازي والأشاعرة ، أو ابن تيمية وغيرهم ممن يؤكدون على ضرورة الانصياع للماضي والتواكل ، والركون إلى الأساطير ، واللامنطق ، والجبرية إلخ فإن من يلجاون إلى الماضي أيضاً من بعض دعاة العقلانية التوفيقيين – إلى عصور ازدهار الفكر العربي في بداية العصر العباسي ، في عصر الترجمة ونقل الفكر اليوناني ، أو في فترات متأخرة ظهر فيها الجنوح أحياناً إلى العقلانية ، إنما يفعلون نفس ما يقوم به الأصوليون ، وذلك يرسخ فكر الماضي ويقلل من فرص الإبداع ويؤكد أن الماضي يحتوي كل شئ 0 وهذا ينفي النظرة التاريخية ، والتفكير النسبي والعقلاني ، ويؤكد على سطوة التراث وجبروته

إنهم قد يفعلون ذلك حتى لا يقال بأنهم بلا جذور ، أو بلا ماض ، وإنهم يغازلون اللاّعقلانيين الأصوليين في زمن ليس هو زمن الغزل ، بل الصراع وهم بذلك يتناسون أن الفكر يعبر ويعكس أوضاعاً اجتماعية واقتصادية وعلاقات محلية ودولية محددة ، وموسوم بمسيم عصر محدّد ، وهذا يجعله لا يصلح لكل زمان ومكان إنهم إذ يفعلون ذلك يتضح أنهم لم يتخلصوا من العديد من الأمراض الفكرية السائدة في فكرنا العربي ، مثل التوفيقية ، وعبادة الماضي والأجداد 0 ويتناسون الأسس التي يقوم عليها الإبداع الحقيقي

إن المأزق الأساسي الذي يعاني منه الفكر العربي هو هذا الفقدان لروح المغامرة – عند الكثيرين – وعدم القدرة على التخلص من سطوة الماضي (أي التراث الفكري) والأجداد والوقوف ضد عجلة الزمن وعدم إدراك التغيّرات المذهلة التي حدثت في الحياة منذ كان الإنسان في طفولته الفكرية إلى يومنا هذا 0 هذا التغييرّ الذي يحدث الآن في طفرات ، ويأتي كل يوم بجديد

ولكي نعيش العصر ونشارك في صنع ما يعتمل به من أفكار ، وإبداعات ، فانه يجب علينا التخلص من كل أساليب القهر الاجتماعي والتي تؤدي إلى تغييب الوعي ، وتضليل الإنسان وحرفه عن الطريق الصحيح للمشاركة في صياغة الواقع والتأثير في كافة المجالات الحياتية ، وهذا بدوره سوف يساعد على تحرير الإنسان من الحاجة وضغوط الضرورة ، فيكون بالوسع تحرير عقله من بعض القيود ، ثم يجئ دور نشر الوعي العقلاني والتفكير العلمي ، والتأكيد على حرية النقد ، وإيجاد أساليب حضارية للحوار واستشراف المستقبل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى