لانجستون هيوز Langston Hughes - شكراً لكِ يا سيِّدتي Thank You, M'am.. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

هي امرأة بالغة الضخامة، ذات حقيبة يدوية تشاركها في صفة الضخامة... تحمل في حقيبتها المتدلية من على كتفها بشريط طويل كل شيء عدا المطرقة والمسامير. كانت في تلك الليلة تسير وحيدة عائدة إلى دارها نحو الساعة الحادية عشرة عندما داهمها من الخلف صبي وهو يعدو؛ محاولاً خطف الحقيبة من على كتفها. شدَّ الصَّبي شريط الحقيبة فقطعه. بيد أن وزنه مضافاً إليه وزن الحقيبة أفقده توازنه، وعوضاً عن خطف الحقيبة والهروب بأعجل ما تيسر كما كان يؤمل، سقط الصَّبي، بحيث أصبح ظهره على الرصيف ورجلاه في الهواء. التفتت المرأة الضَّخمة في بساطة ورفسته بقوة بين رجليه، ثم انحنت والتقطته من مقدمة قميصه وهزَّته بشدة حتى اصطكَّت أسنانه.

بعد ذلك صرخت في وجهه قائلة: "التقط حقيبتي أيها الصبي وأعطني إياها". ظلت ممسكة به بقوة، وانحنت قليلاً لتدع له فرصة لينحني ويلتقط الحقيبة. خاطبته في حزم وهي تشده من طرف قميصه: "والآن... ألستَ خجلاً من نفسك؟". أجاب الصبي بصوت خافت: "نعم يا سيدتي".

سألته المرأة: "ماذا كنت ستفعل بها"؟

أجاب الصَّبي: "لم أكن أقصد".

ردَّت المرأة بسرعة: "يا لها من كذبة"!

في تلك اللحظات مرَّ رجلان أو ثلاثة... والتفتوا نحوهما ليروا ماذا يجري، وتوقف بعضهم ليشاهد في صمت.

سألت المرأة الصَّبي: "إن فككت إسارك هل ستطلق ساقيك للريح"؟

أجاب الصَّبي: "نعم يا سيدتي".

ردت المرأة: "إذن لن أفك إسارك". وظلت قابضة بشدة على طرف قميصه.

همس الصبي مستعطفاً: "إنني آسف يا سيدتي... جدُّ آسف".

" صدقتك! يا لقذارة وجهك! أفكر في أن أغسل وجهك نيابة عنك. أليس لديك في البيت من ينصحك بغسل وجهك"؟

" لا يا سيدتي". أجاب الصبي.

"إذن سوف يغسل وجهك الليلة". ومضت المرأة الضخمة في طريقها للبيت وهي تجر في قبضتها الصبي المذعور.

بدا لها أن الصبي لما يتجاوز الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره. كان يرتدي حذاءاً رياضياً قديماً وبنطال جينز، وكان هزيلاً وذو ملامح جنائزية.

قالت له المرأة وهي تجُرُّه جراً: "كان من الممكن أن تكون ابناً لي. كنت حينها سأعلمك الفرق بين ما يصح وما لا يصح. كنت على الأقل سأغسل وجهك المتسخ. هل أنت جائع"؟

"نعم يا سيدتي، لكني فقط أود أن تطلقي سراحي".

سألته المرأة الضخمة: "هل سببت لك إزعاجاً ما عندما رأيتني في ذلك الركن"؟

"لا يا سيدتي". أجاب الصبي.

"لقد وضعت نفسك في طريقي. إن كنت تظن أن ذلك سيمر هكذا فأنت واهم. عندما أنتهي من أمرك يا سيدي، سوف تظل دوماً تتذكر السيدة ليولا بيتس واشنطن جونز".

بدأت حبات العرق تتجمع على وجه الصبي، وبدأ يتململ ويقاوم. توقفت السيدة جونز، وجرَّته قريباً من وجهها ثم وضعت يدها حول عنقه ومضت تجره وهي في طريقها للبيت. عند وصولها للبيت جرته إلى الداخل ومضت به نحو غرفة واسعة تحوي مطبخاً صغيراً في نهايتها. أضاءت المصباح الكهربائي وتركت الباب مشرعاً. سمع الصَّبي أصوات أناس يسمرون ويضحكون في البيت الكبير. كان بعضهم قد ترك أبواب غرفة مفتوحة. تيقَّن الصَّبي أنه ليس وحيداً مع المرأة الضخمة. كانت ما زالت تقبض بشدة على عنقه وتقف ممسكة به في منتصف الغرفة.

سألته: "ما اسمك"؟

أجابها الصَّبي: "روجر".

"حسناً يا روجر. اذهب إلى ذلك الحوض واغسل وجهك". وأطلقت سراحه من قبضتها. أخيراً!

مدَّ روجر بصره نحو الباب المُشْرَع، ثم نظر إلى المرأة ثم أعاد النظر إلى الباب، ثم تحرَّك صوب الحوض.

قالت له: "دع الماء يجري حتى يسخن. وهاك منشفة نظيفة".

سألها الصبي في ضراعة وهو ينحني على الحوض: "ستأخذينني للسجن"؟

أجابته المرأة: "ليس بذلك الوجه القذر! بذلك الوجه لن آخذك لأي مكان! لقد كنت أسير في طريقي للبيت لأطهو شيئاً لعشاءي، فإذا بك تخطف حقيبتي! ربما لم تتناول عشاءك بعد رغم تأخر الوقت. هل أكلت شيئاً"؟

أجابها الصبي: "ليس لي من أحد في البيت".

ردت قائلة: "إذن سنأكل معاً. لا ريب أنك جائع، أو كنت جائعاً حتى اضطررت لخطف حقيبتي".

قال الصبي: " كنت أريد شراء حذاء شمواه أزرق".

ردت السيدة ليولا بيتس واشنطن جونز: "حسنا! لم تك في حاجة لخطف حقيبتي لتبتاع لنفسك حذاء شاموا أزرق اللون. لو كنت سألتني لأعطيتك".

"سيدتي"؟

حدَّقَ الصَّبي في المرأة والماء يتقطر من على جبينه. سادت لحظات من الصمت. طال الصمت. ثم مضى الصبي ينشف وجهه. بعد ذلك لم يجد ما يفعله، فمضى يمرر المنشفة على وجهه ويتلفت وهو يفكر فيما سيحدث في اللحظات القادمة. إن الباب مشرع. بإمكانه أن يجري ويجري ويجري ويجري ويجري!

كانت المرأة تجلس على حافة السرير. مرت لحظات من الصمت قبل أن تقول: "لقد كنت صغيرة مثلك يوماً ما، وكنت أتوق إلى امتلاك أشياء لا قبل لي بشرائها".

سادت فترة أخرى من الصمت الطويل. فتح الصبي فمه ليقول شيئاً، ثم عبس دون أن يعلم أنه قد عبس.

قالت المرأة: "لعلك ظننت أني سأقول: ولكن... أليس كذلك؟ ظننت أنني سأقول: ولكني لم أخطف حقيبة من أحد؟ حسناً! لم أكن أود أن أقول ذلك"!

مرت لحظات صمت طويل قالت بعدها المرأة: "لقد فعلت أنا أيضاً أشياء لن أخبرك بها الآن يا بني، ولن أخبر بها حتى الإله إذا لم يكن قد علم بها من قبل! اجلس وسأعد لك شيئاً تأكله. بإمكانك أن تمرر ذلك المشط على شعر رأسك لتبدو مقبول الشكل قليلاً".

في ركن آخر من الغرفة وخلف ستارة كان هناك موقد غاز وصندوق ثلج. نهضت السيدة جونز ومضت خلف تلك الستارة. لم تراقب المرأة الصبي لتري إن كان سيهرب الآن، ولم تراقب حتى محفظة نقودها التي تركتها ملقاة على السرير. لكن الصبي كان حذراً وظل واقفاً في مكان في الغرفة حسب أن المرأة يمكنها منه مراقبته بنظرة سريعة من ركن عينها إن أرادت.

لم يكن متأكداً من ثقة المرأة فيه. غير أنه لم يكن يود في هذا الوقت بالذات ألا تثق تلك المرأة فيه.

سألها الصبي: "هل تحتاجين لشخص ما يذهب إلى المتجر ويحضر لك حليباً أو شيئاً كهذا"؟

ردت المرأة قائلة: "لا أظن ذلك. اللهم إلا إذا أردت لنفسك حليباً محلَّى. كنت سأعد لك حليباً بالكاكاو من علبة الحليب هذه".

أجاب الصبي: "لا. هذا جيد".

بدأت تسخن للصبي بعضاً من الفاصوليا ولحم الخنزير الذي كان مخزناً في صندوق الثلج، ووضعت الطعام على الطاولة مع حليب الكاكاو الساخن. لم تسأل المرأة الصبي أي سؤال عن مكان سكناه أو أهله أو أي شيء آخر قد يسبب له إحراجاً. وبدلاً عن ذلك، وبينما هما يتناولان الطعام، مضت تحكي له عن عملها في محل للتجميل في أحد الفنادق يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل، وعن طبيعة عملها، وعن زبائن المحل من مختلف صنوف النساء: نساء يدخلن ويخرجن... شقراوات وحمراوات وإسبانيات. ثم اقتطعت له من بعد ذلك الحديث نصف الكيكة التي كانت قد ابتاعتها بعشرة سنتات.

دعته قائلة: "تناول المزيد يا بني".

لما فرغا من تناول الطعام قامت السيدة جونز وقالت للصبي: "الآن... خذ هذه الدولارات العشرة واشتري لنفسك حذاء شاموا أزرق اللون. وإياك إياك أن تقرب من حقيبة يدي أو حقيبة أي فرد آخر. لا تنسَ أن حذاءًا تبتاعه بالسرقة سوف يحرق قدميك. سوف أتناول قسطاً من الراحة الآن، بيد أني أتمنى أن تنتبه إلى نفسك وأن تحسن التصرف يا بني من الآن وصاعدا".

قادته عبر الصالة إلى الباب الخارجي وفتحته قائلة وهي تنظر في الشارع يمنة ويسرة: "طبت مساءاً. لابد أن تحسن السلوك يا أيها الصبي".

أراد الصبي أن يقول للسيدة ليولا بيتس واشنطن جونز شيئاً آخر غير "شكراً لك يا سيدتي"، غير أنه لم يستطع. ألقى نظرة على الشارع المقفر ثم على المرأة الضخمة الواقفة على الباب. ما أن أكمل كلمته "شكراً لك" حتى كانت تُغلقُ الباب خلفها.

لم يرها مرة أخرى قط.



ـــــــ ــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


كاتب هذه القصة "لانجستون هيوز" (1902-1967م) يُعدُّ واحداً من أفضلِ مائة كاتبٍ أمريكي من أصلٍ أفريقي. بَرَع في كتابة الرواية والقِصَّة القصيرة والمسرحية والشعر والمقال الصحفي. بعد طلاق والديه تركاه مع جدته لأمه والتي كفلته لسنوات، سمع منها قصصاً كثيرة عن التراث الزنجي وقصص النضال ضد عنصرية البيض. كانت آراءه السياسية يسارية التَّوجُّه، حيث سافر مع مجموعة من رفاقه في بداية ثلاثينات القرن الماضي إلى الاتحاد السوفيتي لعمل فيلم عن أوضاع الزنوج في أمريكا في ذلك الوقت، بيد أنه كان دائم الإنكار لتهمة الشيوعية.

المترجم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى