جيمس قولد كوزنس James Gould Cozzens - قصة نجاح Success Story.. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

قابلت ريتشاردز قبل عشرة أعوام أو أكثر عندما ذهبت لأول مرة إلى كوبا. كان شابا لطيفا في نحو الثانية والعشرين من العمر، قصير القامة وله وجه حاد التقاطيع. قدم نفسه لي في المركب، وعلمت لعجبي أن شركة بان أمريكا للصلب والانشاءات قد بعثتنا معا لأداء نفس المهمة.
تخرج ريتشاردز في كلية للهندسة بجامعة حكومية لم تُعرف يوما بمستواها الجيد. ولما كنت في نفس سنه، ولكني تخرجت لتوي من كلية شهيرة، فقد كنت مستعدا لأداء دور "أبوي" مترفع معه إن دعت الحاجة. غير أنه سرعان ما تبين لي أنه لا حاجة لي بفعل ذلك. فلم يكن هنالك أدنى احتمال لأن يعد أحد من الناس ريتشاردز في مستوى ذكائي. وفي الواقع كنت عاجزا عن تخيل الكيفية التي حصل بها على تلك الوظيفة. غير أني كونت فكرة ما عن ذلك. جاءتني الفكرة عندما تصادف أني كنت أقرأ قبل بضعة أسابيع أن ريتشاردز قد عُين على نائبا لرئيس شركة بان أمريكا للصلب والانشاءات، ومديرا لها، عندما اشترتها شركة أخرى.
وكان ريتشاردز بطبعه شخصا محبوبا، وكنت أحبه كثيرا، ولكن فقط عندما أتأكد من أنه لن يبَزّني في أي عمل مهني. وكانت الشركة قد حصلت على عقد لبناء خط سكة حديد خاص، كان من المقرر مد جزءٍ منه (يبلغ سبعة عشر ميلا) ليتيح لشركة السكر المتحدة بناء محطة بحرية في ميناء كاريبي صغير عميق المياه. وكانت تلك المهمة بالنسبة لي ولريتشاردز مهمة سهلة يسيرة، إذ لا تتطلب غير القيام بجولات تفتيشية وأعمال مكتبية روتينية. كانت سهلة، على الأقل بالنسبة لي. غير أنها كانت عسيرة على ريتشاردز، إذ لم يكن يجيد استخدام المسطرة المنزلقة التي نستخدمها في عمل الحسابات بسرعة. وعندما أراني الحسابات الهندسية التي توصل إليها ذهلت من كثرة الأخطاء فيها، فوجدت نفسي أقول له مضطرا: "يا هذا! أنت بلا شك أغبي رجل في محافظة سانتا كلارا. إن لم تتحسن فسيمنعك فاريل من الحصول على أي وظيفة أخرى في هذه البلاد."
قابل ريتشاردز ما قلته له بابتسام ورد بالقول: " ومن قال إني أريد وظيفة أخرى. ليس وظيفة مثل هذه على كل حال. أنا من النوع الإداري التنفيذي."
"أوه، أحقا أنت هكذا؟!"
"بالتأكيد أنا هكذا. ولماذا أعبأ بما يقوله أو يفكر فيه فاريل؟ ما الذي بإمكانه فعله لي؟"
"الكثير. إن رأى فيك فائدة، فسوف يعطيك وظيفة ذات مرتب ضخم."
"ولكنه لا يعلم شيئا عن أي وظيفة تجلب مالا وفيرا يا بني."
رددت عليه وقد بدأت أَمَل وأنزعج من كلامه: "ولكنه يعرف أشياء ستجلب لي مالا يكفيني."
قال ريتشاردز: "أوه. إن كان ذلك هو كل ما تتمناه، فسوف أجعل فاريل هذا يعطيك ما تتمنى عندما أعينه أنا للعمل معي."
اكتفيت بالقول له: "عليك اللعنة." ومضيت في التدقيق في حساباته الأولية لزيادة صب المزيد من الأسمنت على جسر طويل يقام فوق الوادي. وجدت نفسي أقول له: "يا لك من بليد. ألم تدرس الحساب من قبل؟ ما هو حاصل ضرب 7 في 13؟"
رد ريتشاردز ببرود: "أحسبها أنت، وأرني التقرير غدا."
وكنت قد واصلت في مراجعة وتصحيح حساباته كلما وجدت عندي فراغا من عملي، ولم يضبط فاريل أي خطأ فادح في حساباته سوى في مرتين. وكان فاريل من أفضل الرؤساء في شركة بان أمريكا للصلب، فقد كان واسع الخبرة، إذ كان قد أدار بناء العديد من الإنشاءات في كوبا والمكسيك لنحو عشرين عاما. وبعد شهر أو نحو ذلك ترك فاريل زميلي (الغبي) ريتشاردز وحاله، وتفرغ تماما لنقدي نقدا ساخرا وحادا. كان يتابعني بدقة في كل دقيقة يفرغ فيها لي، ويقول لي آمراً أن أفعل هذا أو أن أترك ذاك، وأن أستخدم رأسي، ويريني بعض الحيل والطرق في عمل الحسابات. وأخيرا نصحني بأخذ دروس في اللغة الاسبانية من رجل سماه، كان يعمل كاتبا في مكتب شركة السكر.
قال لي ريتشاردز بعد أن نصحته بتعلم الإسبانية: "الإسبانية؟ تعلم هذه اللغة أو غيرها ليس لي. لقد تعلمت الإنجليزية في اثنين وعشرين عاما، فيحسن بمن يريد أن يتكلم معي أن يعرف هذه اللغة، أو أن يجلب معه مترجما."
رددت عليه بالقول: "حسنا. لا أمانع في أن أخبرك أن فكرة تعلم الاسبانية أتت من فاريل. لقد تحدث معي بشأنها."
قال ريتشاردز: "حسنا، ولكنه لم يتحدث معي بشأنها. أعتقد أنه يراني مُكْتَمِل التأهيل كما أنا الآن، دون حاجة لتعلم لغة أخرى. وإذا سمحت لي، فلدي موعد مع زجاجة جعة."
وكان من السهل علي أن أرى أن الرجل يسير حثيثا نحو نهاية غير سعيدة.
وفي يناير التأم شمل عدد من مديري شركة السكر المتحدة في اجتماعهم السنوي – اسميا لمناقشة بعض الأعمال، ولكن غالبا من أجل المتعة، فقد كانت تلك تَعِلّة ملائمة للسفر جنوبا في عطلة قصيرة. أتوا جميعا في يخت. كان صاحب اليخت الفخم هو السيد جوزيف بروسرت، الذي أظنه كان رئيسا لمجلس إدارة شركة السكر المتحدة في تلك الأيام. كانت تلك هي المرة الأولى التي أشاهد فيها عن قرب أولئك الأغنياء النافذين من رِجَالات المال والأعمال المعروفين للكل. كان رجلا أصلعا بدينا، ليس متعاليا فيما يبدو، وينتقي كلماته بدقة فائقة ويتحدث بطريقة مضجرة نوعا ما. وكان مرتديا لحلة مصنوعة من قماش خفيف داكن اللون يبدو وكأنه من صوف الألبكا. وكانت اهتماماته بكوبا وبالسكر لا تتعدى الجانب المالي. ولكنه لم يكن يعلم عنه شيئا من الناحية العملية.
ورأيت السيد بروسرت عن قرب مرة أخرى. كان قد تأخر في يخته عندما ذهب المديرون الآخرون إلى سانتا اينز، وتركني فاريل مع ريتشاردز مع اثنين أو ثلاثة من الحراس المسلحين حتى يعود لنا عند العصر. كان السيد بروسرت دمثا لطيفا معي، وسألني عددا من الأسئلة. كنت أعرف عملي جيدا، وكان بإمكاني الإجابة عن كل سؤال ذكي يطرح علي – أقصد بالطبع نوع الأسئلة التي يمكن لمهندس جيد التدريب أن يطرحها. غير أن وجدت نفسي أرد عليه، ربما لثلاث مرات، بإجابة من شاكلة: " أخشى أني لا أعلم عن هذا الأمر يا سيدي، إذ لم نقم بتلك الحسابات لهذا الجانب." ولم أصدق عيني ولا أذني عندما تصدى ريتشاردز فجأة للإجابة وتحدث قائلا: "أعتقد نحو تسعة مليون قدم مكعب يا سيدي." ثم أردف قائلا وهو يتظاهر بأنه محرج كصبي صغير ووجهه يحمر من الخجل: "بالصدفة كنت أجرى في الليلة الماضية بعض العمليات الحسابية عما سألت عنه يا سيدي. فقط من باب الاهتمامات العامة. هذا كل ما في الأمر. ليس عملا رسميا."
قال السيد بروسرت وهو يدير مقعده الدوار نحوه ويحَدَجَه بنظرة حادة: "أوه، هذا مثير للاهتمام فعلا يا سيد ... ريتشاردز أظن. أليس كذلك؟ والآن أيمكنك أن تخبرني عن ----". فأجاب ريتشاردز على الفور ودون تردد عما سئل عنه. بدا أنه يعرف كل شيء. يعرف عدد كل العربات الموجودة، وحمولة كل محول، وقياس كل مبنى، بل وأعداد مصارف المياه، والحمولة القصوى لكل جسر، ومتوسط معدل هطول الأمطار في العشرين عاما المنصرمة، وأعداد سكان القرى المترامية الأطراف التي نمر بها. كان عليما بتكلفة العمالة المحلية وهيكل المرتبات. وكانت لديه احصائيات بما وقع من حوادث وتأخير لا يمكن تفاديه. بل أفلح فيعمل تقديرات لتكلفة نقل القدم المكعب من التراب في كل منطقة تقريبا. وكلما رماه السيد بروسيرت بأسئلة، رد عليه – وبسرعة عجيبة – بأجوبة مدعومة بالأرقام.
ولما بلغنا أبعد نقطة مد اليها خط السكة حديد، وجدنا سيارة في انتظار السيد بروسيرت لإرجاعه لمقره. ولما خرج من سيارة الغاز هز رأسه لي مودعا وهو شارد الذهن، ولكنه مد يده لريتشاردز مودعا وقال له: "معلومات في غاية الأهمية يا سيد ريتشاردز. مع السلامة، وشكرا."
رد عليه ريتشاردز بالقول: "العفو يا سيدي. أسعدني أن كنت قد قدمت خدمة لكم."
وبمجرد مغادرة سيارة السيد بروسيرت انفجرت في ريتشارد قائلا: "يا لسخافة حيلك! قليل من الأمانة لا يضر. ولكن كل ما أسميته أرقام ومعلومات ...."
قال ريتشاردز وثغره يفتر عن ابتسامة ساخرة: "إذا أراد رجل مثل بروسيرت معرفة شيء ما، فمن أنا حتى أحجب عنه ما يريد؟"
قلت له: "أعتقد إنك تظن نفسك من الأذكياء. ماذا سيقول عندما يرجع للأرقام، أو يستشير شخصا له معرفة حقيقية؟"
رد ريتشاردز متظاهرا بالرقة: "أسمع يا بني. بروسيرت لم يكن يسأل من أجل الحصول على معلومات ليستخدمها. لم يكن يريد معرفة تلك الأرقام. وإن احتاجها فعلا، فلديه الكثير من المختصين ليعطوه المعلومات الصحيحة. لن يتذكر ما ذكرته له من أرقام. أنا نفسي لا أذكرها. ما سيتذكره فعلا هو أنت وأنا."
"أصحيح هذا؟"
أجاب ريتشاردز بتأكيد واضح: "نعم صحيح. سيتذكر أن في شركة بان أمريكا للصلب والانشاءات شاب لامع اسمه ريتشاردز بإمكانه أن يخبره بكل شيء يسأل عنه – شاب من النوع الذي بإمكانه أن يستخدمه، ولي مثل الرجل الآخر الذي لم يبد معرفة أو حماسا لعمله، وعجز عن الإجابة على أبسط الأسئلة التي قدمت له، وهو الذي سيقوم بعمل عقود قصيرة الأجل في كوبا طوال حياته."
قلت له: "أهذا صحيح؟"
غير أن ذلك كان صحيحا، فأنا ما زلت في كوبا، وما زلت أؤدي أعمالا صغيرة في مجال الانشاءات.





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نبذة عن الكاتب:
جيمس قولد كوزنس (1903 – 1978م) هو روائي أمريكي وكاتب قصص قصيرة شهيرة. ويصنفه النقاد على أنه من كتاب "الواقعية"، ويجنح لبعض الجوانب الفلسفية في رواياته. أثار الرجل موجة من الجدل عندما صرح بأنه سيرفض جائزة نوبل إن عرضت عليه.
وهذه القصة القصيرة مشهورة عند طلاب اللغة الإنجليزية في كثير من البلدان.
المترجم
  • Like
التفاعلات: مليكة ابابوس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى