نجوى حسن - صمت الخريف

بين أحضان خريفها اتكأ، وعلى شواطئها المنسية، ورمالها الدافئة حط رحاله، وضوء القمر يتوارى خجلاً من ضعف رؤياه، حدقت به ملياً تضخمت على جسده السنين، فناء
تحت بصماتها مهموماً كثير الأعمال، متعدد المسؤوليات، لكنه صلب الإرادة، قوي العزيمة، واثق الخطوة، ذكي الملامح، قاسمته الأيام بعض شبابه واحتفظ بالبعض الآخر.
استقر نواة غضة في دافيء رمالها.. رمقته بنظرة جافة أورقت في خضرة عينيه، وتسربت إلى أغواره السحيقة التي اكتنزت كل الصدق.
لكنهما بقيا صامتين. أثلجه الصمت الموجع بينهما فذات وتحلل بين حبات رمالها ينشر شذى مروءته. توافد إليه الناس يستظلون برماله وينعمون بلطف نسائمه، وطيب سجاياه.
فوق أمواجها الصاخبة كتب أحرف اسمه، فهدأت ثورة قلقها وخوفها منه، لم يكن مغتصباُ بل كان نديماً هادئاً وديعاً. اكتفت بالنظر إليه بين الحين والآخر.
مع إطلالة الربيع، تنهدت حبات رمالها المخضلة برائق أنفاسه الدافئة، فعبق جوها بحرارة مختلفة، وأريج منعش، جذبها كنحلة عطش لرحيق الربيع.
اقتربت منه حذرة تسرق الخطوة من الزمن، ورويداً رويداً طوقتها أمواجه المتلاطمة فتارة تغوص وأخرى تصحو على نسيم أنفاسه، علمها دروس الأطفال، وفن السباحة والعوم، وتسلق الجبال ورسم لها تفسير الآمال، وفتح نافذة للحوار.
كان يوم جمع ولخص خمسون عام، أنست له دون صراخ، لكن الصمت لم يزل حارساً أميناً على الشفاه.
غابت شمس ذاك النهار وغيبت خياله عن الشاطئ. انتظرته في اليوم التالي ومع ورود القمر للسماء ولكن دون جدوى.. غاب.. طوت الأيام قلقه مكرهه. وعاد البدر للضياء. بحثاً عن خياله ولكن.. عبثاً مرت الشهور وفي يوم كالح العتمة لمحته مع الشفق يتسحب على عصاه دون شاطئها. بعيداً عن رحاله التي غرسها في محيط خريفها.. هرعت إليه والحزن يسيج ملامحها. وبحركة نارية سألته ما بك؟ أين كنت لماذا؟ لكنها لم تكمل حين وجدت هامته مسجاة دون حراك. وتطابق فكاه دون انفصال، أطبق الصمت ثانية على الشفاه اللاهبة.
طوت طولها قربه، اغتسل وجهها بالدموع وهي تحدجه بنظرات تالفة متسائلة حائرة ما بك؟ ما الذي أهمد ذاك العملاق فجأة. لم يبق منه إلا عينان خضروان تجولان في فسيح السماء والأجواء ثم تغزل المرارة دموعاً رقراقة تندي بها أوردة فؤاده كي تستمر بالحياة إلى أن يصمت في عيونه الخريف أو يعود ليورق في أعطافه الربيع بالإرادة والثقة والإيمان.. فإلى ربيعه القادم..
في الربيع التالي كسر عصاه ولملم قواه واستبدل التالف منها بالإرادة والإيمان بالله وعادت إليه الحياة من جديد بعد سنين من الغربة نفض عن أطرافه غبار الموت وانتصب واقفاً يجوب الدنيا ثانية بأطراف الخريف وروح الربيع ودفء الشتاء عاد يتخبط في صخب الدنيا محولاً صمته إلى
.مجلدات من الكتب وحدائق من الشعر وأشعل روحه تفانياً وعطاء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى