نادية الشتيوي - ويخونني ظلي.. قصة قصيرة

نهضت كعادتها، تستأنف الصبح في سكناتها، تورق على الأمل الفائض أن يعجل خواءها و يروي مسام جسدها الأهيف، أن يداعب وجهها الفياض بنسمات حبلى من مقتطفات الربيع. الطقس شاعري، يحتشم على وجهها البيضوي، يلاعبه بقطع من الهبات المتسربلة من نافذة الغرفة الرومانسية عابثا باحتوائها. يشعل فيها أنوثة متلهفة لشوق استثنائي. تتأهب مها ككل يوم، تغتسل فائضة بأحلامها، تعدد أيام شبابها و تسترخي على الدلال الفائض حذوها.
تفكر كيف سترتدي ثيابها و أي الألوان ستختار و أين ستقضي يوم عيد ميلادها، و كيف ستبدو في عيون الآخرين و أي إطراء ستسمعه اليوم. تعرف بأن الكل لا يستطيع أن ينكر ما تتمتع به من دلال و جمال . عيناها الخضراوان اللتان تشعان ذكاء و تحمسا، قوامها الممشوق، أنوثتها الصارخة و فيض دلالها الذي يستفز أعتى الرجال.و اليوم هي على موعد مع الاحتفال السنوي لشبابها لتختال أمام أصدقائها و تقول من تكون.
هاهي تختال الآن في الغرفة. مها كعادتها تدق بالكعب العالي أرضية الغرفة، تعاند شموخها الأنثوي، تسترخي بتعب على الفستان المغازل لكتفيها، تصنف شعرها خصلة خصلة و تضع طلاء الأظافر. على مضي ساعتين تخفق بأحلامها الوردية ، تتمدد في خفاء الساعات، تنتظر أن ترى خلاصة جمالها و رونق دلالها. هي الشغوفة بحركة الوقع الخفي على مسام أنوثتها لم تكن لتتأنق أكثر فأكثر و خاصة في هذا اليوم المشهود ... يوم عيد ميلادها.
و الآن راحت كعادتها لتقف أمام المرآة كي تسوي شعرها و تضيف اللمسة الأخيرة لهذا الجمال كما تفعل نجمات السينما.ربما تسوي بعض الخصلات هنا و هناك، أو تستنشق قوامها وسط ذلك الفستان أو ترى ساقيها و مشيتها...أو تمرر كحلا فوق عينيها... ثم تمرر بين الأخضر الذي يعكس حدقتيها أو الأسود الذي يزيد ما حدة نظرتها و غنج جمالها الفياض. و لكن و ما إن وقفت أمام المرأة حتى لم تعد ترى شيئا يعكسها. ضباب يكتسي المرأة و كأنها مكسوة برماد كثيف أو ضباب . لم تر مها انعكاس لوجهها... لقوامها أو شكلها... لا شيء كان ينعكس على المرأة. ارتجفت مها ... أين وجهها؟ أين جمالها؟ ... ما المشكلة ...؟ لم لا ترى انعكاسا لذاتها ... أين هي؟ بدأت مها تتفحص يديها و تتأمل أرجاء الغرفة... هل هناك خطب بحاسة نظرها؟ ألا تستطيع أن تدرك الأشياء بحاستها... لم تفهم ما يحصل البتة... إنها ترى كل شيء على عادته... كتبها... حقيبة يدها... الشباك المحاذي... باب غرفتها... الستار... الأرضية المستسلمة لكعب حذائها... شعرها المنسدل على كتفيها...
و من ثم عادت إلى المرآة لعلها ترى نفسها الآن... قد يكون هناك مجرد ارتباك لا أكثر ... و عادت إلى عهدتها... تقف بكل اعتزاز... و لكن شيئا لم يتغير... إنها نفس الحالة... كارثة لا محالة. ارتجفت مها و تساءلت في نفسها: " ما الذي يحدث يا ترى ؟". و إذ انبعث فجأة صوت مجهول " ما بالك أيتها الحسناء ؟ أتعجبين من وجودي؟". ارتعدت فرائص مها. ما هذا الصوت المجهول الذي يخيفها و يبعث فيها اكتظاظا بالرعب ووجمت. عاد الصوت فجأة " لا تعجبي بعد اليوم لن تري صورتك في المرأة لساعات طوال". أرادت مها أن ترد و لكن الوجوم طوقها و أفرط في ارتعادها ، ثم عاد الصوت: " لقد أتيت من بعيد المدى، أنا من سترين من اليوم فصاعدا في المرأة،كلما اقتربت منك أكثر ستتمكنين من رؤيتي بوضوح أكبر... سأكون معك دائما".
و صاحت مها: "و من أنت؟" و جاء الصوت من جديد "أنا جئت من عالم بعيد كي أعلمك بأنك ستحتفلين بعيد ميلادك الأخير و أنا أهنئك بذلك"
- ولكن من أنت ؟ و كيف أتيت؟
- أنا أتيت في مهمة و سأرافقك على مدى تسعة أشهر ،تكونين فيها في تصالح مع ذاتك، تقيمين نفسك و تحصين ما فعلت و تتأهبين للمرور إلى مرحلة أخرى و لكنك لن تري نفسك أبدا ... سترينني أنا فقط.قد تتفرسين ملامحي و عندما يحين الوقت المناسب سأخذك إلى مكان بعيد.
- أنا لا افهم ما تقول و لا أدرك ما تقصد. أنا لا أعرفك. أنت تخيفني
-أنا أتربص مع المرء في كل حين فلا تخشيني، سأكون رفيقك و لن أؤذيك
- أنا خائفة ماذا تريد مني؟
- أنا لا أريد شيئا
- و لكنك قلت بأنك ستأخذني إلى مكان ما و لكن لماذا؟ أنا لا أستطيع أن أرافقك...أنا لا أعرفك
- أنا لن أؤذيك. طيلة هذا الوقت سأكون أنيسك و ستتعرفين علي رويدا رويدا... و إذا ما اصطحبتك يوما إلى مكان ما فاعلمي بأنك ستنتقلين إلى عالم أخر للانطلاق في تجربة جديدة
-أنا أخشاك
-لا تخشيني ... أنا صوتك الذي ستسمعين و الوجه الذي ستبصرين. طيلة هذه المدة ستتعودين علي و سأكون إلى جانبك حتى تنتهي هذه الفترة. تكونين وقتها على أتم الاستعداد للمرور إلى مرحلة أخرى ... حينها ستكونين صافية الذهن و الشعور.
وجمت مها للحظة و لم تفهم بعد ما يحدث و ما الذي يحصل تحديدا... أرادت أن تفصح أكثر ... أن تتماثل للهدوء... مازال هناك أسئلة أخرى بجوفها، و لكن استراقها صوت أمها من وراء الباب و هي تقول " تبارك الله على بنتي، كل يوم تزيد تكبر و تحلى ، كل عام و أنت بخير حبيبتي. تأملي نفسك في المرأة لتري كم أنت جميلة" هاهي مها تقترب هي و أمها من المرآة و الوجوم يخيم عليها...مشدوهة... تفاجأ لحين بظلها الموسوم فاضحا حسنها... إنها تبدو أجمل مما كانت عليه أبدا... و في ركن من المرآة يلوح ضباب أبيض يخفي حياءه في صمت.


نادية الشتيوي
سوسة 24 أفريل 2016
الجمهورية التونسية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى