وجدان أبو محمود - شحوب

شعورٌ بالدهشة عصف بقسمات وجهه، فسارع يتفرّس فيها... تلك الصبيّة الصغيرة التي ظهرت فجأةً بين الراقصين، لقد بدت مألوفةً جداً مثلما بدا حفل الزفاف برمّته مركّباً لإبرازها وحدها.
وقبل أن يخمّن من تكون شارفت الأغنية الصاخبة على الانتهاء، وتفرّق من في ساحة الرقص وإذ بإحداهن تناديها: ( يارا ) فيطرق قلبه وجعٌ لا يطاق،‏
وتستبدُّ به خشيةٌ مبهمة، تماماً كما لو أنّ دواراً أيقظ فيه حاجة الاتكاء على جدار. وبالكاد خرج من دوّامة لانهائيّة حتى تفحّص المقاعد المقابلة بحثاً عنها، وجدها جالسةً قرب أبويها ـ أو هكذا قدّر ـ ربما لأن تلك المرأة الصامتة تشبهها كثيراً، اضطربت من قدّرها أُمّها وأبعدت بمشقّةٍ عينيها كمن ينتزعهما من عناق، ثمّ علَّقتهما بالأرض كيلا تبوحا بشيء. سلبته الصدمة بشاشته، وامتقع بالتدريج لونه، لقد ترقرقت مسيلاتٌ من الضوء في ذاكرته المتجمّدة، لتتيح لما فيها من أطياف ذكرياتٍ الركض في رأسه، فيحاول أن يستوقفها ليجمّع ولو صورةً واضحةً واحدة، بدأت الصور المضغوطة تتحرّر، تفر، حتى باتت بلحظة طليقة...‏
حاول أن يستدرك الأمر، ليتبيّن إن كان وهماً، دقّق في المرأة المرتعشة وإذ بها تشبه كلَّ الصور القديمة، وإذ برعشتها تتابع سريانها في بدنه. أحسَّ بالعرق ينبجس من مسامه كلها، فقدّر هول الشحوب الذي اعتراه، عندها فقط أشاح بنظره إنقاذاً لهيبته، وزاد على ذلك بأن أفرط في مجاملة من في جواره، ثمّ لاطف زوجته بعباراتٍ ساذجة وداعب طفلته التي أزعجه اصطحابها، ومع ذلك لم ينجح في إخفاء توتّره. كان يطرق بين الحين والآخر مهدوداً من التفكير، وكانت جدران الصالة تدور حول رأسه بلا توقّف، تكوّرت حواسه في عينيه الوامضتين، واستسلمت لنظراتٍ يحكمها الحذر... فبدا لوهلةٍ معزولاً عن الناس في فقاعةٍ لامرئيّة.‏
خٌيّل إليه أنّ المداراة أضنت المرأة، وأنها بلغت من الاصفرار حدّاً لو مكّنت فيه زوجها من ملاحظتها لقام يطلب الإسعاف. استغرقه كثيراً ذلك التخيّل، إذ كم قاسى لينسى وكم يتوق اللحظة للتذكر، كم آذاه ذلك الألم الذي يسمّم المشاعر وكم يسعد اللحظة في تجرّعه. وفجأةً تمكّن من قواه، فرفع عينيه وغامر بإشهار لهفته لتأمّلهم، ولكن الصبيّة الصغيرة كانت قد عاودت رقصها، فيما تخلّصت المرأةُ من شحوبها العابر، بل وسرعان ما امتلأت بالحياة، لتضحك، وتبادل تحيّات المجاملة، وتنتظر برغبةٍ مفضوحةٍ دعوة زوجها للرقص، وكالسحر أفلتت من مقلتيه... مع أنها لم تبارح مكانها, ولكنها قد باتت شديدة الشبه بالنساء الأخريات المتماثلات حولها... فضاعت منه. ابتلع تنهيدةً طويلةً, وهدأ كما لو أنّه امتصَّ بصمته الإسفنجيّ قيحاً ما, وشيئاً فشيئاً أخذت تطربه الأغنية الجديدة, وشرع يلاحظ كثرة المدعوين, واختلاجات الألوان في ثيابهم، صفّق مثلما صفّقوا, وأومأ للعروسين باتزانٍ مهنّئاً, ثم سأل زوجته بصوتٍ متهدّجٍ ولكنه حارّ: أنغادر؟, فأجابته: حسناً ولكن أنظر... يارا قد نامت... تصوّر!, قرّب وجهه من صغيرته الغافية بين ذراعي أمّها, و همس على الرغم من الضجيج ونَفَسه الساخن يقبّل جبهتها: يارا حبيبتي... هيّا.‏


23/12/2008م
وجدان أبو محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى