مزمل الباقر - مليونية 30 يونيو أو المجلس العسكرى الإنقلابي صاغراً (2_2)

بعد أن تجاوزنا مستشفى السلاح الطبي في طريقنا إلى جسر النيل الأبيض الذي يفضي إلى الخرطوم المدينة، وجدنا أن الشارع مقفول بتاتشرات الجنجويد وشرطة ولاية الخرطوم وشرطة فض الشغب.

وجدتني أقف مع الحشود مشاركاً في الهتاف ، وصاح أحدهم من بيننا : ( الصبة وين ؟ الصبة هنا) فراقت لنا الفكرة بأن نقيم اعتصامنا حيث منعتنا الاجهزة الامنية للدولة البوليسية من المضي قدماً لنعبر الجسر القديم الذي شيده المستعمر لربط العاصمة الوطنية ( امدرمان) بالعاصمة السياسية ( الخرطوم) كما شيد جسور أخرى على نهر النيل الأزرق لربط العاصمة الصناعية ( الخرطوم بحري) بالخرطوم لجمع شمل المدن الثلاث التي تشكل الخرطوم العاصمة بأربعة جسور.. وذاك حديث آخر.

إجتمع شمل مواكبنا الأمدرمانية التي جاءت من أحياء أمدرمان القديمة إضافة لمواكب حارات أمبدة وحارات الفتيحاب والمهندسين وحارات الثورة أي بشئ من التلخيص مواكب أربعة محليات إدارية تضم في مجملها ما يربو على المئتين حارة تضم كل حارة ما يتجاوز المئات من البيوت التي تختلف في عدد الأسرة المتواجدة بداخلها من أسر نووية إلى أسر ممتدة. وبما انك المواكب حوى تنوع عمري ونوعي، فلعل من بين المتظاهرين أسر نووية كاملة العدد.

عندما علا هتافنا وأشدت، أناخت الثكنة العسكرية لثام أسفلت شارع النيل فتحرك جمعنا متبهجا وصار هتافنا هادراً. غير أن سعادتنا بالنصر لم تكتمل، فالأمر لم يكن رضوحاً من الثكنة العسكرية التابعة للمجلس العسكري _ الذي إنقلب على ثورة ديسمبر المجيدة بكتائب ظله ومليشيات جنجويده وشرطته التي تفض الشعب _ وإنما كان فخاً نصبه المجلس العسكرى الإنقلابي لأفراد شعبه الثائر فبعد أن تقدمنا قليلاً تفاجأ موكبنا بأن الثكنة العسكرية أوصدت الباب دوننا مجدداً وأعملت فينا إسلحتها ومن خلفنا ارتفعت هامة عبوات الغاز المسيّل للدموع ( البمبان ).

للحظات حسبت المشهد رصاصات صوت ( فشنك) أطلقت في الهواء لتفريقنا غير أن عينايّ قرأت مشهد الدم وقد سأل من الاطراف ومن الظهر والرصاص الغادر اتخذت سبيله للأجساد الحرة ووجدتني اقفز مع أخواتٍ وأخوةٍ لي في الثورة من علٍ مفارقاً جسر النيل الأبيض الذي لم يعد ملازاً آمناً.

عدوت وظهري ممنحنٍ تفادياً لرصاصة غادرة من جنجويدي أو امنجي جبان فضل أن يقارع سلاحنا ( حناجر حرة ملؤها هتافات الحرية) بالرصاص الحي من سلاح روسي الصنع ( كلاشنكوف) محمول على الكتف او سلاح رباعي محمول على ظهر عربة تاتشر ( دوشكا). وربما عبوة ( بمبان) وجهت على الأجساد لتكون سلاحاً غير مباشر يفضي إلى القتل كما حدث قبل شهور مضت في مواكب الراعي الرسمي لثورتنا الثالثة : تجمع المهنيين السودانيين.

لم أكن احمل هاتفي النقال فأشرت لمن كان بجوار من الفارين مثلي من القتل المجاني بأن يوثقوا بالفيديو لتلك الانتهاكات التي تجري فوق جسر النيل الأبيض على تخوم أمدرمان حيث كانت السياط والعصي تتنافس في أجساد الثائرات والثوار اللذين ادركتهم أفراد كتائب الظل والجنجويد قبل أن يلقوا بأنفسهم من فوق الجسر.

اضطر بعضنا عبور ثنايا السلك الشائك الذي يفصل مستشفى السلاح الطبي عن الأراضي المتاخمة للنيل الأبيض مما أحدث في اجسادهم جروح سطحية وغائرة فراراً من الرصاص الحي الذي تبعنا وقد فارقنا الجسر ( الكوبري) فالأمر لم يكن منع موكب أمدرماني مع الإلتحاق بمواكبٍ خرطومية، كان الأمر منع ثائرات وثوار من الحق في الحياة بالمعنى الحرفي للتعبير. فالرصاص أدرك بعضنا وهم على بعد فراسخ من جسد كوبري النيل الأبيض فإزداد عدد المصابين في صفوفنا.

أفضت الحرب بين القوة العارية لمليشيات الدم السريع وكتائب ظل على عثمان محمد طه وبين جيش أعزل إلا من حناجره المخضرة بالهتاف الثوري وجيش مكتمل العتاد أولى به أن يحمي حدود السودان التي استأسد عليها الجيران في شماله ( مثلث حلايب بمدنه الثلاث) وشرقه ( مدينة الفشقة) واستبيحت حدوده الجنوب الشرقية مثل حدوده الغربية وتخلى عن جنوبه. افضت هذه الحرب إلى أرتال من الحرجى وحالات لا حصر لها من الإغماءات بسبب الاستخدام المفرط لعبوات الغاز المسيّل للدموع ( البمبان).

كانت عبوات البمبان الفارغة تتوزع على باحة مستشفى علياء والطابق الأرضي امتلأ بنا بعد أن ضاقت حجرات الطوارئ بنا وكنا بين جريح إثر طلق ناري أو مغماً عليه بسبب البمبان في مشهد حاكى توزع الأجساد الثائرة في بهو مستشفى رويال كير في أعقاب مجزرة القيادة العامة مما حدا بأحدهم وقد وثق لما شاهد بكاميرا هاتفه النقال أن يقول مجزرة ٣٠ يونيو.

إلتأم شملنا من جديد على تخوم مستشفى السلاح الطبي وأرتقينا مجدداً بهتافنا هامة كوبري النيل الأبيض قبل أن تقابل سلميتنا تلك بحصة أخرى من القوة المفرطة لمن يتبع للمجلس العسكري الإنقلابي من كتائب الظل وكلاب الأمن ومليشيات الجنجويد. ولكن هذه الحصة كانت حصة مكتنزة _ إن جاز لي التعبير - من الرصاص الحي وعبوات البمبان فإرتفع عدد مصابينا وتضاعف عدد إغماءاتنا وعدونا إلى مبنى مستشفى علياء مجدداً نلوذ به من الموت المجاني نحمل مصابينا في جروحهم الظاهرة وبالمثل نحمل جراحنا التي اختبأت في صدورنا حزناً وحنقاً يمنعنا من فض لثامها بالعنف المضاد إيماننا بأن السلمية هي التي البوابة الوحيدة التي سوف تفضي بنا قريباً بإذن الله إلى الدولة المدنية التي ترومها.

مع كل طلقة نارية تخرج من فوهة غادرة كنا نحمل مزيداً من إصاباتنا إلى داخل حجرات الطوارئ بمستشفى علياء ونحاول جاهدين أن لا نصاب أيضاً لأن هنالك اعداد أخرى منا لازالت بالخارج تحتاج لإسعاف بالسرعة المتاحة.. وكانت أعيننا ترى أفراد الجيش وهم يفرون من نيران الجنجويد التي كانت تطلق بسخاء منقطع النظير.

ومع حلول الظلام أرتقى منا أول شهيد والحصار الممنهج ضارباً بأطنابه من حولنا فالخارج من مبنى مستشفي علياء الطبي مفقود بالقوة المفرطة لقوات تتبع للمجلس العسكري الإنقلابي والداخل إلى المستشفى أيضاً ربما يكون مفقود كذلك إن كان الموت أسبق من أيادي المسعفين.

لأن هذه الحصة من القوة العارية كانت بجرعة أقوى فقد قرر الجيش المتواجد بداخل مستشفى علياء أن ينسحب بأسلحته المحمولة على الأكتاف ( الكلاشنكوف). وظننت ( وبعض الظن إثماً ) أن أفراد الجيش قد انسحبوا من المشهد لإحساسهم بالهوان في حين ظن غيري أن تلك العربات (التاتشرات) وتلك المدرعة القادمة من الطريق الذي يصل مستشفى السلاح الطبي بمستشفى علياء. ظن غيري أن الدعم جاءنا لإنقاذنا ولذلك انسحب الجيش الراجل من المشهد ليفسح للجيش المحمل على التاتشرات أن يأتي لجسم المشهد لصالح الشعب.. فالجيش في بلدنا اسمه قوات الشعب المسلحة.

ولكن مثلما خاب ظني في إنسحاب افراد الجيش خاب ظن غيري بأن القادم هو الجيش لنكتشف أن مليشيات الجنجويد في همجيتها المعهودة جاءت بكل شهوتها للتكنيل بالعزل وفرض القوة المفرطة لإسدال الستار على المشهد الثوري.

تدافعنا لأقرب مدخل لمستشفي علياء وعمد طاقم المستشفى من عاملين وممرضين وأطباء بتوجيهنا للطوابق العلوية للمبنى حيث لم يعد الطابق الأرضي ملازاً آمناً بعد أن علا صوت الرصاص مجدداً.

كانت الشمس في طريقها إلى المغيب وكنت مع غيري ارقب من شرفات المستشفى استباحة الجنجويد لباحة المبني قبل أن يفضلوا مع حلول المساء الدفع بعربتين إلى مدخل الطوارئ مترجلين عنها محملين بالكلاشنكوف لمداهمة باب كان قبل موكب الشهداء لا تتوقف عند مدخله سوي عربات الإسعاف ولا يلج منه سوى طاقم طبي في معيته حالة طارئة. بإختصار المدخل الذي قد يفضي إلى الحياة أضحى باب للموت المجاني.

بعد أن نجحت مثل غيري في الخروج من سيطرة الهمج على الحرم الطبي وعدت للبيت قبل آخر ساعتين في يوم مليونية الشهداء وبعد قرابة الساعات الأربع لحصارنا بداخل مبنى مستشفى علياء الطبي.. حمل الشريط الإخباري لعدد من الفضائيات خبراً عاجلاً مفاده أن المجلس العسكرى الإنقلابي جاهز (فوراً) للتفاوض تحت مظلة المبادرة الافروإثيوبية - إن جاز لي التعبير - ولأني كنت مع غيري من شريفات وشرفاء السودانيين اللذين عبوا الشوارع بالهتاف في الخرطوم العاصمة مثلما فعلوا ذلك في القرى السودانية وفيما يربو عن سبع وثلاثين مدينة أخرى.

حسبت أن مليونية مواكب 30 يونيو ( الأعداد تفوق المليون نسمة كما ظهر على المشاهد التوثيقية التي انتشرت في الفضائيات).. حسبت أن هذا الحشد الشعبي العفوي غير مدفوع القيمة ألقى بظلاله على تعنت المجلس العسكرى الإنقلابي فجاءاً للتفاوض صاغراً بعد أن رأي بأم عينيه أن تكمن القوة فالكلمة للشعب السوداني بتعبير وسمٍ لتجمع المهنيين السودانيين عبر حسابه الرسمي بموقع فيسبوك.


مزمل الباقر

الخرطوم في ١ يوليو ٢٠١٩م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى