مطـاع صفـدي - الحداثة البعدية.. (مقدمة كتاب "الكلمات والاشياء" للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو)

لا تطمح هذه الكلمة حتى أن تكون مقدمة. لأن أية مقدمة إنما تنصب فخاً لذاتها لتغدو جزءاً مما تقدمه؛ في حين أنها تدَّعي اختيار العتبة دون ولوج البيت. لذلك نعتبر هذه الكتابة جزءاً من هامش على كتابة فوكو. فلا هي ذات طموح لتشرح أو تدَّعي التفسير والتأويل، ولا هي تعليق أو تأويل. إذ إنَّ كل شرح أو تأويل إنما هو شروع في دخول نص مختلف، مطالب بأن يكون موازياً أو محاكياً للنص الأصلي. لذلك لا يتبقى إلّا اختيار موقع الهامش لقولٍ مجزوءٍ عن الاختلاف الذي يمكن أن يطرأ على كتاب (الكلمات والأشياء) عندما يتم نقله من سياق المشروع الثقافي الغربي الذي نبَت فيه وكتب عنه وفيه، إلى مشروع قراءة عربية.

من هذا الهامش وحده نفتح هلالين خاصين بالقراءة العربية. ذلك أن فوكو وهو منهمك حقاً بتركيز ثورة جديدة في قراءة المشروع الثقافي الغربي، لم يكن يهمه كون هذا الكتاب (الكمات والأشياء) سيكون أخطر وثيقة لدلالة الأركيولوجيا الغربية. وهي دون أن تتوجه إلّا إلى ذاتها، لعلّها كانت في الوقت ذاته تخاطب الطرف الآخر الذي أتمّ بناء الأركيولوجيا الغربية على أساس التعارض معه دوماً، والتغلب عليه أبداً. ثمة قراءة إذن للآخر في وثيقة فوكو عن أركيولوجيا العقل الغربي وألعابه الخاصة بينه وبين نفسه. لكنها الألعاب التي كانت تتقاذف الآخرين كالكرات بين الأقدام.

وثيقة فوكو هذه إنما هي أعمق ما يكشف لعبة العقل الغربي في معجزة اللامتناهي، وفي معجزة ولادة المتناهي، والآخر، المستبعد والمنفي والمقصي؛ وقد انخرط في اللعبة دون أن يدري؛ حان له الآن أن يستيقظ على ماضي الضحية المستمرة التي كانها دوماً، آملاً أن يسهم بدوره في تحطيم اللعبة ذاتها، والخروج حقاً إلى ساحة ما، خارج الاستقطاب.

بقدر ما كان الفكر الهيدغري في نهاية رحلة العمر، يستشعر خطر انهيار المشروع الثقافي الغربي من داخله، وبفعل تغلّب جانب إرادة القوى فيه، على جانب القوة القووية، على النفحة الديونزيوسية، فإنه كان يرى في انفجار المشروع خلال ذروة التكنولوجيا، استعادة لمفهوم النهاية الكارثية الدينية، المتجلية في الدمار النووي ـ سواء كان بالحرب، أم بتسمم البيئة؛ على أن هذه الكارثة هي التي ربَّما تطرح البدء من جديد، تضع الكائن على طريق مختلف نحو الكينونة.

لكن حتى لو لم تحدث مثل هذه النهاية الكارثية التي سيطرت أشباحها على العقول الواعية أواسطَ هذا القرن، فإن فكرة انتهاء المشروع الثقافي الغربي التي خالطت أفكار أجيال متتابعة من الفلاسفة والكتّاب الغربيين منذ أواخر القرن الماضي، ومع منعطف الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت تتلامح على خلفية أخرى لاتتعلق بالخوف من كوارث الحروب، وصولاً إلى الكارثة النووية الشاملة فقط، بل كان الخوف الحقيقي من كون أن تاريخ الأفكار أو وعود عصر الأنوار قد انتهى، ودخل الغرب في عصر ما بعد التاريخ. ذلك أن المشروع الثقافي الغربي كان يزيِّن إرادة القوة بإطار من الأفكار/القيم. وكان مفهوم، شعار: الإنسانوية، هو مجمع هذه الأفكار/القيم. وكانت العقلانية الديكارتية ثم الكانطية وصولاً إلى الهيغلية، تَعِدُ شعوبَ المشروع الثقافي الغربي بتحقيق التطابق الكامل بين العقل والعالم في مستقبل قريب. غير أن ما حدث هو وقوع هذا الانشقاق والانشطار الكبير بين وعود الأنوار التي زالت لحساب نتائج أخرى مغايرة. وفلسفة الحداثة اعتباراً من نيتشه، هي التي تعلن أنه لم يكن ثمة انشطار منذ الأساس، فإن ذلك التنوير الغربي، لم يحدث تنويراً كاملاً، إنما نَقَلَ سلطة اللامتناهي من حامل إلٓهي مفارق، إلى حامل إنساني محايث. فصار على الإنسان ذاته أن يحقق إرادة القوة حتى بدون ذلك التجميل الديونزيوسي الذي رافقه خلال عصور الليبرالية الأولى.

إن سيادة التكنولوجيا جعلت حتى العلوم الإنسانية تعكس هيكلية النظام الأخلاقي الذي استبطن الميتافيزيقا التقليدية؛ بحيث غدت العلوم الإنسانية هي الوريثة اللاشرعية الحديثة للأخلاق الميتافيزيقية التي هزمتها عدمية نيتشه، لكنها عادت إلى الانبعاث مجدداً خلال ما يُسمى بالمناهج الوضعية في العلوم الإنسانية التي حاولت أن تثبت أنه بالإمكان الاستغناء عن الأنظمة الفكرية السابقة، لمصلحة نمو المعارف الجزئية والمكتسبة من معاينة الوقائع.

هنا يتدخل دور جديد لأركيولوجيا فوكو. فتكشف أن الخطاب المعرفي الذي تستند إليه ليس المنهجيات المعلن عنها داخل هذه العلوم، ولكنه المؤسس لدينامية البحث والسؤال عندها، إنما هو استمرار للميتافيزيقا التقليدية ذاتها، التي لم يغير عصرَُ الأنوار من أنظمتها المعرفية شيئاً، بقدر ما أضفى عليها تسميات مستحدثة من قاموس: الإنسان والإنسانوية. فإن علم الإناسة ـ الأنتروبولوجيا ـ بشكل خاص، الذي يدور حول موضوع دراسة الإنسان بالذات كان يتحرك بموجب نظام معرفي ضمني يشكل خلفية الرؤية عنده لظواهره، ويحدد طرق العقلنة، والبرهنة، بحيث يبدو جلياً أن مقياس معرفة الظاهرة ليس هو الظاهرة نفسها، ليس هو ظهورها المحض، وإنما هذا الظهور مؤولاً بطريقة مختلفة تتناسب وذلك الخطاب الضمني الكامن وراء فعالية العقلنة الموضوعية. وهنا ليس هو التأويل بالمعنى الذي تقصَّدته الفلسفة التأويلية من دلتاي إلى غادامير، بل إنه من نوع تلك الافتراضات الأولية التي تسبق البحث ومعطى البحث. فهي ليست ذاتية الباحث بمعنى شخصيته المفردة، بقدر ما هي الذاتية الخاضعة لسلطة نظام الأنظمة المعرفية الكامن والمؤسس للمشروع الثقافي الغربي. فالأنتروبولوجيا كانت هي مثال الأنسنة المصدرة من هذا المشروع نحو الآخر، المرسلة من المركز والمركزية إلى المحيط، إلى الهامش. هنا يلعب الاختلاف دوراً معيارياً وليس معرفياً فحسب. كان خطاب المركز الموجه نحو الهامش، يقول إنه هو: المركز، والآخر هو الهامش. فالانطلاقة من مجرد تعيين هندسة الشكل أو العلاقة بين الذات والآخر، تضع حداً لقيام أي حوار بينهما. فالمركز الذي حدد موقعه كمركز فرض على الآخر أن يكون بلا مركز، لأنه ليس للدائرة سوى مركز واحد. وما التعين خارج المركز إلا التورط في المساحة اللامتعينة كمحيط يمكن أن يتسع إلى ما لانهاية. فالمتعين الوحيد هو المركز. وبالتالي يغدو متعيناً بلا حدود مقابل لا حدود المحيط حوله الذي ليس هو محيطاً فعلاً، وإنما هامش. لأنّ كل ما ليس مركزياً إنما هو طرف آخر، هامشٌ وهامشيٌّ.

العقلنة الإنسانوية ـ نسبة إلى العلوم الإنسانوية ـ إنما تتبع هذه الخارطة الهندسية، وتؤكد أولوية شكل العلاقة على العلاقة ذاتها. فالأنتروبولوجي الغربي حين يدرس الإنسان الآخر، ليس ذلك من أجل أن يكتشفه في اختلافه الحقيقي، في مغايرته الخام، في انزياحه الخاص، وإنما يدرسه ليؤكد فيه كل ما يثبت ويعيد إنتاج مركزيته، مقابل إعادة إنتاج هامشية الآخر. ليس عند هذا الآخر ما يمكن أن يشكل مادة أي اكتشاف. وهو ليس مبعثراً وبدائياً وغريباً ومتخلفاً ومرتهناً لطقوسه وعاداته الغرائبية هكذا، إلّا لأن ثمة إنساناً واحداً هو الإنسان (بالحرف الكبير) والآخر هو المختلف. اختلافه هذا يخرجه من خانة الإنسان. ومنطقة اختلافه لا تدخل في جغرافية اللامفكَّر، إذ إنَّ المفكَّر قد تجاوزه تماماً، فارقه منذ أن شرع في تأسيس تاريخه. الآخر المختلف الغرائبي الذي لا يزال له ثمة وجود هناك، إنما هو نصب من أنصاب ما قبل التاريخ.. التاريخ الغربي طبعاً، الذي لا يحق لأحدٍ أن يكون له تاريخ بهذا المعنى إلّا للغربي وحده.

* مطـاع صفـدي
أعلى