أيمن مارديني - ممنوع الاقتراب أو التصوير .

ايمن مارديني.jpg

طالما أحببت و أنا صغير أن أختبيء أسفل طاولة الكتابة في غرفة أبي، و التي أسماها مجازاً " غرفة المكتب".
هناك لعبت بغبار الشمس المتسلل من نافذة الغرفة، و قطفت منه الكثير لألوكه، و معرفة طعم الضوء. تسللت الى عوالم ألف ليلة و ليلة، و كتب أبي الفقهية، غرقت في عدم الفهم لإبن عربي، والنفري، الا أني أحببت رسوم خط كتاب قصائد الحلاج .
قلبت صفحات الفنانين العالميين، ورسوماتهم، والعري الفاضح الذي أثارني كثيراً.
وكان يعلم أبي أني هناك، وكان يدعني أكمل ما ابتدأته.
وعندما مرت الأيام، وكبرت .
أيضاً أحببت أن أختبيء، خلف ستار وهمي على باب غير قابل للاستعمال في بيتنا. كان الفراغ الصغير بين الباب والستار يكاد أن يحتويني، الا أنه دائماً كان مكاناً براحاً، واسعاً، مليئاً بالصور التخيلية، والألعاب المتوهمة، والحوارات بيني وبين أشخاص أرسم أنا ملامحهم على هواي. وكنت أجد فيه من الهواء دائماً ما يشبعني، و يملأ تجاويف صدري الصغير ورئتي الدقيقتين، الحساستين دائماً لالتقاط الأمراض بسهولة.
ودائماً كانت أختي الكبرى تقتحم مغارتي هذه، بحجة البحث عن شيء ما فقدته، وتتصنع عدم رؤيتي. الا أنها كانت تحب أن تتطامن علي.
و عندما كبرت أكثر... أحسست أن الأيام لم تمر .
و مازلت أختبيء عن الأعين، وأحداث الحياة الصغيرة، والتي لم تسترعني البتة.
هو عالمي الذي أخلق تفاصيله كما يحلو لي، وأكون أنا دائماً من يقرر من سيكمل لعبتي، ومن سيختفي برفة عين مني، و يغيب في قاع ذاكرة معتمة .
احترفت عالم الكتابة، والخلق، والفن أصبح هو هاجسي الأثير. رسمت شخوصي وأحداثي، وملامحهم، ولباسهم، وكلامهم، وحركاتهم، ونهايات أحلامي معهم بدقة أكثر .
ومازال اختبائي بين دفتي كتاب، هو الرحم الذي فقدته على أعتاب صرخة حياة .
الى أن جاء سامي... ابني، ووجدته يوماً يختبىء أيضاً تحت طاولتي التي دأبت الكتابة عليها، وقال لي:
- أبي.... هل رأيت سامي ؟
- لا ... أين هو ... لم أره اليوم، وأنا مشتاق له كثيراً .
- لا أعرف... أنا أيضاً لم أره اليوم. هل تريد أن تقول له شيئاً؟
- أجل... الكثير .
- مثل ؟
- أنا أحبه كثيراً.
- و أنا أيضاً أبي أحبك كثيراً .
- ماذا لم أسمع ... هل سمعت شيئاً ؟
يضحك ويقول
- لا ... لم أقل شيئاً .
- و أنا لم أقل شيئاً .
- سامي
- نعم
- دقيقة .
و أهبط اليه، وأجلس بجانبه، وأختبىء مثله، وأقول له :
- حلو المكان ... هنا تختبىء ؟
- هذا بيتي ، هل أحببته؟
- أجل ... كثيراً ... و أحببت ألعابك أيضاً... هل تعطيني هذه ألعب بها؟
- لا ... دع أباك يشتري لك واحدة .
أتصنع الحزن و أقول:
- أبي مات .
- لا تحزن ... أنت قلت أن من يموت يصبح نجمة .
- أجل .
- هل تريد أن تأخذ هذه اللعبة الأخرى ؟
- أجل ...شكراً ... أحبك أنا .
- هيا نلعب .
و يستمر اللعب بيننا، الى أن يدق أحدهم باب البيت، و أذهب أنا ، و هو يتعب من الانتظار، و ينام هناك . يغفو على البساط الأحمر تحت الطاولة، و هو ممسك بلعبته التي أعطاني اياها، و يتشبث بها جيداً .
و هنا ... يأتي أبي، و أعرفه من رائحته، و أنا بين النوم و اليقظة، و يرفعني بحذر، و يحملني، و يذهب الى سريري. لأكمل نومتي هناك .


2014



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى