معجب العدواني - المحو والإلغاء في رواية الغصن اليتيم* لناصر الجاسم..

عمل روائي قصير لا تزيد صفحاته على الستين، يتضمن مساراً سردياً تشكله حكاية واحدة، يقوم بطلها بدور السارد لأحداث لا يتعدى عدد شخوصها أصابع اليد الواحدة، إلا أن هذا النص يأخذ قيمته من تلك التقنية السردية التي وظفت فيه، وهي التقنية التي يمكن أن نطلق عليها (لعبة المحو والإلغاء) إذ غلبت على النص؛ شخوصه وأحداثه، حتى بدا ذلك النص القصير نسبياً موازياً لنص آخر غيبه السارد وما على المتلقي إلا أن يبحث جاهداً عن ذلك. أما زاوي الرؤية في السرد فهي زاوية (الرؤية من الخلف)؛ فالسارد يرى ويعلم أكثر مما تعلمه الشخصية. ولم تكن سلطة السارد مهيمنة على الشخصية فحسب، وإنما حاولت التسلط على المتلقي أن يعالجها بعد أن يمعن النظر فيها.
لقد وضع هذا العمل تحت عنوان (الغصن اليتيم)، ورسم في الغلاف الخارجي ذلك الشكل لغصن أجرد يخلو من الأوراق، وفي أعلى الغصن رسمت عين واحدة، كل ذلك في إطار صغير يعلو عنوان الرواية المكتوب في قاع الغلاف، ليتعاضد العنوان والرسومات في تشكيل نص مواز لنص الرواية.
لنتناول لغة العنوان، وذلك بالتعرف على مفردة (اليتيم) في قواميسها بعيداً عن الشائع والمستعمل الذي يردد: اليتم هو فقد الأب أو الأم، فاليتم هنا يأتي بمعنى الفرد، إذ يطلق على "كل شيء يعز نظيره... وأصل اليتم بالضم والفتح: الانفراد"(1 )، ولذا فإنه لا يزول عن المرأة اسم اليتم حتى تتزوج عند العرب، فإذا تزوجت سقط عنها، من هنا كان التغييب والمحو تقنية النص التي اعتمد عليها فالسارد الذكر أصبح يتيما بفقد نظيره الأنثى، بل كانت هناك عملية إحلال لذلك السارد الذكر محل الأنثى المغيبة في النص.

فالعين المرسومة على الغلاف رسمت يتيمة (مفردة) وقد جبلت الطبيعة الإنسانية على رؤية العينين معاً، كما أن الصورة لا تكتمل إلا بهما، وتعالقت تلك العين اليتيمة بغصن أجرد من الأوراق- على غير المعتاد والمألوف من رؤية الأغصان المورقة- غصن منفرد ومستقل متطلع إلى شجرة مفقودة، فتحققت فيه صفة اليتم من خلال خلوه من الأوراق أولاً، ومن الشجرة الأم ثانياً ومن ثم افتقد إلى الأغصان المجاورة لهن فغدا منفرداً بكل الصفات السابقة، وعليه كان العنوان والرسم يلعبان لعبة (المحو) للآخر عن طريق إثبات الفردية، مع أنهما يتبادلان الدور في القيام بالتفسير النصي وبذلك تكون مهمة التوضيح موظفة في كلا النصين الموازيين.
أما الإهداء في النص فإنه سيكون موجهاً إلى الآخر، ولا غرابة في ذلك، لكن الإهداء يتخذ منحنى قوياً في المحو والتغييب بتفعيل تلك الجمل المبثوثة فيه، وهي جمل تتخذ مسارها التغييبي الكامل بعد إقامة الاسم الموصول مقام الاسم المهدى إليه النص، الذي ينتظره القارئ بشغف، ولهذا اصطدم المتلقي بذلك الإهداء:
"إلى التي من صوتها بدأت الأدب ومن ابتسامة عينيها ضلعت فيه... إلى الناقدة الأولى.." وهذا الإهداء لا يحيل بداية إلا على اسم الموصول (التي) ذلك الاسم المبهم لمؤنث، الذي ينوب عن العلَم، ولا ينجلي إبهامه إلا بجملة الصلة المرفقة به، لكن جملة الصلة هنا لا تضع يدنا على الاسم المبهم بل تزيد إبهامه باختيار ملمحين يرى الكاتب أنه استمد منهما قوته؛ وهما الصوت والرؤية على الترتيب والتدرج في فكّ إسار الكاتب وانعتاقه إلى عالم الأدب، لتظل الأنثى مغيبة في الإهداء إلا من بعض الملامح التي تتصل بها كالصوت، ولإشراقة العينين. ويبدو أن هذا التغييب المتعمد في الإهداء المتعالق مع النص نفسه، فالسارد أديب والحبيبة أديبة، الأمر الذي يصل السارد بعلاقة قوية مع الكاتب، ويصل المهدى إليها بعلاقة أخرى مشابهة مع المرأة التي تعلق بها السارد، ومن ثم تعالق النص الموازي (الإهداء) مع إهداء السارد إلى حبيبته أول مجموعة قصصية كتبها "ورصعت أو صفحاتها بعبارة الإهداء التي لا تنسى... إلى من منحتني القدرة على العطاء في هذا الزمن الصعب... إلى...".
إن هذا التعالق قد يوحي بنوع من الكتابة السيرذاتية لولا الإغراق في إضافة تلك الأحداث المتصلة بموت الحبيبة/ الزوجة المغيبة في النص إلا من إشارات دارت حولها حركة النص.
ويمكن وصف تلك الأحداث القليلة بأنها أقرب إلى أحداث تلامس الواقع وتصفه بكل جزئياته، لكن هذا لا يعني أن يعدّ النص سيرة ذاتية للكاتب، قدر ما هي محاولة لتناول تلك الصلة المباشرة بين الإهداء كنص مواز وذلك الإهداء المتعالق بأحداث النص الروائي والمدرج في إطاره.
إن الحكاية المؤطرة في النص حكاية شاب أديب يلتقي بتلك الفتاة الأديبة التي لها نفس الهموم والاتجاهات، وتظل العلاقة بينهما علاقة اتصال هاتفي حتى يهديها باكورة أعماله، الأمر الذي يحيل تلك الفتاة المتمنعة عليه إلى فتاة تقرر لقاءه. بعد ذلك تبدأ رحلة تالي الأحداث حيث تبدأ الحواجز كالظروف الغريبة التي تمنع الزواج ومع أنهما في النهاية يصلان إلى مرحلة الزواج، إلا أن الزوجة وفي ظروف غامضة (لم يشأ السارد أن يفصح عنها مباشرة بل لمّح إليها تلميحاً موجزاً) تموت ليلة الزواج، وتبدأ عقدة الإحساس بالذنب تجتاح البطل ويبدأ في عقاب نفسه من خلال الأقوال المسرودة أو الأفعال التي يراها السارد ممجوجة أو غريبة.
وفي كلا الممارستين نوع من تغييب الذات وتقليصها؛ فهو يتدرج في نعت نفسه بأوصاف عدة تتراوح بين المعتوه والمجنون، وتلك الأوصاف كنوع من العقاب الذاتي الذي يفرضه السارد على نفسه لأنه

"وشم أسود في عرف قبيلة الجمال يجب أن أمحى.. فيروس يجب أن أدمر قبل أن أمرق من بوابة المعمل وأنقل العدوى.. فعلى جبيني انتصبت لافتة تقول ممنوع اللمس ممنوع الاقتراب منطقة خطرة.( 2)


وتتواصل الرغبة في تغييب الذات، وتصل إلى أوجها حين تزداد حدة القمع الذاتي، فالأكل يعد

"من الخيانة التي أمارسها في حق الذات كان قميناً بي ألا آكل نهائياً.. حتى أموت جوعاً"(3 )

والتدخين خيانة أخرى لأنه استمر عليه بعد أن كان يدخن في حضرتها، ومن ثم يصبح آثماً يستحق العقاب

"وتأبطت الدفتر وضغطت عليه بقوة، وأنا أزجي الدعوات لها، وأكيل اللعنات لنفسي الآثمة"( 4)

كما أن رؤية السارد للمحقق قد خففت عنه فربما كان هو

"من سيوصي القاضي بالحكم عليّ بأشد عقوبة يستحقها آثم مثلي.."( 5) ذلك لأنه "كالعضو الفاسد في شجرة الحياة"( 6).


ومن جانب آخر نجد الحرص على وصف الجسد بتلك الصفات الجسدية التي توحي بالضعف والوهن والشحوب وكذلك التلاشي، كما أنها تستكمل مآرب السارد التي بدأها في محو الذات، وكأن ذلك مرحلة أخرى ينتقل إليها السرد

"حملت جسدي الخلق برغبة ميتة في الاغتسال، وتمريت في المرآة فراعتني الرؤية.. أسبلت ثوب أخي عليّ وصرت بداخله أشبه بعصا يابسة ذات مقبض هو وجهي، لم يكن الثوب هفهافاً إنما أنا الذي كنت ناحلاً.. ركبت السيارة كالخشبة المسندة، لا أسمع لا أرى لا أتكلم.."(7 ).


وحين يبدأ بعرض رؤية الآخر فإن تلك الرؤية تتمازج مع حركة النص بل تدعم رؤيته الخلفية وتؤيدها، فالأخ يراه ممعناً في التلاشي والذوبان فيقول له:

"آسف، لقد ظننتك شبحاً زار حمامنا.. كما أن الأخ يجرني وراءه كالمعتوه"(8 )، أما المحقق فيصفه بأن أمره غريب ويناديه سراً "أيها السافل الحقير، تقتل زوجتك ثم تتباكى عليها"( 9).


غير أن الرؤيتين تصلان إلى الذروة حين يبدأ السارد بعرض حالته الملتبسة بالجنون وفي ذلك اقتران لرؤية الذات ورؤية الآخر فيظل الأمر ملتبساً حتى على السارد نفسه الذي يوصل السرد إلى تلك المرحلة من تغييب الذات لما تحمله تلك المفردة. الجنون. في الثقافة العربية من معاني الستر والإخفاء والمحو والتغييب، ويبدو أن اختيار ذلك الجنون كصفة ملازمة للسارد يزاوج بين الإثبات والنفس، فالسارد يراوح بين إثبات الجنون نفسه، والآخرون يختلفون في نسبة الجنون إليه، ومنهم الدوائر التي اهتمت بالجريمة كالشرطة والمستشفى ويمثلهما في الرواية المحقق والطبيب.

إن هذا الاختلاف يمنح السارد مزيداً من التغييب، فلا يمكن تحديد الإطار الذي ينضوي تحته، وربما يذكرنا ذلك بتلك المقولة للبهلول حين سئل: أتعدّ مجانين بلدك؟ فقال: هذا شيء يطول ولكن أعدّ العقلاء، فاختلاف نسبة المجانين إلى العقلاء يعتمد على القائم بفعل التصنيف وفاعله لا على التقارير والأوراق الطبية، فلا عجب أن نجد فصلاً في صدر كتاب (عقلاء المجانين) لأبي القاسم النيسابوري يطرح فيه أكثر من عشر إجابات متوالية ومختلفة على سؤال واحد هو: من المجنون؟.
وفي النص نجد السارد ليس مجنوناً في عرف الطب؛ فالتقرير الطبي الصادر عنه

"المذكور أعلاه تبين أنه صحيح العقل، سليم النطق، فصيح اللسان، متزن، هادئ التفكير، لا توجد به نوبات صرع، لا يشكو من أي نوع من أنواع الاكتئاب، صالح للتحقيق"(10 ).


لكن محيط الأسرة لا يقبل بهذا فالممارسات التي يقوم بها السارد في المنزل كانت كافية كي يقوم والده بإحضار الشيخ (الضرير) ليقرأ القرآن الكريم عليه بصوت (منخفض) حتى يشفى من جنونه.
إن حالة الجنون التي يلبسها السارد لنفسه تأخذ بعدين مهمين في النص: الأول منهما استكمال تلك الحلقات التي يمارسها السرد في المحو والتغييب ولا سيما ذلك المتصل بالسارد نفسه، والجنون من أنجع الوسائل لتطبيق تلك التقنية سواء أكان ذلك على مستوى الجذر اللغوي، أم على مستوى الممارسة الفعلية في النص. أما البعد الثاني فيتجلى في العلاقة الي تصل الإبداع بالجنون، وهي العلاقة التي أوجدت في الثقافة العربية القديمة ما أطلق عليه شياطين الشعر، ووادي عبقر الذي تسيطر عليه الجن وتصل به قدرات الإبداع. هنا السارد مبدع من كتاب القصة، تتخلق معه حالة من النزوع إلى الجنون، إن لك يكن الجنون حقاً، ولا ينسى السارد أن يصف غريزته هي الأخرى بالجنون بقوله في المطلع: أيتها الغريزة المجنونة؛ لماذا سكنت جيدس في تلك اللحظة؟" ليصل إلى مرحلة تغييب وتهميش كاملين

"أصبحت كالشجرة المنخورة، لا أقدر على شيء كالزق المكسور لا قيمة لي"(11 ).


يقول "نيتشه": ليست حكمة العصور الخوالي وحدها هي ما يسري فينا، بل إن جنون هذه العصور ليسري فينا بالمثل، ما أخطر أن تكون وريثاً "ويبدو أن ذلك التهميش للذات يأخذ مستوى آخر حين يغيّب اسم السارد وذلك كاستمرار لتقنية المحو والإلغاء التي انطلق منها النص.
في إطار نص (الغصن اليتيم) بـ "ناصر الجاسم" يتواصل المحو وتغييب الذات وذلك ضمن نسق آخر هو نسق المجتمع الذي يعكس محواً للذات من جانب، ومحواً للحبيبة من جانب آخر، فالمجتمع الأبوي الذي تسلط على السارد في جوانب مختلفة يأخذ أدواراً ومنحنيات جليّة، وأخرى تأخذ منحنيات خفيّة؛ إذ يعاقب السارد والحبيبة معاً عبر منعهما من الزواج أولاً، وتغييبهما بسطوته ثانياً، ومن هنا كانت الإشارة لازمة إلى ذلك الجانب الاجتماعي الجدير بالمراجعة في النص؛ انطلاقاً من القاعدة الاجتماعية السائدة، أو ما يطلق عليه في النص (القانون الأعمى). إن ذلك القانون الاجتماعي- بوصفه قانوناً أعمى- يتعالق مع أحداث السرد الأخرى المتصلة بالواقع الاجتماعي، إنه قانون مغيّب العينين تماماً فلا يستطيع الإرشاد أو الإفادة للمجمع؛ ولا سيما إذا تعالق مع ما تعرّض له السارد بسبب هذا القانون الضارب في العتاقة، إنه قانون"البنت لابن عمها"(12 )
وهو القانون الذي يعدّ أساساً لتشريع الزواج القبلي.
وعندما يرفض السارد تطبيق تلك القاعدة الشفاهية؛ فإن الحاجة ماسّة إلى شيخ العشيرة الذي يتمظهر في النص مجسداً لكل أشكال السلطة والنفوذ التي تقمع من يشذّ عن القاعدة الآنفة الذكر، يظهر شيخ العشيرة في النص حينما

"جاء بعصاه العجراء، وبشته الأسود، ولحيته الطويلة"(13 )

ليبدأ دور المحو لذات السارد بواسطة تقليص مكانته الاجتماعية وسحق طموحاته وآماله التي تتعارض مع المبدأ القبلي، ليتدرج عقابه "صرخ في وجهي، ولطمني من الغيظ، وسخر مني وتهكم بألفاظه العتيقة المحفورة في ذاكرة القبيلة...". حتى وصل الأمر به في النهاية حدّ التهميش "فصرت في أعينهم كالمجذوم لا أحد يكلمني، لا أحد يرافقني".
أما المرأة التي أحبها فتمرّ بمستويات عديدة من الإلغاء والتهميش ابتداء من الإهداء الداخلي المتصل بالسارد لا الإهداء الخارجي المتصل بالكاتب، حيث سبق لنا تناوله وذلك كمهاد يبدأ به السرد لعبة تغييب الأنثى التي كان من الأجدر أن تتبدى في النص بشكل أبرز. ومن تلك الخطوات تلك العبارات التي تنطلق في النص، وكأنها تخرج من لا وعي السارد الجمعي الذي يرفض ذلك التسلط الأبوي الذي يمارس عليه في سلم التراتب الاجتماعي، ويحرص على أن يبدي امتعاضه الشديد لذلك، لكنه لا يلبث أن يتحول إلى ذلك الإطار القبلي

"فقلت في نفسي بيقين تام: الرجل إذا فكر في النساء حلّت شهوة الجسد محل قوة العقل والقلب، ولهذا السبب خلف كل جريمة امرأة"( 14). "سيدي المحقق... قيل قديما... الحسناء لا تعدم ذماً"(15 ).


ومع أن السارد ينطلق من هذه العبارة كي يقنع متلقيه بصحتها إلا أنه يمارس بها ذلك التبرير الذاتي لتلك العلاقة بينهما، وكأن الحكاية التي يوردها عقب هذه الحكمة تقويض لذلك المبدأ الأبوي (البنت لابن عمها) فلا تنتهك القاعدة إلا لمن كانت أخلاق ابن العم لديها كأخلاق (يوسف) المذكور اسمه في النص ومثالبه فهو مغيّب نصياً، إذ يمارس السارد ذلك بقدر كبير من الذكاء فهو منذ المرحلة الثانوية يبتعد عن قريته، إلى جانب تلك الأسفار البعيدة المشبوهة.
كما يستمر السارد في تهميش المعارض الأول في السرد، ثم محاولة تصويره بتلك الصورة (الكاريكاتيرية) الضاحكة، التي تثير السخرية، فقد وصفه بقوله:

"حين تسألني يا سيدي عن الحقبة الثانية فيجب أن أبدأ به، أبدأ بيوسف، جار الحقد الذي آل إلى السقوط، الروح المتجهمة، البركة الآسنة، كهف الشياطين، وجهه مستدير، مضغوط كعملة نقدية، عيناه غاطستان في محجريهما، كحجرين في بئرين متجاورين، أنفه كعظم من عظام قفص صدري لصدر دجاجة هرمة، شاربه كأرض صحراوية ينبت في بعضه الشعر والبعض الآخر لا يستوعب نصف قبضة يده، أسنانه كأسياح الحديد"( 16)

ويبدو أن مهمة المحو عبر الأوصاف الجسدية قد استهوت السارد فغدا يواصل التشبيهات العجيبة لرسم تلك الصورة لمنافسه (يوسف)، الذي يمثل المعارض الأول المنبثق من أعراف القبيلة.
ولا يكتفي بتلك الإشارات الجسدية البارزة ليوسف بل يضفي عليه أفعلاً تنتمي إلى لعبة التغييب والإخفاء فهو أحياناً "يحاول التجسس عليها" وأحيانا "يترصد تحركاتها بعيون لا ترى"، "كان متخفياً كقط خلف برميل القمامة"، "وارتاعت لبروزه في الظلام كشبح".
إلى جانب ذلك يحمل (يوسف) اسماً في السرد ليس للتعريف به أو لإضفاء دور مهم له، ولكن لتهميشه وإسقاطه نصياً، مع أنه الشخصية الوحيدة التي تحمل اسماً في النص، في حين أن بقية الشخوص أطلقت عليها تلك الصفات التعريفية المنبثقة من علاقتها بالسارد سواء أكانت الشخوص أساسية في النص كالحبيبة، والمحقق، والأخ، أما ثانوية كالأب، والأم، والطبيب. ومع أن هذا الاسم الذي يختاره السارد لأولى شخصياته المعارضة يأخذ ذلك علاقة المشابهة الشكلية لاسم أحد الشخوص التي تأخذ بعدا تاريخياً ودينياً وهي شخصية النبي يوسف عليه السلام إلا أن المفارقة تنطلق من تلك التسمية، فيوسف عليه الاسم كان محبوباً لا محباً في القصة التي نقلها القرآن الكريم، والتي ترد في سورة يوسف عن شغف امرأة العزيز به، لكن (يوسف) الشخصية المعارضة يكون محبّاً لا محبوباً، فمع أنه "ابن عمها المدلل والوحيد، كانت بالنسبة له حشاشة الفؤاد ودرة من أعماق الخليج" لكنه بالنسبة لها "دم الأضراس وقيح الجروح".
ولا ينسى السارد أن يشير إلى السجن الذي عوقب به يوسف عليه السلام مع أنه كان بريئاً من التهمة، في حين لا يعاقب ذلك المعارض، ويظل يعيش حياته كما يشاء. تأتي تلك الإشارة النصية في معرض تشبيهه لخطاب المحقق بقوله:

"وأنت تحتاج إلى وقت طويل لتصغي إليّ، وتسجل قصتي، فاصبر صبر أيوب، واسجن في هذه الغرفة سجن يوسف عليهما السلام"(17 ).


لكن ذلك التغييب يصل ذروته النصية بالتخلص من المعارض الأكبر في السرد بحادثة مفاجئة ويتم ذلك بالإحالة على القدر "حتى رسم له القدر نهاية بشعة لم تخطر على البال"، وحتى النهاية تتواصل فيها سمة المحو والإلغاء، فحادثة انقلاب السيارة لا تساوي حادثة فحسب بل يكون تأبين السارد لضحيته بمواصلته شهوة الانتقام بقوله:

"مات كحشرة، وهو يطاردنا منقلباً بسيارته في مجرى مفتوح لمياه المجاري والمخلفات الكيماوية لمصانع المنطقة الصناعية"( 18).


ولا شك أن آلية السرد هنا قد اعتمدت الصدفة وإخضاع الحدث لعنصر خارجي، وذلك ما يراه السارد الوسيلة الأنسب للتواصل مع المتلقي الذي يكون في النص المحقق ومن ثم القارئ.
في السياق نفسه تتراءى لنا شخصية ثانوية ذات دور مهمش، لكنها تأخذ دوراً مسانداً ليوسف، وإن اختلفت معه في الإطار الخارجي إلا أنها تشترك معه في الوظيف النصية. إنها شخصية ابن العمة الذي يشير إيه السارد بقوله:

"ويطيب لي أن أعرفك على درجة الذل التي عاشها ابن عمتها فلقد جثا باكياً، ناشجاً على ركبتي أبيها عند باب المسجد يقول والكلمات تندرج من أعماقه بنظرة الهائم وحسرة المغرم: خالي زوّجني ابنتك..!!"( 19).


ويشترك السارد والحبيبة مع ابن العم وابن العمة في كونهم عشاقاً، والعشق هو الحب مع درجة من الإفراط فيه، وفي اللسان "سمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت، والعشقة شجرة تخضرّ ثم تدق وتصفرّ؛ عن الزّجّاج، وزعم أن اشتقاق العاشق منه..."( 20)، وأي ذبول وتغييب ومحو أصاب أولئك الشخوص الأربعة!! فكلهم عاشق مع تميّز السارد في كونه عاشقاً مجنوناً، إذ يشترك الجنون والعشق في أنهما استئصال للفرد من شجرته الأم، فهو كالعشقة، أو هو كالغصن اليتيم كما رأينا في النص
في بداية السرد يبدأ السارد حكاية العصفور الصغير الذي يقع من حالق النخلة، فتجتمع عليه العصافير حتى لا تفقد واحداً منها، لكنها لا تنجح في إعادته إلى عشه الصغير، لكن مساعدة الأب بإعادة العصفور الصغير إلى عشه تجعل الطيور تحتفل بعودته على الطريقة المتميزة لها. تلك الحكاية التي كانت مثار الاسترجاع لحوادث السرد السابقة تربطها به علاقتان:
العلاقة الأولى: هي العلاقة المنطلقة من وضعية الإنقاذ الذي حدث للعصفور بإعادته إلى عشه الصغير وذلك بفعل الأب، أما الحبيبة فلا تجد أحداً ينقذها من براثن السارد/ الحبيب، ولهذا تدفع عمرها ثمناً، كما عبر عن ذلك السارد بقوله "لماذا لم يأت من ينقذها من ساديتي_؟ لماذا لم يهب إليها من يخلصها مني حين أسكرني عشقها؟؟".
أما العلاقة الأخرى التي تعتمد على آلية المحو والإلغاء السائدة في النص، وهي تنطلق من تشبيه لمملكة الطير في الحكاية الافتتاحية بمملكة القبيلة؛ فالطائر الصغير يتعرض للسقوط لأنه خرج على أعراف مملكة الطير عندما حاول الطيران قبل الأوان. وقد أوشك العصفور أن يصل إلى مرحلة التغييب من مملكة الطير بفقده، لولا الدعم الخارجي له بإعادته، ولهذا "هرعت إليه على الفور ثلة من العصافير، تلبية لنداء أبويه القلق، فتحلقوا حوله خوفاً من أن يهتز عرش مملكتهم بنقصان فرد واحد"، هذا الموقف يرتبط بعلاقة مشابهة جلية من حكي السارد الذي يبدأه بعدها، لكن هذه العلاقة تختلف كإجابة منطقية على سؤال السرد.
في السرد يخرج السارد والحبيبة عن أعراف القبيلة بمحاولتهما الزواج وينجحان في تخطي معارضي السارد كيوسف ابن العم، وابن العمة، والأهل، وأخيراً شيخ العشيرة ويتغلبان على تلك المصاعب، ويتمكنان من الزواج لكن سلطة القبيلة تسهم في محو هاتين الشخصيتين نظراً لكونهما خارجين عن أعرافها وذلك عبر تغييب الحبيبة بالموت في اللحظة التي كان ينتظرها الجميع، وفي تغييب السارد/ الحبيب بتفعيل تغييبه بالجنون الذي أشرنا إليه سابقاً، وفوق ذلك كله فإنه يمر بمراحل من التحقيق والاستجواب، ويبدأ السرد بتلك الآلية التي تحقق تلك القيمة الاستهلالية للنص الروائي.
حين تقوم شهرزاد بدور السارد في قصص (ألف ليلة ليلة) يكون سردها صراعاً من أجل البقاء، لكن السرد هنا يتبنى موقفاً معلناً بدعوة السارد إلى الاقتصاص منه، وأخذ الجزاء العادل للحبيبة. تلك الدعوة التي تأخذ عدّاً تنازلياً من بداية السرد، في البداية تقوى هذه الدعوة وتصل أوجها، لكنها لا تلبث أن تخمد ثورتها كالبركان، إلى درجة أن تصل في نهاية السرد إلى التقاء حميمي مع حيلة السرد في (ألف ليلة وليلة)؛ إنه سرد يصل في النهاية إلى محاولة تأجيل الإعدام أو محوه وتغييبه عن السارد، وذلك يتم بعدة طرق نصية لعل أبرزها تلك النداءات التي يطلقها بشكل لا واع:

"لا لا... أرجوك أيها المحقق لا تقتلني"(21 )

وتلك الفرحة المكبوتة عندما:

"نطق المحقق بعد لأي بصوت متقطع: حسب خبرتي فلا شيء عليك، وتقرير الطبيب الشرعي يشفع لك"(22 ).



________________________________
* عمل روائي للقاص ناصر الجاسم صادر عن النادي الأدبي بأبها عام 1997م.
1. مرتضى الزبيدي: تاج العروس، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت 1994م، مادة يتم.
2. الرواية ص 4
3. ص 6
4. ص 7
5. ص8
6. ص 9
7. ص 7
8. ص 48
9. ص 18
10. ص 36
11. ص 57
12. ص 45
13. ص45
14. ص 41
15. ص 38
16. ص 38
17. ص 42
18. ص 40
19. ص 42
20. ابن منظور: لسان العرب، دار الفكر، مادة عشق.
21. الغصن اليتيم، ص 49
22. ص 58


د. معجب العدواني
- فصل من كتاب (تشكيل المكان وظلال العتبات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى