جان ألكسان - العنق .. والأنشوطة

السكين في الخاصرة، والأمل حرون، وليس في المرتجى الداني أو في الأفق المياسر، أي بشير للخلاص..

في هذه اللحظة، تنهي سفينة فضائية دورة جديدة في المدار، وتشحذ سكرتيرة كاعب ابتسامة متجددة للمدير وتكشيرة للمراجعين.. ويستوي أحد أباطرة المال فوق أريكة مصرفية وهو يلوي عنق الخط البياني للبورصة العالمية، ويموت طفل في ساحل العاج من التجفاف.. ويحدق نيلسون مانديلا في تاريخ الصحيفة التي سرّبت إلى سجنه في بريتوريا فيرتسم على وجهه الكابي شبح ابتسامة وهو يحسب زمن اعتقاله الذي يقترب من أعوامه الثلاثين..

ها أنتم ترون أنني " متابع " و " مطّلع ".. اعرف امور الدنيا، واستقرئ أحداث العالم، وأصحح أخطاء مذيعات التلفزيون.. يعتبرني اهل الحي مثقفاً، وتعتبرني زوجتي رجلاً خائباً لأنني أقرأ أكثر مما أعمل، وأستمع إلى الإذاعات حتى ( أصفّي ) آخر موجة على الأثير دون أن أكترث باعلانها اليومي عن خيبتي المزعومة وهي ترمي ثيابها الداخلية فوق الشراشف لتوحي بأنها في حال العري المستلقي والإنتظار الذي طال.

السكين في الخاصرة، والأمل حرون، وأنا في غرفة فسيحة لها باب واحد مغلق، يقبع خلفه - هكذا أتخيل - الرجل المربوع المتين الذي يبدو وكأنه قد صبّ من الرصاص.

لا شك في أن الدنيا قد تبدلت حتى في هذه الأماكن، فالغرفة التي اقتادوني إليها فسيحة، عالية الجدران، جيدة الإضاءة وليست زنزانة ضيقة، كما نقرأ في الروايات وفي قصص بعض الكتاب المتطرفين.. حتى الحارس، ليس ضخماً، ولا طويلاً، ولا حاد النظرات، صحيح انه يبدو متيناً وكأنه قد صب من الرصاص لكنه ليس شرساً، لم يحدجني بنظرة، ولم يصفعني، ولم يركلني.. ولم يقل لي " يا إبن ال... ".. حتى عندما قدم لي الشاي وضع الصينية أمامي بهدوء..

ها انذا أعزّي نفسي بشكل الحارس، وطريقته في تقديم الشاي ولكن السكين ما تزال في الخاصرة.. أجل.. سكيّن.. ضربة غدر من يد مجهولة جعلتهم يستدعوني ويضعوني في هذه الغرفة منذ ثلاث ساعات دون أن يستجوبني مستنطق أو يجيب أحد عن سؤالي التقليدي: لماذا أنا هنا؟.

هل تظنون انني لم أسأل الحارس هذا السؤال؟. ستقولون أنه لم يجبني ..

بل أجابني..

قلت له: أخي أرجوك لماذا استدعيتموني إلى هنا؟.

أجاب بهدوء: منشان نضيفك شاي..

ووضع أمامي فنجان الشاي وخرج.. يسخر مني (إبن ال.... ) هذه المرة انا الذي سيشتم..أنا سأقول له ( يا إبن ال... )...

ولكن.. كيف يقدم لي الشاي في فنجان بلّوري؟.

عادة.. في السجون.. وفي غرف التحقيق ( هكذا قرأت في الروايات وفي قصص الكتاب المتطرفين ) يقدمون للسجناء والمعتلقين أدوات من البلاستيك أو الألمنيوم، فالأدوات البلورية يمكن أن تصبح - اذا كسرت- مدىً مناسبة للإنتحار...

يبدو أن تهمتي بسيطة، مجرد دسيسة رخيصة سرعان ما تنكشف، صحيح أنني أشعر كأن سكيناً قد طعنت خاصرتي غدرأ، ولكني لا أتصور انها طعنة عميقة يمكن أن تصل إلى القلب.

كان علي ان أخطر أحداً بأنني استدعيت إلى هذا المركز، مختار الحي على الأقل، فليس هناك من يعلم بقصة استدعائي سوى زوجتي، وهذه لن تبادر إلى السعي لإنقاذي، فما حاجتها لي وأنا إلى جانبها في الفراش قارئ للصحف أو مستمع للإذاعة؟. وجاء الحارس بفنجان قهوة...

لا.. هذه حرب أعصاب.. انها الأنشوطة التي يبدؤون بلفها عادة حول العنق.. صحيح أن بعض الكتاب يتطرفون أحياناً في رصد مثل هذه القصص، لكن موضوع حرب الأعصاب حقيقي، ينقعون المعتقل في غرفة مغلقة لساعات او لأيام، دون أية كلمة أو صفعة أو استجواب، يجلس في ظل الزمن الثقيل والأسئلة الملحة تحفر رأسه وهو يتكهن حول أسباب اعتقاله دون ان يصل إلى جواب، حتى إذا انهارت أعصابه اخذوه إلى المحقق شلواً متهالكاً، لا يصمد أمام " ضربات " الأسئلة الذكية المتواترة من المحقق المحنّك سوى لحظات يتهاوى بعدها.. و ( يعترف )...

-. بماذا ساعترف؟.

أقسم لكم أنني أتمنى لو أن هناك بحقي تهمة حقيقية، وأفضّل أن تكون سياسية، إذن لما خفت ولا توجّست شراً، بل كنت سأقابل المحقق بشجاعة ورباطة جأش، فأنا صاحب موقف ومبدأ، واصحاب المواقف والمبادئ.. يرحّبون بالمشانق أراجيح بطولة.. أراجيح بطولة؟.

أين قرأت هذا التعبير؟. أين قرأته؟.

أي.. تذكرت.. قاله احد شهداء أيار الذين شنقهم السفاح التركي جمال باشا...

أراجيح بطولة.. يا له من تعبير رائع..

وجاء الحارس..

وقدم لي سيكارة..

سيكارة أيضاً؟. لقد أكتملت الأنشوطة.. الشاي والقهوة والسيكارة.. لم يبق إلا تلويحة واحدة ويصبح العنق داخل الأنشوطة وينتهي كل شيء..

ولكن.. لن استسلم.. لابدَّ من المدافعة قبل الإستسلام المحتوم، لابدَّ من سؤال آخر أطرحه على الحارس:

-. اخي.. أرجوك.. أليس في هذا المكان رئيس؟.

-. طبعاً..

-. وهل هو الذي استدعاني؟.

-. أجل

-.-. وأين هو الآن؟.

-. في الإجتماع..

-. ومتى سينتهي الإجتماع؟.

-. لا أدري..

-. هل أستطيع أن أقابله؟.

-. قال انه سوف يطلبك..

-. متى؟.

-. لا أدري..

-. أخي أرجوك.. هل تعرف لماذا استدعيت إلى هنا؟.

-. منشان نضيفك شاي

وخرج الحارس، وتركني لهواجسي من جديد..

هل هو المختار؟. هل هو صاحب الدسيسة؟.

لا أظن ذلك، فالرجل بحاله.. آدمي.. محشوم، ويدعوني دائماً إلى كأس من الشاي في دكانه، ويحب أن يستمع إلى ( آخر الأخبار ).. ولكن هل كان يستدرجني في الكلام؟.هذا ليس معقولاً، فهو يعرف أنني أنقل أليه أخبار الإذاعة والصحف المحلية، فهو لا يقرأ الصحف، ولايستمع إلى الإذاعة، ولهذا يكتفي بما الخصه له من أخبار..

من أذن صاحب الدسيسة؟.

هل هو صاحب الزاوية اللغوية التي تقدم في التلفزيون؟ صحيح انني انتقدته في المقهى، وقلت أنني سأسعى لأحتل مكانه على الشاشة، ولكن الأمر كله كان مجرد مزاح، مّنْ أنا حتى أقدم برنامجاً علىشاشة التلفزيون.. انا رجل درويش، أستاذ لغة عربية متقاعد.. لافي العير ولا في النفير..

إذن هي المذيعة...

أجل.. المذيعة التي تخطئ كثيراً وانتقدها كثيرا، علنا، لا شك أن إنتقاداتي قد وصلتها. وانها هي التي أوقعت بي.. يقولون عنها أن ( إيدها طايلة ) وانها (مدعومة )..

ولكن.. لماذا توقع بي؟.

كنت أتوقع أن تشكرني، وان تتابع لدي دروساً خصوصية في اللغة حتى يستقيم لسانها وتنتهي من عثراته..

لا.. لا.. لا أظن انها هي..

من إذن؟..

زوجتي.. ليس هناك أحد غيرها له مصلحة في سجني وتأديبي.. فوجودي بالنسبة لها " مثل قلته ".. لعلها تحاول الإنتقام لليالي الذل التي تنشر أمامي فيها ثيابها الداخلية على الشراشف لتعلن انها في حالة الإنتظار وهي تستلقي عارية في حين انشغل عنها بالتنقل بين صفحات الصحف وإذاعات العالم..

ولكن.. ما نوع الدسيسة التي يمكن أن تدسها هذه المرأة الغبيّة الجاهلة، وكيف استطاعت الوصول إلى مثل هذه الأجهزة؟.

ستقول لهم: أن زوجي يتحدث في السياسة؟.

ها.. جميع الناس يتحدثون في السياسة. والحديث في السياسة ليس ممنوعاً.. ثم ان أرائي معروفة.. أنا - أولاً - ضد حلف الأطلسي بمكاتبه وجنرالاته واساطيله وخططه ومناوراته العسكرية المشتركة وغير المشتركة التي ينفذها هنا وهناك..

وانا ضد السياسة العنصرية في العالم.. كما انني أناقش البيروسترويكا بموضوعية، على الرغم من انني لم أقل فيها الرأي الفيصل حتى الآن.

ماذا أيضاً؟.

أنا وحدوي من يوم يومي.. منذ أن كنت طفلاً أردد مع أقراني: (( بلاد العرب اوطاني )).. صحيح أن لي بعض الملاحظات على بعض التجارب والإتحادات والمحاور الوحدوية، ولكني أرى خلاص العرب في وحدتهم.. جميع الذين يجالسونني في المقهى يعرفون رأيي..

وانا إشتراكي حتى العظم.. وانتقد أي مظهر بيروقراطي يمكن أن يعرقل المسيرة الإشتراكية، وأدعم أرائي بما تنشره الصحف حول هذا.. كلنا مطالبون بمثل هذا الموقف.. حتى بالنسبة للسينما، أنا مع سينما القطاع العام، وضد السينما التجارية، وضد سينما المقاولين.. صحيح أن تعبير ( سينما المقاولين ) ليس من بنات أفكاري، وصحيح أنني قرأته في إحدى المجلات لناقد سينمائي يتحدث عن السينما في مصر.. ولكنه تعبير دقيق وينطبق على سينما السبعينات والثمانينات

ما لدى زوجتي لتدس عليّ؟.

لن تكون دسيستها مقنعة إذا دخلت بها باب السياسة، لن يقبض أحد كلامها، فهي تظن ان مارغريت تاتشر ممثلة سينمائية، وإن وكالة " ناسا " نوع من البوظة، وإن " فليت ستريت " نوع من البطاطا المقلية المستوردة في علب أو أكياس؟.

من هو صاحب الدسيسة إذن؟..

سأعترف بأنني عاجز عن اكتشاف غريمي، ولكن السكين لا تزال في الخاصرة، والأمل حرون، وليس في المرتجى الداني او في الأفق المياسر أي بشير للخلاص.. صحيح أنني لست في زنزانة، والحارس ليس قاسي الملامح او حاد النظرات، ولكني أشعر بالإختناق، فهذه هي المرة الأولى التي اجد نفسي معها في مثل هذا المأزق.. فهل سيطول برئيس المركز الإجتماع؟.

. . .

في مكتب رئيس المركز، كان الرجل جالساً على كرسي دّوار يتحدث على الهاتف ويقهقه.. وعندما أدخلني الحارس عليه، أشار إلي بالجلوس وهو يتابع المكالمة..

جلست متهيباً وانا أوحي بأنني لا أسترق السمع إلى ما يقول على الرغم من انه كان يتحدث بصوت مرتفع...

أنهى المخابرة.. انكب على ورقة يقرؤها وقال دون ان ينظر إلي:

-. آسف.. لقد أخرناك.. كان لدي إجتماع طارئ..

-. سيدي بسيطة..

-. ما أخبار السياسة عندك هذه الأيام؟.

" بداية غير مشجعة.. عن أية سياسة يتحدث هذا الرجل؟."

-. سيدي.. أنا....

قاطعني وسأل:

-. ما رأيك في سياسة بوش؟ أفضل من سياسة ريغان.. أم أسوأ؟

-. سيدي أنا...

-. أنا أمازحك.. دعنا من بوش وريغان، وقل لي: ما آخر خطأ التقطته على مذيعات التلفزيون؟.

" ها.. بدأنا نقترب من الأنشوطة.. الدسيسة إذن من المذيعة "..

وقبل ان اجيبه على سؤاله قال:

-. زوجتي، مثلك مدرسة لغة عربية.. هي ايضاً تسجل على المذيعات والمذيعين أخطاء كثيرة..

-. على كل حال، هي ليست اخطاء قاتلة..

-. زوجتي ليست من رأيك، وفي رأيها أن جميع المذيعين والمذيعات يجب أن يتبعوا دورة لغة قبل الظهور على الشاشة او الجلوس إلى المايكروفون..

(( لماذا لا تعتقل زوجتك إذن ))..

-. سيدي.. على كل حال.. هذه وجهات نظر..

-. نعود إلى موضوعنا الأول..

-. تقصد موضوع السياسة؟. يا سيدي أنا لا أتكلم في السياسة ... أنا أتابع الأخبار من الصحف والإذاعات

-. هذا ليس مهماً.. ثم أن ما تنشره الصحف وتبثه الإذاعات ليس دقيقاً في جميع الأحيان..

-. صحيح.. ولكني من خلال التجربة أستطيع أن...

-. على كل حال، ليس هذا موضوعنا..

-. حتى المذيعة سيدي.. أنا لا أعرفها شخصياً.. صدقني، وليس بيني وبينها أي شيء.. ثم أن زوجتكم....

-. هذا ليس مهماً.. المهم.. لدينا نيّة لاستضافتك

-. أين؟..

-. في السجن المركزي

-. ولكني لم....

-. لا أقبل أي إعتذار..

-. اعتذار؟.

-. اسمع يا أستاذ.. في السجن المركزي عدد من السجناء الأميين، وقد اتخذنا قراراً بفتح صف لمحو الأمية في السجن، وقد اخترناك معلماً لهذا الصف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى