زكريا تامر - يوم غضب جنكيز خان

زكريا تامر.jpeg


كان جنكيز خان رجلاً من دم ونار، حين يشعر يوماً بالملل يتذكر ما أحرق من مدن وما أهلك من رجال ونساء وأطفال وكتب وعصافير وقطط وأشجار، فيختفي ملله، وتسود محله غبطة أكثر روعة من نجمة وحيدة تتلألأ في ليالي صحارى الأرض، ولكن جنكيز خان ملّ في يوم من الأيام مللاً لم يجد سبيلاً للخلاص منه، فاستاء، وافترسته حيرة قاسية، فاضطر إلى طلب المشورة من واحد من وزرائه اشتهر بحكمته وآرائه السديدة.
قطب الوزير جبينه، وقال لجنكيز خان بوقار : امهلني بضعة أيام حتى أفكر وأعثر على الدواء الشافي.
فقال جنكيز خان بنزق : تتكلم كأنك طبيب! جاوب حالاً وإلا أمرت خدمي بأن يسلخوا جلدك وأنت حي تبصر ما يحلّ بك.
قال الوزير : لا داعي إلى الغضب، فكل ما ترغب فيه سيتحقق دونما تمهل وسأجاوب..
فقاطعه جنكيز خان قائلاً : هيا انطق وقل جوابك، ولا تناور وتحاول إضاعة الوقت. أريد وسيلة تقضي على ما أحس به من ملل لا يطاق.
قال الوزير : قد يكون سبب مللك راجعاً إلى بقائك مدة طويلة في قصر زاخر بكل ما تشتهي، ولذا فقد يكون التغيير هو الكفيل بإنقاذك من مللك.
ففكر جنكيز خان طويلاً ثم قرر العمل بمشورة وزيره، ورأى أن يتنكر في ثياب الفقراء، وغادر قصره وحده بغير حراس ولا أعوان، وجال في الطرقات حتى تعبت قدماه ووهنت قواه غير أن ملله لم يفارقه إنما ازداد وأصبح سحابة سوداء تمتلك شرايينه، فهمّ بالرجوع إلى قصره ومعاقبة وزيره، ولكنه تنبه لرجل ينهال ضرباً بالعصا على حمار، فوجد نفسه يندفع نحو الرجل، ويمسك يده حاملة العصا، ويقول له بحنق : لو كان قلبك من حجر لما ضربت حمارك بهذه القسوة.
فحدق الرجل إلى جنكيز خان مدهوشاً من دون أن يتفوه بكلمة، ولكن الحمار تكلم، وقال لجنكيز خان بهزء : ما هذا الفضول البغيض؟ أأنا الذي يضرب أم أنت؟
قال جنكيز خان : هذا أمر عجيب حقاً! حمار ويتكلم؟!
قال الحمار بزهو : وأتكلم بلا أخطاء نحوية شائعة محارباً اللهجات المحلية بوصفها تعبيراً عن نزعات إقليمية مقيتة.
فازداد استغراب جنكيز خان، وقال للحمار : وتتكلم أيضاً كالمثقفين؟!
قال الحمار باعتداد ورأس مرفوع : أنا بالطبع مثقف.
فضحك جنكيز خان، وقال : أظن أنه من الأفضل أن تصحح قولك فتقول إنك حمار مثقف إذا كنت حريصاً على النطق بالصدق وحده.
قال الحمار : أنت مخطيء، فأنا لست حماراً مع أني حمار.
قال جنكيز خان : ما هذا الكلام الغريب؟ أتطرح عليّ ألغازاً أم أنك تطلب مني أن أكذب ما أشاهده وأصدق ما أسمعه؟!
فال الحمار : يحق لك أن تستنكر وأن تتهمني بما تشاء من التهم، ولكنك إذا عرفت حكايتي صدقت ما أقوله.
قال جنكيز خان وقد طغى عليه الفضول : ارو لي حكايتك.
قال الحمار : كنت من قبل مخلوقاً بشرياً، أقرأ الصحف والمجلات، وأستمع إلى نشرات الأخبار، وأشاهد برامج تلفزيونية، ولكني أردت استخدام ثقافتي للظفر بمغانم شخصية مادية ومعنوية، فاضطررت إلى أن أمشي على أربع، وظللت أمشي على أربع آملاً الحصول على ما أطمح إليه من جاه ونفوذ وثراء، فلم أنل ما أبغي بسبب كثرة الزاحفين، وتحولت من إنسان إلى ما تراه.
قال جنكيز خان متسائلاً : وأذناك.. كيف كبرتا؟
قال الحمار : لأني كنت أستخدمهما أكثر من لساني.
قال جنكيز خان وقد نسي أنه في ثياب الفقراء : حين أعود إلى قصري سآمر بكتابة حكايتك كي تكون عبرة لمن يريد أن يعتبر.
قال الحمار : أنت؟! أنت الشبيه بمتسول تملك قصراً؟!
قال جنكيز خان : أنا لست أملك قصراً فقط بل أنا جنكيز خان سيد العالم. ألم تسمع عني؟
قال الحمار : لن أصدق ما تقوله ولو أكلت كل ما على سطح الأرض من كتب مقدسة.
قال جنكيز خان : ولماذا لن تصدق؟
قال الحمار : الجواب سهل، فلو كنت حقاً جنكيزخان لما عنيت بكتابة حكايتي وأهملتها، فالمفضل للحكام هو من يتقن الزحف.
قال جنكيز خان : أجوبتك لا تخلو من ذكاء يؤهلك لأن تكون وزيراً من وزرائي.
قال الحمار : الآن فقط اقتنعت أنك جنكيز خان.
قال جنكيز خان : لماذا؟
قال الحمار : لأنه ليس من المستغرب أن يختار جنكيز خان من كان إنساناً وتحول حماراً وزيراً له.
فغضب جنكيز خان، وقال للرجل حامل العصا : سآمر بقطع رأسك إذا لم تتابع ضرب حمارك الوقح بقسوة لأنه سيء التربية طويل اللسان.
فاستأنف الرجل ضربه للحمار بحماسة وخوف بينما قصد جنكيز خان قصره وقد تبدد ملله وحلّ محله غضب عارم أمر الشمس بالأفول، فشحب نورها، وأطاعت الأمر تواً ومن دون ترددأ وأمر أيضاً مالكي الحمير كافة بأن يمتلكوا عصياً وسياطاً ويستخدموها باستمرار.
ومنذ ذلك اليوم، عانت الحمير ظلماً لن يزول.

( من كتاب ( نداء نوح ) 1994 )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى