أحمد شحيمط - الوجودية في الفكر العربي المعاصر

يمكن للقارئ العربي أن يتساءل عن العلاقة بين الفلسفة الوجودية والإنسان العربي، وهو الذي لا ينطلق من فكرة، أن الوجود سابق على الماهية. وأن الحرية المطلقة جوهر الانسان .وجملة من المفاهيم كالعدم والذاتية والماهية والاختيار... مفاهيم تحمل معاني ودلالات كبرى في التأكيد على الذات الفردية، وليس الذات الجماعية "النحن". التي تتمثل في الجماعة والقيم العامة. هذا يدل أن الوجودية لم تلج بعد الى الاذهان .وأنها فلسفة مرفوضة جملة وتفصيلا تحث يافطة أن الوجودية مذهب فلسفي أدبي ملحد. وكل ما هو دخيل على الثقافة العربية لا يمكن التفكير فيه، هي الاحكام القديمة والجديدة معا في استئصال ما يفيد في التعرف على فكر الاخر. وفي تجديد الوعي العربي وإكسابه جرعة ومناعة في المعرفة والتقدم . فالوجودية مذهب انساني يعنى بالإنسان الفرد. الذي يحيا وسط عالم من التناقضات والحتميات والاكراهات . يريد الكائن الانساني أن يجعل من الانسان الفرد محققا للآمال والطموحات وفق الامكانيات المتاحة . ومن خلال سعيه الحثيث للرقي بالذات دون السقوط في الهاوية . إنني ببساطة لا أريد اسقاط الفلسفة الوجودية بحيثياتها على الفكر العربي، بل اريد البحث في كل تقاطع بين اراء الوجودية والذات العربية، أو بالأحرى بين الوجود العربي ككيان جغرافي وبشري قائم .وبين الوجود العربي الفردي الاصيل، الذي يمكن أن نلمس في عمقه حقيقة الانسان العربي بتناقضاته وتجلياته في واقع وصفته العديد من الاقلام والكتابات في مختلف المجالات . منها الفكرية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والأدبية . كائن في مجتمع يعج بالأزمات والانقسامات .ومن الامثلة كتابات محمد عبد الجابري عن بنية العقل العربي السياسي والأخلاقي . وكتابات مالك بن نبي عن شروط النهضة ومفهوم الحضارة والقابلية للاستعمار. وكتابات علي الوردي عن المجتمع العربي ... وأعتقد أن بعض النخب العربية كانت ولازالت حاملة للهم والقلق من وجود الانسان العربي كذات، نخبة من المثقفين والمفكرين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية ينادون بالحرية، وبالإنسان كأفق. يطلب الديمقراطية. وينشد العدالة والحق .وينادي بالمؤسسات، ويهفو الى أنسنة كل فضاء ممكن في مجالات مختلفة. انهم يستهدفون الوعي الفردي قبل الوعي الجماعي. تربية هذا الانسان على المواطنة والحقوق والعدالة .والامتثال للقيم الانسانية النبيلة .
فالحرية عندما تتحقق في الواقع كتربية وممارسة وسلوك .لا يمكن للتخلي عنها أو التفريط فيها . والمفكرين العرب من رواد النهضة . ومن تيارات مختلفة أدركوا الفرق الكبير بين ثقافة الاخر الاخذة في النمو والتمركز على الانسان. وبين ثقافتنا في ظل طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. وثقافتنا في غياب الوعي التاريخي والسياسي. وسيادة الوعي القبلي التعصبي، وهذا التصدع في الشخصية بين الخطاب والممارسة . بين المبدأ والفعل. في الواقع يتجلى طموح المفكر في خلخلة الترسبات. وفي اعادة فهم التاريخ والتراث. وفي ازالة القناع عن وجه الانسان العربي ليستقيم امام الوعي الحضاري. ومن هنا تركت بعض الاقلام صورة دالة عن حاجة الانسان العربي الى فهم ذاته والعالم والاخر، والاعتراف بالنواقص . والى احداث التغيير في الوجود. وإذا كان الفكر العربي المعاصر يتميز بالتنوع في المذاهب والرؤى. وفي قراءة المعطيات الانية على ضوء مجموعة من التأويلات. فقد سادت القراءة الوجودية للوجود العربي من خلال مفاهيم كالوجود والحرية والالتزام والمشروع والمسؤولية والتمرد والقلق والعدم والثورة... ومن المعروف أن الوجودية تجلت في الكثير من الاعمال الفلسفية والأدبية والمسرحية والشعرية كذلك. في المجال الاول كانت الكتابات غنية عن الوجودية الفرنسية في أعمال سارتر الادبية والفلسفية، والتي عرفت فيها الوجودية تأثيرا ملموسا حتى أنها اضحت فلسفة للرفض والتمرد .وللمقاومة والسخط على الاوضاع العامة للإنسان. وهمومه اليومية، وعن العبث الذي بدأ يتغلغل في السلوك الانساني في مقابل ندرة الوجود الاصيل للإنسان الملتزم والمسؤول عن ذاته. وعن الانسانية في تحقيق الخير. وإزالة أشكال من القهر والاستعباد .
الكتابات التي عرفت ظهورا مميزا تتعلق بالفيلسوف الوجودي هايدغر الذي يعتبر فيلسوفا كبير ولغزا في الكتابة .ويستمر الفكر المعاصر في تقليب صفحاته. حيث برزت كتبه من أجل التحليل، والتأويل للعصر الراهن للكائن والكينونة . ويولي الباحثون أهمية لمذكراته وسيرته لأنه وضع مؤشرات لداء العصر في سيادة التقنية والاغتراب والسقوط. وتراجع الفكر ونهاية الفلسفة . وتلاشي الانسان الحقيقي .وجعلنا نفكر مليا في الوجود الانساني. ونشعر بالقرف والضجر والشكوى من الاخطار التي أصبحت تهدد الوجود البشري. على مقياس صيحة الشعراء والحكماء للبحث عن الحقيقة والتماس التفكير الاصيل. إنه نداء الضمير ومحاولة للعودة الى النبع الاصيل في الفلسفة قبل سقراط، في ارتباط بين المعرفة والحقيقة (الاليثيا بالمعنى اليوناني القديم ) . ففي كتاب " نداء الحقيقة " للدكتور عبد الغفور مكاوي. والذي قدم فيه صورة معبرة عن فلسفة هايدغر في مجموعة من الاسئلة الفلسفية عن الوجود وعن الحقيقة .وعن الموجود الانساني. والكتاب مرفوق ببعض النصوص الفلسفية عن الحقيقة . بوصفها اشكالية مركزية في تاريخ الفلسفة. سؤال هايدغر عن الانسان هو بالفعل سؤال عن ماهية الانسان في الوجود، وفي علاقة الكائن بالواقع . هذا الكتاب تبسيط وتوضيح لنداء الحقيقة، وما يرمي اليه الفيلسوف في العودة والاقامة في احضان الفكر اليوناني . ومحاولة التماس المفيد من هذا التفكير الاصيل في عملية الفهم للعصر .

نفهم الانسان من جهة الحقيقة وليس العكس . والموجود لذاته يفهم بناء على ذاته واختياراته بوصفه وعيا وفكرا وحرية . وكل ما لديه من قدرات على الفهم والاستيعاب . وهو حالة أساسية من أحوال الوجود الانساني، يمنحنا الوجود الاصيل بعيدا عن الثرثرة والكلام غير الاصيل الذي ساهما في تثبيت الزيف. فحينما تجد الناس يتكلمون في كل شيء ويثرثرون في كل القضايا .ذلك دليل على السطحية وعدم الدراية بالموضوع . هنا يمكن أن يكون الصمت مظهرا قويا للوجود لان فيه إنصات للوجود الحقيقي .وتمعنا في المعرفة والحقيقة .وكل انسان نهايته الموت والتلاشي. وينبغي على الناس فهم الوجود من أجل الموت . والإنسان لا يمكنه أن يتساءل عن الوجود إلا في العلاقة معه ومن أجل فهم الحقيقة . " الوجود الاصيل اذن ولا شيء سواه .هذا هو المثل الاعلى لفلسفة هايدغر" (1). أي الوجود الانساني الاصيل الذي يتحقق بفعل القلق. وفي العلاقة مع العالم والآخر. وعبر السؤال عن الحقيقة .وعن ماهية الانسان في الوجود . فالفكرة الاساسية هنا أن فلسفة هايدغر تتميز بالحضور القوي في ترجمة كتبه من الالمانية الى لغات متعددة ومنها العربية . وفي عالمنا برز الفيلسوف الوجودي عبد الرحمان بدوي في كتابات عن الفلسفة الوجودية منها رسالة الماجستير" مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية" وكتاب "دراسات في الفلسفة الوجودية " وترجمة " الوجود والعدم " لسارتر . والكثير من الاسهامات التي يستحق بفضلها أن يكون من الفلاسفة العرب الكبار . الفيلسوف العاشق للحرية، والذي عبر عنها في سيرته الذاتية عندما خرج من مصر الناصرية. حينما سيطر الضباط الأحرار على السلطة في مصر. وتمت مصادرة كل كلمة غير متطابقة . حيث تحولت مصر كلها الى سجن كبير لا يسمح بالخروج منه إلا للسجانين( سيرتي الجزء الثاني ص7) والكتابة لا فائدة منها. فكيف يمكن للفيلسوف العيش في ظل غياب الحرية في الكتابة والتعبير عن هموم الناس والواقع؟.

يكتب عبد الرحمان بدوي عن ذاته وعن البادية المصرية، وعن الناس، واختياره للفلسفة. وعن سفره الاول الى الغرب وعودته الى مصر من أجل التدريس . ويفصح بدوي في الفصل الخامس من سيرته الذاتية في الجزء الاول عن اختياره لموضوع الدكتوراه " الزمان الوجودي "، وهي الرسالة التي أثنى عليها طه حسين بصفته من المشرفين عليها." وبفضل من كتب عن الوجودية . صارت الوجودية رافدا أساسيا في تكوين غالبية المثقفين العرب"(2). وبالطبع وجودية مارتن هايدغر، وليست وجودية سارتر. انها فكرة صادقة بحيث أصبح الفيلسوف هايدغر في غاية الاهتمام من قبل مفكرين من مختلف الثقافات .وتم ترجمة الكثير من الكتب الى العربية . اضافة الى انبهار الطلاب من مواقفه وتأويلاته . وسؤاله الفلسفي الذي يتحايل ويلتف فيه على المعرفة وعلى تاريخ الفلسفة . ويعيد اثارة السؤال عن قضايا الوجود والحقيقة والميتافيزيقا والكائن والتقنية . ويخلخل الفكر وترسبات الحقائق بالنقد . من فلسفة أفلاطون الى نيتشه، بعتبر هذا التفكير نسيانا للوجود والاهتمام بالموجود . فالكثير من التأويلات عن مفهوم "الدازاين" وعن علاقته بالنازية، وعن عزلة الفيلسوف وعن سر اهتمامه بالشعر...حقا فتح هايدغر مشكلة الانسان المعاصر وأرغم المفكرين العرب على الاعتراف به كفيلسوف الوجود ورائد الوجودية . وتبقى هذه الفلسفة قريبة من وجدان المثقف العربي لما تتضمنه من مفاهيم أبرزها الحرية والاختيار .

هوامش :
(1) د . عبد الغفار مكاوي " نداء الحقيقة " دار شرقيات للنشر والتوزيع الطبعة الاولى 2002 ص91

(2) د . عبد الرحمان بدوي " سيرة حياتي ج1 " المؤسسة العربية للدراسات والنشر" . الطبعة الاولى ص ˸ 182
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى