غسان كامل ونوس - الوليمة.. قصة

30/01/2013

الوليمة
-1-
ربما يأتي وقت أكثر ملاءمة، يقف فيه بين يدي الحقيقة..
لن يكون في حاجة للاعتراف، ولا لتقديم ملخص للأعمال، أو مذكرة بالأحداث، ولن يكون ربما موعد محدد.

لكن الأشياء تبدو كأنما على موعد، والأحداث تجري، كما لو أن دليلاً أعد لتقديمه وثيقة إثبات في مناسبة ما.
ليس في هذا مايثير، بل العجيب في أنه لم يفاجأ! حتى لكأن الموقف الذي وجد نفسه فيه بعد كل تلك السنين، دوري يتكرر باطراد، أو حلقة تالية في مسلسل منطقي الزمن، أو قدر مكتوب، وقضاء مبرم.
في مرحلة سبقت، لم يكن في وسعه التراجع، حتى لو أراد، وليس مايثبت أنه رغب بذلك، هو لم يصرح والحركة التي كان يقوم بها بدت مقنعة، والكلام الذي يسيل من شفتيه، لم يكن يعتوره أي تردد أو تباطؤ.
ولا ذلك التقديم الذي سبق السرد المحفوظ، من مد للصوت وتوقيعه، حتى العبارات التي تتناثر عادة هنا وهنا: (في الحقيقة، في الواقع، من المعروف..) كانت أقل مما هو متوقع!!
-2-
أنا لم أبتدع ذلك، وجدت الدرب مرصودة، والوجهة مرسومة فاتجهت، والحكاية مصوغة فحيكت..!
أنا لست المسؤول، آه لو تصدقون، لو تقدرون..!
الأيام مترعة بالاندفاعات –كانت!- والوقت يكاد لايتسع للهمم، والأمسيات نشوانة من شراب النصر المحتم..!
-3-
قالت بأسى:
- لاأراك!
قال:
- أنانية!
وهز رأسه ومضى!
وفي مرحلة تالية، قالت:
- أشاركك..
أدار ظهره، هز رأسه، ونام..!
-4-
السماء صافية، والرؤية ليست على مايرام، والأرض تخددت بلا محاريث، وهو في مكانه لايزال، منذ السنين..
خفت الحركة، هناك من يقول: لايستطيع!
خف النظر، ويشاع: لايرى!
أحجم عن الكلام، يقال: لم يعد لديه مايقنع..!
لو تعلق الأمر بي لمشيت لو اقتصر الوضع علي، لوجدت طريقاً للخلاص، ولو في بئر عميقة، أو صحراء غير محدودة..
لكن الأشياء متعالقة بما لايعرفون، والظروف قاتمة، والمنعطف خطير.
إلى وقت قريب، كانوا يحيون فيرد، يهللون فيبتسم، ويرفعونه على الأكتاف فيضحك، ولايلمحون علائم الاكتئاب من سقوط بلا (راحات).
- لماذا تبتسم؟! تضحك؟!
- رحمة بدموعهم، بأعصابهم..!
- ولكنك بذلك..
- أعرف، أعرف. وهذا سر ماأنا فيه!
-5-
في المأدبة الكبيرة التي أقيمت على شرفه، كان الجميع في انتظار ماسيقول، كيف سيتناول الموضوعات الكثيرة التي استجدت منذ آخر وليمة حضرها. وكيف سيكون تعليله للجدب الذي ألم بالكرة التي تكاد تدوخ من دوران بحسبان، ومصير بلا حسبان، وبماذا سيعد شقوق الأرض، وأوراق الذبول؟! وهل سيكون بمقدوره أن يحظى بذاك القدر من الإنصات؟! بتلك القدرة على الإقناع، أو تلك الأصداء المباركة..؟!
تلك التساؤلات، كانت أولى المفاجآت، بانتظار المفاجأة الكبرى، وراهن الكثيرون على أنه لن يأتي..
- لكنه وافق على الحضور..
- بل لم يرفض..!
-6-
لو كنت حياً، لما ترددت في القبول: من هو الأحمق الذي يرفض أن ينتشي من قصائد الإطراء وأقوال التبجيل؟! ومن العنيد الذي يقاطع الحياة؟! ومن هو الغبي الذي يتعالى على التكريم، من أي جهة أتى؟!
لو كنت ميتاً، لما كان الندم ينغل في شراييني، ولم أكن لأحس بهذا القدر من الانكماش، ويهيمن علي هذا الإحساس بالخسران، الموت عجز كامل، صحيح. ولكنه أهون من قصور نسبي. لو أعلنت موتي، لشردت الجموع تبحث عن شماعة أخرى. قد يكون البديل أوضح عجزاً مني، وعناداً. فأحزن كثيراً، وأشفق أكثر.
وربما يكون أهم حضوراً، فيلغي ماتقدم من إنجاز، وماسيتأخر. ولن يكون الأمر ممكناً أو سهلاً، فالشاة لا يزال يؤلمها السلخ، وإن تكن ذبحت مرات..!
لو ذهبت لعمت الفضيحة، وتألموا، ولتبارى المعالجون من شرق الأرض وغربها، أنا لاأثق بأطباء المهمين، ولم يحن الوقت بعد لأنسى!
لو كنت قادراً على البوح، لارتحت وخابوا، فما معنى وجودي بعدها؟! لو كنت جريئاً على الاعتراف، لما تأجلت الوليمة الكبرى مرات. صحيح ان الولائم الصغيرة تعددت، والأضاحي تكاثرت، والممثلين قاموا بالواجب وأفاضوا.. وهم لن يملوا من ذلك، فلديهم من تاريخي المديد، ومن آثاري التي ترسخت في وجدانهم، ومبادئي التي بنيت عليها كل إنجازاتهم، وآمالهم، ومايمكنهم من الخوض طويلاً، والشرح أكثر.
اعترف بأنه نجاح مهم آخر، أن يقوموا هم بما لاأقدر –ربما- على القيام به. خاصة، بعد أن صار ماصار في جهات مختلفة، وماقيل ويقال على مسامع الخلق الذين يسمعون أصواتاً أخرى.
صحيح ان هذا يجري –لايزال- رغم أني بعيد قريب. ولكن إلام؟!
هذا مايشغلني، يؤلمني، يسمم لحظاتي.. وهو مالا أستطيع إظهاره.
إلى الآن. أجد من ينوب، من يؤدي الواجب، ولكن في الوليمة الكبرى، لايليق أن أغيب، هي عظمى لأنها من أجلي، هكذا أردتها فيما مضى، وكانت، وهكذا أرادوها، وأجلت مرات..
لماذا يقيمونها الآن؟! لإحراجي؟! لاكتشاف حقيقتي؟!
أنا من أطلقها، صحيح. أنا من زينها وجعلها ذروة الولائم، وعنوان المناسبات، فكيف أغيب عنها؟! ألغيها؟! لايزال من يستطيع –ويتمنى- أن يظهر باسمي، ويتحدث بلساني أكثر مني. ولم يختلفوا على ذلك، بل تسابقوا على متابعة الطقوس: من سيقدم المطلوب؟! المتبرعون مازالوا –لحسن الحظ- كثيرين، وليست المشكلة هنا. ولكن..!
-7-
(دخل غريب إلى بيت، قيد الزوج، واغتصب الزوجة أمام عينيه. وحين خرج، ألقى الرجل على امرأته الطلاق.
- ألم تر أن ذلك جرى رغما عني؟! ولم أستطع المقاومة؟!
- أفهم أنه اغتصاب، ولكن لماذا الآه والإيه؟!)
كانت تلك آخر ماسمع، في آخر وليمة حضرها..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى