عائشة المراغى - بين السرقة والاقتباس.. البحث العلمي في خطر

فتح باب السرقات العلمية والأدبية أبوابا تشير بوضوح إلي خطر جلل وفساد يستشري ويتفشي كالوباء ليفسد في المنظومة الجامعية وكذلك الأدبية والفنية في مصر، ولم تعد قوانين الحقوق الفكرية بموادها تصلح إن طبقت أصلا، وباتت مهمة إصلاح ما فسد ليست مقصورة علي عميد أو رئيس جامعة أو حتي وزير، بل تحتاج إلي تكاتف مجتمعي، وإلي إرادة سياسية خلفهم تضرب بيد قوية وتطيح بكل فاسد.
وحتي ندرك حقيقة الأمور فيما يتعلق بالسرقات الأدبية والعلمية والفروق الجوهرية بين السطو والاقتباس والحقوق الأدبية لأصحاب التميز والإبداع والتي بات يرافقها حقوق مادية أصحابها أحق بها، لهذا كان لزاما أن نذهب بالأمر إلي أهله ليفيدونا فيه.
جاءت البداية مع د.صلاح فضل، أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن بكلية الآداب بجامعة عين شمس، الذي أكد أن تلك المسألة رغم كونها مستقرة في الضمير العلمي والأكاديمي، إلا أنه لابد من توضيحها بدقة، قائلا: "الأبحاث العلمية تخضع لمبدأ التراكم العلمي، فالباحث الجديد يجب أن يستوعب الأبحاث السابقة عليه حتي تدخل في نسيجه المعرفي ويبني عليها ليخطو بعدها خطوة جديدة، وقد أصبح من الشائع أن يزعم بعض الباحثين أنه يبدأ من الصفر ولا يطلع علي ما نشر في موضوعه قبله، وهذا عيب خطير يؤدي إلي توقف حركة البحث وإصابتها بالشلل، والأهم هنا أنه عندما يريد أن يفيد من المصادر والأبحاث السابقة، عليه أن يميز بين أمرين بوضوح هما، الأول هو جملة الأفكار والمبادئ والقضايا الشائعة التي أصبحت متداولة ومشهورة في الحقل المعرفي الذي يتم البحث فيه، والتي لا تنسب لشخص بعينه وإنما يرددها الباحثون باعتبارها مسلما بها في المرحلة الحالية، وذكر هذه الحقائق في مجملها لا يحتاج لتوثيق لأنها معروفة ومتداولة، أما الثانية فهي تلك الأفكار المتميزة التي انبثقت عنها عقليات علمية كبيرة أو مواهب أدبية عظيمة وصاغتها في فقرات محددة؛ هي التي تبلورها وتعبر عنها بأبلغ وأوضح طريقة، والاستشهاد بها يتطلب وضعها بين علامتي تنصيص ونسبها لصاحبها قبل التعليق عليها مع ذكر المصدر بدقة، بينما في حالة قراءة الباحث لكتاب بأكمله وعدم نقله فقرات محددة منه، واعتماده علي تلخيص ما فهمه، حينها يتعين عليه أن يشير إلي أنه نقل الفكرة ولم يتقيد بالفقرات".
ويستطرد: "لكن لسوء الحظ ونظرا لضعف المستوي العلمي لكثير من الباحثين في الجامعات والمعاهد العلمية انتشرت سرقات الأبحاث برمتها ومصادرها ونسبتها للشخص الذي سرقها مع تجاهل أي إشارة إلي صاحبها، وهو سقوط شنيع في دوامة الانتحال والتزييف والسرقات يفقد صاحبه أي أهلية أو جدارة علمية ويقتضي طرده من المؤسسة أو الهيئة التي يعمل بها، لأنه ارتكب جريمة لا تغتفر، ورغم ذلك؛ للأسف قد يثبت العدوان ويتحايل أصحابه علي إجراءات التحقيق ويصدر لهم أحكام بالعودة بعد فصلهم، وهنا يصبح وجودهم خطرا علي الحياة العلمية والأكاديمية والباحثين الأصغر منهم والطلبة، ويمثلون نموذجا سيئا من الوجهة الأخلاقية".
ويؤكد فضل أن اكتشاف السرقات الآن أصبح أسهل كثيرا عن السابق، لأن الأداة التي ساعدت علي انتشارها كصفحات التواصل الاجتماعي والانترنت هي نفسها التي قدمت الحل الحاسم، ويقول: "أصبحت هناك برامج باللغة العربية أو الإنجليزية عندما يوضع فيها نص تظهر مثيلاتها ونسبة التشابه، وبالتالي لا يعتمد الأمر الآن علي الذاكرة البشرية التي قد لا تسعف المحقق، وإنما علي ذاكرة آلية لا تخطيء ولا تجامل، بل تظهر نسبة إحصائية دقيقة، فالآلة التي كانت مصدر الداء هي التي أصبحت الآن سر الدواء".
شهد د.صلاح كثيرا من الاشتباهات وقد أبدي فيها رأيه النقدي، وكان بعضها طريفا كما يحكي: "منذ سنوات طويلة اتصل بي محرر في إحدي الصحف العربية يقول إنهم قد عثروا علي سرقة شعرية للشاعر الكبير نزار قباني وأملاني إياها، عنوانها (مع جريدة) وقد غنتها ماجدة الرومي، أخبرني أنها مأخوذة من نص لشاعر فرنسي شهير، فطلبت منه إرسالها لي، وقد وجدت بها تطابقا شديدا، كما أن تاريخ النص الفرنسي يسبق نصا نزار كثيرا، ولكني علي يقين من أن نزار شاعر كبير وليس في حاجة لأن يسرق نص لشاعر فرنسي أو غيره، ففسرت الأمر أن نزار قرأ النص الفرنسي منذ فترة وأعجب به ثم نسيه، وعندما جلس ليكتب قصيدة خانته ذاكرته وكتب ما تبقي في ذهنه من النص الفرنسي علي أنه إبداع جديد له دون أن يدرك ذلك، فوقع نتيجة لهذا في نوع يمكن أن أسميه خيانة الذاكرة، وقد ارتحت كثيرا لهذا التفسير".
لكن الأمر انكشف سريعا: "بعد أن أمليت هذا التفسير ذهبت إلي مكتبي وأخرجت بعض الطبعات القديمة لدواوين نزار السابقة علي الأعمال الكاملة، فوجدت الطبعة الأولي للقصيدة نفسها وفي مقدمتها إهداء إلي الشاعر الفرنسي، فأدركت حينئذ أنه قرأها بالفرنسية ثم حاول أن يلبسها ثوبا عربيا فترجمها وأهداها إلي صاحبها الأصلي، لكن الناشر فيما بعد أسقط هذا السطر، مما يجعل القارئ يتوهم أنه سرقها، حينها شعرت براحة كبيرة لهذه النتيجة وتيقنت من عظمة قدر قباني وترفعه عن أي تهمة تتصل بالسرقات أو غيرها".
ذكر فضل المثال السابق لأن تلك الحالة من الخداع ثنائية وليست أحادية كما يوضح: "اسوأ ما يؤذيني الآن هو أن أجد اتجاها إلي التجاهل والتسامح والتغطية علي جرائم السرقة هذه من ناحية، أو أجد اتجاها آخر اسوأ؛ وهو افتعالها وتزييفها وإدعاؤها علي غير حقيقة، وإسنادها علي بعض الشرفاء من الباحثين بدون مبرر، كلا الموقفين إساءة للحياة العلمية والجامعية، سواء اتهام بريء أو السكوت عن مجرم حقيقي، وقد أطلعت علي بعض السرقات عندما عملت عضوا في اللجان العلمية لترقية الأساتذة، وطالبنا بعقاب أصحابها وإيقاف عملهم في الجامعة، وذلك منذ التسعينيات؛ حيث إن تلك الظاهرة لم تكن قد تفاقمت كما نشهدها اليوم، لكنني اعتقد أنه لا يجب التساهل إطلاقا في ذلك، بل يجب الضرب بيد من حديد علي كل من تسول له نفسه الغش الجامعي لأن هذا يدمر الحياة العلمية ويفرغها من معناها".
ويوضح حدود الاقتباس بشئ من التفصيل د.جمال عبد الرحمن، أستاذ الأدب الإسباني بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر: "الباحث له أن يقتبس ولكن مع الإشارة إلي المصدر بدقة، بحيث يستطيع أي شخص الوصول له، بل ان البحث قيمته العلمية تزداد كلما اعتمد علي مصادر أخري، وكذلك الكاتب، يستطيع أن يقتبس دون مشاكل، حيث إن ذلك ينم عن أنه قارئ جيد، فهذا ليس عيبا، وإنما العيب هو أن يقتبس دون أن يذكر وينسب الشئ إلي أصله، لكن المبدع سواء كاتب رواية أو مقال ليس بالضرورة أن يذكر تفاصيل الكتاب مثل الباحث كرقم الطبعة والاسم والسنة والصفحة وهكذا، ولكن يشير بشكل ما إليه، ويكفيه جملة أو فقرة لا تتجاوز خمسة أسطر، أما نقل صفحات فيبعد كثيرا عن الاقتباس، وحتي في البحث العلمي ننصح الباحثين الأصغر أنهم إذا اقتبسوا فقرة طويلة لابد أن يقسموها إلي أجزاء وبين كل جزء والآخر يتدخل بالتعليق، ولابد من توثيقها جيدا وبكل دقة، لكي يستطيع من يريد الاطلاع علي الأصل ذلك دون مشاكل".
ويتفق د.جمال مع فضل من حيث سهولة اكتشاف السرقة، فيقول: "هناك برامج حاليا لكشف السرقات العلمية، ونحن في لجان الترقيات إذا سرق أحد الأساتذة نصل إلي الأصل بسهولة، وعادة من يكلف بترقية الأساتذة يكون من نفس التخصص، وقرأ فيه كثيرا، فيمكن أن تفيد الذاكرة في ذلك، ولكن تلك البرامج دقيقة، فالباحث له أن يعتمد علي دراسات أخري لكي يصل إلي نتيجة، وطالما يذكر المصدر لا مشكلة، لكن العيب أن يأخذ ولو حتي 10 سطور دون أن يشير إلي المصدر، ومثل ذلك الشخص ألا ينبغي يكون في الجامعة أساسا، وقد حدث هذا بالفعل في جامعة عين شمس مع أستاذ مساعد تقدم للترقية إلي درجة أستاذ، فتم فصله بحكم قضائي بعدما ثبت بوضوح أن بحثه منقول عن باحث آخر في دولة أخري".
ومن جهته يوضح د.عبد الناصر حسن، أستاذ الأدب العربي والنقد الحديث بكلية الآداب جامعة عين شمس، الفرق بين الاقتباس والسرقة فيقول: "هناك علامات علمية محددة يمكن من خلالها الفصل بين الاقتباس والسرقة، منها أنني مثلا عندما آخذ من مرجع أو مصدر سابق أي معلومة، إذا كان ذلك النص في عدد من الأسطر المختلفة كاملا دون تحريف أو تغيير لابد من وضعه بين أقواس من أوله إلي آخره وكتابة تفاصيل المصدر في الهوامش، الأمر الثاني؛ إذا كنت قد قرأت معلومة في كتاب وحاولت أن أعبر عنها بأسلوبي، في هذه الحالة يمكن أن أشير إلي المصدر ولكن ليس بالنص ودون وضع تفاصيل".
ويستطرد حسن: "أما مسألة السرقات العلمية التي كُثَرت في الفترة الأخيرة، فهي نتيجة لعوامل كثيرة، منها ضعف الباحثين وتردي حالة البحث العلمي بشكل عام، وبالتالي تتم أحيانا السرقات التي يعتمد فيها الطلاب علي غيرهم من المصادر والمراجع دون أن يذكروها، فالمسألة لها ضوابط علمية حقيقية ولكن الذين يسرقون لا يعبئون بها ولا يضعون العلامات والأقواس التي تحدد النص المسروق من المقتبس، ومواجهة ذلك هي مواجهة ثقافية ومجتمعية في المقام الأول، لابد من المهتمين بمجال الدراسات الأدبية واللغوية أن يكشفوا لنا ذلك وإذا وجدوا نصا مأخوذا يقولون إن صاحبه لم يكتبه، فلابد من فضح هذا الأمر وكشفه وتعريته أمام المجتمع".
ويرجع د.عبد الناصر السبب إلي الجامعات كمؤسسات تقوم بتدريس الطالب ومنحه درجات علمية بدءا من الليسانس أو البكالوريوس وحتي الماجستير والدكتوراة، فيقول: "هذه المنظومة تحتاج إلي إعادة تقييم ونظر، سواء هي أو لجان الترقي التي تجيز أحيانا بدون قصد بعض الأبحاث التي تم سرقتها من آخرين، والحقيقة اللجان غير قادرة علي متابعة هذه المسألة بشكل كامل لأنه من الصعوبة بمكان أن يستطيع الإنسان قراءة كل شيء، يمكن أن يمر بحث لم يقرأه المحكم من قبل ويمنحه درجة جيدة لأن كتابته مستواها مرتفع، ولذلك أدعو إلي التدقيق في هذه المسألة وإعادة النظر في منظومة التعليم العالي والوسائل العلمية، بالإضافة إلي أن يكون هناك انضباط عام ثقافي، فلم نجد مثل تلك السرقات عند العقاد مثلا أو لطفي السيد أو سلامة موسي أو طه حسين، أو غيرهم من الكتاب الكبار، لم تحدث تلك المسائل إلا في العصر الحديث وأتصور أن ذلك يرجع إلي الضعف الثقافي والعلمي العام سواء في المؤسسات الجامعية أو الثقافية بشكل عام، وعندما تقع مثل هذه الأمور ليست هناك وسيلة إلا الكتابة عنها، إنما التبليغ علميا لا يحدث للأسف، فحتي الآن ليس هناك تجريم علمي يتم بالفعل تجاه من يسرقون الأبحاث، هم طلقاء حتي الآن".
وتستكمل د.ليلي عبد المجيد، عميد كلية الإعلام بجامعة الأهرام الكندية، مؤكدة علي ما سبق: "أخذ اقتباس يكون في حدود مناسبة، مع إثبات المرجع ونسبة الكلام المأخوذ لصاحبه، وفي تلك الحدود، فالاقتباس لا يتعدي فقرتين أو ثلاث من كل مرجع وليس 5 أو 6 صفحات مثلا، في تلك الحالة يعد ذلك شيئا مشروعا، وفيه إفادة وانتفاع للآخرين سواء كان علما أو إبداعا، وللأسف الشديد مع التكنولوجيا الجديدة بما أتاحته، أصبحت كل الكتب موجودة علي الانترنت، وبعض الناس تعتبره مشاعا، وهذا لا علاقة له بصغر الباحث أو كبره، هي تتعلق بالأمانة العلمية التي يتربي عليها الناس، ولكنهم يتصورون أنه لا أحد سيدري بذلك أو يعرفه، والمفترض أن تلك جريمة شنيعة أكبر من سرقة محل أو سيارة أو شيء مادي، فذلك سطو علي الإبداع الفكري وخلاصة عقل وتفكير وإبداع، إنها حالة خلل في المجتمع وانحلال في القيم وعدم التزام بالمعايير الخاصة بكل مهنة، فتلك الأخلاقيات يجب أن يتعلمها كل فرد ففضلا عن الجانب القانوني هو أخلاقي أيضا".
وتضيف عبد المجيد: "لقد شهدت سرقات كثيرة، فأحيانا كانت تحدث في اللجان العلمية للترقيات والتي شاركت في بعضها، عندما يحدث ذلك تُبحَث الشكوي وتُشَكل لجنة علمية لتتأكد من التهمة المنسوبة، لتحديد ما إن كانت سرقة أم استفادة في حدود ما هو مسموح به قانونا، وفي حالة إثبات السرقة تُلغَي الترقية ويحول للتحقيق في جامعته ويُشَكل له مجلس تأديب ويمكن أن ينتهي الأمر بفصله، لأن تلك جريمة لا يُسكَت عنها، خاصة إن كانت السرقة من أستاذ لتلميذه".


* نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 08 - 2015

** منقول عن:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى