غسان كامل ونوس - وردة آخر الوقت

تستطيع الوردة أن تعيد الأشياء التي أَوَّلُها أنت، وآخرُها؛ أمّا متونُها فأسُّها أنت أيضاً!
كلّ وقتٍ لهفة، وكلّ لهفةٍ توق، ونبض، ووقت.. وأنت الحرص لم يستجدّ، والولع يتجدّد. أُعايِنُها، أتفحصّ بتلاتِها، وِعاءها.. مخافة أن تكون كائنات عابثة أخرى قد وصلت إليها، حتى لو كانت حشرات أو خيوطاً عنكبوتية..
لم يعد شيء بعيداً أو قريباً. فقدت المعايير معانيها، ولم يعد مفرشُنا الأبعدُ عن الأيدي العابثة في مأمن، كما كنّا نظنّ؛ الشرفة التي ضمّتْنا في خيالنا قبل أن تصبح واقعاً تحقّقَ زمناً، لم أعد أدري كيف يمكن إدراجه في عتبات الخلود، لولا هذه الوردة التي تعيد ترتيب الأشياء والأوقات والوقائع.. كأنّك حاضر!!
كنتَ تقول: سنزرع مشاتل منها.
وقلتُ: أخشى أن تملّها وتملّني!!
-ألم تكنْ خياري، كما كنتِ؟!
-وستبقى؟!
-هذا يعود إلى حسن الاهتمام.
-بي أو بك؟!
-بها!! وتضحك.
لم تكن تحب الأوراد كثيراً؛ كنت تعلن، وتختلف مع والدتك التي تحرص على أن تكون مشتلة الورد حيّةً رغم شحّ المياه.. تعاتبك: أنا من يؤمّن المياه، لا أنت.
-ولكن تعبكِ يهمّني!
فتقول لك بما يشبه البوح: أنا أقوم بما يُفرجُ الصدر، ويُنعش الروح؛ أحبّ هذا العمل، فلا يهمّني تعبه.. "حتى لو كان انتظاراً على تقطّر عين الماء التي لا تجود دائماً.." تتابع في سرّك!
وقد اشتهيت لكِ تلك الوردة، كما اشتهتها أمي!!
*
في أثناء اتصالك ذاك أخفيتُ دمعة وراء ضحكة، كنتَ تستطيع أن تسمع وقعها؛ أمّا الدمعة فبقيت أصداؤها لي، كما وردتكَ الآن:
-كم تحتاج الوردة إلى الماء؟!
-أية وردة؟!
-زرعتُ وردة في موقعنا الجديد.
كنت سأسأل عن موقعك الجديد، منذ متى أنت هناك، إلى متى.. وكنت أعرف أنك لن تجيب، وربما لا تعرف الكثير من الإجابات. فقلتُ بحذر متذاكٍ: وهل تستطيع تأمين الماء لك، قبل أن تؤمّنه للوردة؟! قلتَ:
-"أنا أقوم بما يفرج الصدر، وينعش الروح؛ أنا أحب هذا العمل، فلا يهمّني تعبه"، ويذكّرني بمن هو عزيز!!
لا أُنكر أني تعكّرت في البداية، أستسمحك، لتصوّري أنّك تقصد كائناً آخر، وحبست مشاعري: "حتى لو كان ذلك، فهي أمّه، وتسأل عنه بلهفة مثلي.."؛ لكنّني ظلمتك، أعترف، قبل أن تضيف ما لم أتبيّنْه تماماً، لتشويشٍ لئيم، أم لغشاوة تسادلت في الجهات، لكنني أحسست أنّ تلك الإضافة تستطيع أن تأسرني لوقت طويل؛ لكنني لم أتوقّع أن طوله سيمتدّ كلّ هذا المقدار!!
تمنيتُ وقتئذ أن أسألك إن كنت في موقع متقدّم أو متأخّر، مأهول أم موحش؛ لكنّني لم أفعل؛ ليس لأنك ربما لن تجيب؛ بل ربّما لأنّه لا معنى لمثل تلك الأقوال، والمسميّات، والتوصيفات، مثلما صار السؤال إن كان المرء في مأمن، حتى لو كان في الطريق أو بروج مشيّدة، غير واقعي أو منطقي!
في كلّ إطلالة يتفحّصها قلبي قبل أن تتحسّسها يداي، دائرة حول أصيصها الملوّن، وليس النبض المتسارع خوفاً على نفسي مما يمكن أن يحدث، من دون أن أنكر تشبّثي بالحياة.. من أجلهما: ولديك/ولدينا، اللذين لا يكفّان عن الأسئلة الموجعة، وأكفّ عن الإجابة الأشدّ إيلاماً.. لأتحرّق في اكتواء مكتوم!!
لم أكن بهذا الحرص يوماً، وكنتَ حذراً، علَّمَتْكَ مهنتُك ذلك، وكنت تردّد ما كان يلحّ في بالك من جرّاء الدروس الكثيرة التي تلقّيتَها، وعلمتها لمن التحق من المتدرّبين: "غلطتك الأولى هي الأخيرة!!"
وأقول: "من مأمنهِ يُؤتَى الحذِر!"
كنت تضحك قبل أن يظلّنا سقف واحد، وتحاول الاقتراب أكثر مما يسمح به الظرف، حين أقول: أنسيت.. "غلطتك الأولى هي الأخيرة!"
وكنت أضحك في لقاءاتنا الحميمة، فتنزعج قبل أن أسأل: ما لأصابعك تتحرّك، كأنّك تتحسّس صاعقاً أو تفكّك عبوة؟!
فيسبق فعلُك القولَ: سأنقضّ لينفجر فيّ، وأتلذّذ أكثر!
*
نظر زميلك إلى الشرفة المكتسية أوراداً صفراء من الفصيلة التي تحبّ –كنتَ تحبّ- وأحبّ، فاضت مشاعره التي رأت الكثير مما يجعل الأعصاب تتجلّد، والأحاسيس تتبلّد:
-كنّا نضحك منه، يسارع إلى زراعتها في أيّ مكان نحل فيه، ولم نكن نمكث طويلاً، كان يقول:
- هذه الوردة تعويذتي التي أحسّ معها بالراحة والأمان؛ إنها مأمني!
فنقول له:
"من مأمنه يُؤتى الحَذِر!"
وأستعيد ما رواه حين داهمتمْ مقراً للمسلّحين، بعد طول ترصّد وتصبّر واستغاثات من سكان تلك الحارة التي كانت آمنة:
" كنّا نتابع آثارهم القاتمة، ونفكّك ما زرعوه من أفخاخ وعبوات، لم يكن ما يفاجِئ بعد كلّ ذلك الإنجاز. توقف لحظة مستثاراً وأشار إلى أصيص من بين أوعية ورد متنوّعة: ما ألطف ذوقهم! واستدرك قبل أن أعلّق: السكان لا المجرمون! وهرع إلى وردته، فابتسمتُ.. رغم أن الجوّ كئيب وكظيم، وصرختُ به منبّهاً بخفوت، بخشوع تحسّسها؛ فنحن نعلم أن كلّ شيء يمكن أن يكون مصدر خطر، رغم بُعدِ التوقّع وغرابته..!" توقّف زميلك الذي لم يبلّ تماماً من إصابته، خوفاً على مشاعري ربما، وغرق في الشرود الكآبة، وغرقتُ في تصوّر يخصني:
هل همستْ لك تلك الوردة بشيء؟! ضحكتْ، فانقضضتَ عليها، أم هي من اجتاحك بعد اشتياق ولوعة، ويا له من فعل! كنت أخجل أن أقوم به، رغم رغبتي واشتياقي، بعد أن صرتَ تغيب طويلاً، ولم نعتد على غيابك، كنتُ أقول لكَ ذلك، فتهزّ رأسك، قبل أن تنقضّ وربما بعده، وتقول: عليكم أن تتعوّدوا، حاولوا، تشاغلوا، وانشغلوا..
أهمس الآن لوردتنا، وأعترف بصعوبة ذلك، رغم أنّي أحاول تخفيفاً عن الولدين، ولكن من يخفّف عنّي سوى "كثرة الباكين على إخوانهم!!"
***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى