رمضان الصباغ - العقل والارهاب

الإنسان كائن اجتماعي عاقل ، أي أنه من الوجهة الأولي يعيش في مجتمع ، هذا المجتمع يؤثر فيه ويتأثر به فإذا كان الإنسان هو صانع القيم وواضع التقاليد والأعراف التي تضبط سلوكه ، وتحدّد علاقته بالآخرين ، فإن هذه القيم ، وتلك التقاليد والأعراف هي – وبعد أن يتم تعميمها ، والاعتراف بها – تتحول إلى سلطة تتم وفقاً لها محاكمة الفرد ، ويكون عليه أن يمتثل لهذه السلطة ، وإلا فأنه سوف يعاني ، أنواعاً متباينة من ردود فعل الأفراد الآخرين ، الذين يستفيدون من تحجر هذه السلطة ، أو يعتنقون أفكاراً تقف في وجه التجديد ، وترسخ التقليد والمحاكاة وهؤلاء يتسلحون بآراء وأفكار تجعلهم يجرّمون كل سلوك يخرج على هذه السلطة ، ويستخدمون كافة الأساليب والموروثات للدفاع عن آرائهم ، وتصل الأمور بهم إلى حدّ فرض النبذ أو الطرد للمخالفين لهم من جميع المواقع المؤثرة في المجتمع ، وتحريض الغوغاء عليهم باسم الموروث ، أو القيم الثابتة والتقاليد الراسخة

ولكن هذا الموقف لا يستمر كثيراً – خاصة في المجتمعات الديناميكية – حيث تتحول فكرة رفض القيم القديمة والتقاليد إلى ظاهرة ، فيبدأ الأفراد الآخرون ، والمجتمعات المختلفة في تعديل أفكارهم ، والدخول إلى عالم القيم الجديدة (أخلاقية واجتماعية وجمالية ، وغيرها) وبذلك يتغير وجه الحياة في هذا المجتمع ، ويكون ذلك نتيجة لجملة من الأسباب ، منها التقدم العلمي والاكتشافات الجديدة ، التأثر بالمجتمعات المجاورة ، والتلاقح الثقافي بين المجتمعات المختلفة ، وجود آليات تعمل على تحرير الأفراد من التحجر والتكلس ، وتعمل على اكتسابهم للقيم الجديدة والأفكار المستحدثة

والمجتمعات تتباين في موقعها من هذه العملية المستمرة ، فنجد مجتمع المدينة الصناعية التجارية أكثر ديناميكية من مجتمع الريف والذي تسيطر عليه العلاقات الزراعية ، ويأتي المجتمع البدوي في آخر قائمة المجتمعات التي تتقبل هذه العمليات الديناميكية كما أن للبيئة تأثيراً كبيراً على حياة الأفراد 0 فتكون مجتمعات البيئة الصحراوية والجبلية وذات الطبيعة القاسية أكثر ميلاً إلى الجمود ومقاومة التغير من مجتمعات المناطق المنبسطة ، ذات المناخ المعتدل

والإنسان ككائن عاقل ، يعني أن العقل هو الذي يسيطر على أفعاله ، ومن هنا تأتي حرية الإرادة فكون الإنسان كائنا عاقلا يعني أنه يستطيع وفقا لما يراه العقل أن يفعل هذا الفعل ونقيضه وفقا لمقتضيات العقل ، والمؤثرات التي تؤثر فيه

ولكي يسيطر العقل علي أفعال الإنسان ، ولا تكون أفعاله مجرد ردود فعل انفعالية مؤقتة مرتبطة بهذه الحالة أو تلك يجب أن تحلّ المشكلات الرئيسية التي تعترض هذه السيطرة العقلية وأولها : هي سدّ حاجاته الضرورية بشكل يحوز رضاه ، هذه الحاجات الأساسية هي المأكل والمأوي والملبس ، والقدرة على العيش في مجتمع (حل ما يتعلق بالزواج ، والعلاقات الإنسانية ، وغيرها من مشكلات) وهنا يستطيع الإنسان أن ينفصل عن العالم الحيواني (وردود فعله العزيزية) وثاني هذه المشكلات التي يجب حلها هي مشكلة الوعي الإنساني والمعرفة بكافة أنواعها ، لأنه كلما سما الوعي الإنساني ، وازدادت معرفة الإنسان – خاصة فيما يتعلق بالإنسانيات – فإن هذا يجعله اكثر سيطرة على انفعالاته ، وأقدر على كبح جماح ردود الفعل التي تأتي نتيجة لما هو طارئ ، أو مفاجئ ويأتي بعد ذلك دور التربية ، والعلاقات الاجتماعية ، وكون الفرد يعيش حياة يحقق فيها ذاته أم يحسّ بالاضطهاد والقهر ، ذلك أن الفرد كلما ارتقي وعيه ، وحلّت مشاكله الاجتماعية الضرورية ، أصبح قادراً على إنجاز ذاته ، وإنجاز مشاركة فعالة في المجتمع ولذا يكون تقدير الآخرين عظيم الأهمية ، ويكون إحساسهم بعدم المساواة ، أو الاضطهاد ، أو التهميش والإهمال من أسباب تمرده وجعله أسير انفعالاته

وإذا لم تتح للإنسان الأسباب والظروف التي تجعله يسيطر على أفعاله ، كأن يعيش في فاقه ، ولا يجد سبيلاً لحل مشكلاته الإنسانية ، وأن يكون محدود – أو عديم – المعرفة ، كأن يكون أمياً ، أو يكون التعليم السائد والمتاح له من النوع الذي يعتمد على الحفظ والتلقين ، وأن يكون المجتمع محكوماً بنوع من السلطة التلفيقية التي تدّعي فيها العصرية ، وتتمسك بالموروث ، ويكون ذلك مجرد موقف للحفاظ على السلطة

حينئذ يكون هذا الإنسان الذي لا يعيش في مجتمع إنساني حقيقي والذي تكالبت عليه كل الظروف ليكون منبوذا وطريداً من المجتمع ، مع جهله أو سذاجة أفكاره ، يكون حينئذ فريسة ردود الأفعال ، ويكون ردّ فعله تجاه المجتمع أو الآخرين انفعاليا ، وعنيفا ، بل وانتقامياً لإحساسه بالغبن وعدم التحقق مع عدم القدرة على تجاوز هذا الوضع مما يدفعه إلى التحول إلى قنبلة يمكن أن تنفجر في أي وقت دون حساب للنتائج أو ردود فعل الآخرين ، والتقليل من أهميتها 0 ذلك أن الإنسان في هذه الحالة تتساوى عنده الأمور ، الحياة والموت ، لأنه هو بالضرورة في وضعه السالف لم يكن حيّاً ، بل هو أكثر من مّيت ، لأن الإحساس الجارف بالنبذ ، والتهميش والاضطهاد يكون أقسي لعجزه عن تجاوز ذلك الوضع

ولعل هذا الوضع هو ما يمثله السواد الأعظم من مواطني العالم الثالث ، الذين يعيشون ، دون الحدّ الأدنى لما يجب أن تكون عليه الحياة الإنسانية ، في نفس الوقت الذي يرى غيره (في العالم الأول) ومن بعض الأفراد الذين يمثلون النخبة في عالمه يعيشون في أوضاع لا يطالها في أحلامه ، مع سيادة الخرافات والخزعبلات في مجتمعه ، وما تمثله من ارتداد إلى ما قبل العصور الوسطي من أفكار وحياة ، في نفس الوقت الذي تتوفر فيه للنخبة في مجتمعه ، والمجتمعات المتقدمة حياة عصرية يسيطر عليها العلم ، والرفاهية الاجتماعية إن هذا الوضع هو الذي يملأ هذا الإنسان بالكراهية ، والرفض لغيره ، وهو ما يجعله يقوم بردود فعل عنيفة ضده ذلك لأن الآخر بالنسبة له لا يمثل الوضع الذي لا يستطيع أن يطاله في الأحلام وحسب ، بل هو السبب في هذا الوضع أيضاً

وإلى جانب إنسان العالم الثالث توجد في المجتمعات المتقدمة فئات من المضطهدين يتمثل فيهم هذا الإنسان أيضاً ، وقد يحاول القائمون على هذه المجتمعات أن يحلوا المشكلة لهؤلاء – على حساب إنسان العالم الثالث – وقد يتجاهلون الأمر في أنفه وعنجهية وهنا يكون هذا الإنسان قنبلة موقوتة في هذه المجتمعات أيضاً .

هذاالانسان المهمش ومحدودالوعى – سواء كان هذا نتيجة للجهل اوسوء التعليم – يقع فريسة للافكار الرجعية المتخلفة والاتجاهات الارهابية المستترة بالدين والتى تعمل وفقا لمخططات مخابراتية ، هذه الاتجاهات تتلقف المهمش وتقدم له الدعم المادى وتستغل محدودية وعيه فى السيطرة عليه فيصبح أداة طيعة ويفقد القدرة على التفكير وبذلك يكون مسلوب الارادة ويتم توجيهه للقيام بما تمليه عليه هذه الجماعات الارهابية المتخلفة بل ويصبح جزءا منها

فمن الإنسان المضطهد ، سواء كان هذا الإنسان في العالم الثالث ، أو العالم الأول يبدأ ، ما يسمونه الإرهاب ، والذي نراه حتى في أشدّ صوره ضراوة إنما يمثل نوعاً من الاحتجاج على الوضع السائد في العالم ، وعلى الفقر والجهل والتهميش والاضطهاد والقهر، ولكنهفى نفس الوقت يمثل نوعا من غياب العقل وتدمير حرية الارادة والخضوع لفكر ماضوى لاوجود لاى صلة بينه وبين الواقع ، وغياب للمنهج العلمى وخضوع للخرافات وخزعبلات العصور القديمة .

وكون هذا الأمر صارظاهرة ، فهذا يعني أن الأوضاع تفاقمت والأسباب تراكمت وأصبحت منذرة بالدمار الشامل ، والحل لن يكون بالتخلص امنيا فحسب من هؤلاء الناس – وهم كثر ، ويتوالدون لتراكم الأسباب التي أوجدت الظاهرة – بل في حل جميع المشكلات ، وإنهاء الأوضاع المسببة والناتجة عن هذه الظاهرة على المستوي العالمي ، وعلى مستوي كافة المجتمعات ، ورفع مستوى الوعى الثقافى ، وعدم الفصل بين التحديث ومنهج الحداثة والاهتمام بمنظومة قيم عصرية على كافة المستويات الاخلاقية والاجتماعية والجمالية والسياسية .. الخ ، وإلا فإن حياة الإنسان على هذه الأرض سوف تكون أشبه بالهرم المقلوب ، ويكون الإرهاب ظاهرة سائدة

د. رمضان الصباغ



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى