محمود رمضان الطهطاوى - خيانة

ظلَّ لبُرهةٍ غيرَ مصدقٍ ، شعرَ بوخزةٍ في قلبهِ تنغرسُ بقوةٍ ، كادً يصرخُ بأعلى صوتِهِ منَ الألمِ ، ولكنَّه تماسكَ ، عندما عادَتْ ورمقتْهُ بنظرةٍ عميقةٍ ، وعاودَتْ مواراةَ وجهِهَا وانخرطَتْ ثانيةً بالبكاءِ ، شعرَ بدوارٍ وكادَ يفقدُ اتزانَهُ ، فجلسَ على الكرسي القريبِ من السرير ، وهو ينتظرُ نظرةً أخْرَى من عينيْها ، ليعاودَ الخوضَ فيهِما لمعرفةِ المزيدِ ، فقد تعوَّدَ قراءَةَ أفكارِها ودواخِلِها من هذا الشعاع الذي ينطلقُ من عينيْها وكأنـَّه شريطُ شفرةٍ لفكِّ طلاسمِ هذا البحرِ الخَبِئ ، حاصرَتْهُ الأسئلةُ ، وأغلقَتْ مسامَّاتَها حولَه وهيَ تطوِقُهُ كالدوامة ، تشدُهُ لعمقٍ سحيقٍ مظلمٍ ، كيفَ ينتشلُ نفسَهُ من هذا البركان ، إذا كانتْ عرفتْ كلَّ شئٍ ، متى؟ ، وكيف ؟ .
لم يستَطِعْ أن ينطقَ ببنت شَفةٍ ، وظلَّ صامتا للحظاتٍ كأنَّها الدهرُ ، واخترقـَهُ شريطُ الذكرياتِ ، الذي مرَّ أمامَهُ في فضاء الغرفة كأنَّه شريطٌ سينمائيٌّ ، منذُ اللحظاتِ الأولى للقاءِ الأول الذي جمعُهُمَا في باريس ، عندَما كانا يدرُسانِ في جامعة واحدةٍ ، هوَ أردُني ، وهي فلسطينية ، وسرعانَ ما ارتبَطا بالرباطِ المقدَّس ( الزواج ) ، وتعاهدَا على العودةِ إلى فلسطين ليعيشَ معها ، ويكافحا معـًا ، من أجلِ تحريرِ الوطنِ المحتلِّ ، فهوَ يؤمنُ بقضيَّتِها ، قضيَّة كلِّ عربي غيورٍ ، لابُدَّ للقدس أنْ تعودَ للمسلمين ، وانضمَّا معـًا إلى إحْدى المنظماتِ ، وانطلقا من خلالِها يؤيدِان الرسالةَ المقدسة .
واستمرَّتْ حياتُهُما منقسمةً بينَ العملِ والنِّضالِ من أجلِ التحريرِ ، واستطاعَتْ بتاريخِها وتاريخِ أسرتِها المعروفِ أنْ تقربَهُ من كلِّ القيادات ، وأنْ يتوغَّلَ عن طريقِها إلى كلِّ سراديبِ المنظمة ، بعدَ أنْ قامَ بأعمالِ بطوليَّةٍ وشهدَ لهُ الجميعُ بولائِهِ وإيمانِهِ بالقضيةِ التي وهبُوا لهَا حياتَهم .
كم هي المرات التي عرَّضَ نفسَه للخطر من أجلِها ، وفي كل مرةٍ تستقبلُهُ كفارسٍ ، تزهو به أمامَ الجميع في المُنظمة ، فهو حبيبُها وزوجُها والحائطُ المنيعُ التي تحتمي خلفَه ، ومن خلالِهِ وبهِ سوفَ تتحرَّرُ من هذا الذلِّ اليومي التي تُعاني منه هي وشعبها ، لقد اعتقلَ أكثرَ من مرةٍ ، وفي كلِّ مرةٍ يخرجُ أكثرَ صلابةٍ وقوةٍ ، أكثرَ من عشر سنواتٍ وهو يناضلُ بقدرِ استطاعتِهِ ، ويساندُ الجميعَ ، وهبَ كلَّ وقتِهِ لبيتِهِ وللقضيةِ .
توقَّفَ الشريطُ برهةً ، ونظرَ إليها ، مازالَتْ غائبةً عنه ، تُواري وجهَهَا بينَ ساقيْهَا ، وكأنَّها تتكوَّر لتختفِي عنهُ ، إنَّها اللـَّحظةُ التي غيَّرت توجُّهَاتَهُ ، وعكسَتْ خط حياتِه ، ليسَ غيرُها (( راشيل )) تلكَ الفتاةُ التي تتفجَّرُ أنـُوثة وتعرفُ كيف تحصلُ على ما تريدُ في الوقتِ الذي ترغبُهُ ، كيفَ باعَ القضيةَ من أجلِها ، لا يدري ، كيفَ فقدَ الوعي ، ودلفَ في الخيانةَ ، خيانةَ الزوجَة المخلصَة المحبَّة ، وخيانَة الوطن !! .
يا للوجعِ الذي يجتاحُهُ ، يسحَقُهُ ، يدمِّرُ كل خلاياهُ ، ينخُرُ في جسدِهِ ، روحِهِ كالسُّوس ، هجمَ عليه المرضُ .. مرضٌ لعينٌ ، أفقدَهُ كلَّ المناعةِ بداخلِهِ ، جعلـَهُ يستسلمُ .. لا يملكُ إلا الاستسلام .
حاولَ الهروبِ منهَا !! كيفَ ؟! . يحتاجُ هذا إلى مجازفةٍ .. مغامرةٍ .. قد تكلـِّفُهُ الكثيرَ .. يحتاجُ إلى تغييرِ دمِهِ ، يحتاجُ إلى الانسلاخ من جلدِهِ ، يحتاجُ إلى تبديلِ عظامِهِ ، بترُ قلبَهُ هذا العضوَ المراوغَ ، يتسلـَّلُ من روحِهِ ..
همسَ لنفسِهِ الحائرةِ : (( ألمْ أقلْ إنـَّها مغامرةٌ ، تحتاجُ منِّي أنْ أتَبدَّلَ ، أُغَيِّرَنِي ، ومن يضمنُ بعدَ ذلكَ لي الشفاءَ ، سأجدُكِ قـَطـْعـًا في دَمي الجَديد ، وجلدي المُتَخَلِّق تواً ، وعِظَامِي الطازجَةِ ، وقلبي الأخضر ، وروحي المتجدِّدَةِ ، كيف لا .. وأنا أتنفسُكِ مع كلِّ شهقةٍ ، ولا أستطيعُ إخراجكِ مع زفيرِها ، نعم جرَّبْتُ كلَّ طرقِ الانسلاخِ منْكٍ ،وكلـُّها تقذِفـُنِي بعنفٍ داخلـَكِ ، أتدثـَّرُ بكِ ، أتكوَّرُ بداخلـَكِ ، أهربُ منكِ إليكِ ، لا لنْ يفلحَ البُعدِ عنكَ ، تجربةٌ فاشلةٌ ، تُقرِّبُني منكِ أكثرَ .. فعلتـُها كثيراً ،وفي كلِّ مرةٍ أشعرُ بالاحتياج إليكِ أكثر من ذِي قبل ، فراغُ وحدتِي وأنا أحاولُ الانسلاخَ .. التمرُّدَ .. يجذبُني إلى أعماقِكِ .. يدلفُ بي إلى وجعي .. أنتِ وجعِي .. وجعِي بكلِّ ما تحملُهُ الكلمةُ من معانٍ واسعةٍ وضيقةٍ ، قريبةٍ وبعيدةٍ ))
ألفُ سؤالٍ يحاصرُني .. لمْ أشعرْ بهذهِ الأسئلةِ التي تشطرُ رأسي نِصفَيْنِ ولمْ تفلحْ معها أي مسكناتٍ عضويةٍ .. أسئلةٌ خرجَتْ من رحم الغيبِ .. تضيفُ إلى وجعي الكثيرَ ، وتقذفـُني على أرض الواقع في مواجهةٍ عنيفةٍ .. أشعرُ فيها بالوحدةِ ، أسلحتِي باهتةٌ ، غير معترفٍ بها أمامَ الاجتياحِ ، الحصارِ المُكبَّلِ .
لقد سمعَتُهُ وهو في غرفتِهِ ، يتحدثُ إلى راشيل ويرشدُها على مكان اجتماع الأعضاءِ الذين سوفَ يقومونَ بتنفيذَ العمليَّة الاستشهاديَّة الجديدة ، ( آه ) خرجَتْ من أعماقِهِ ظنَّ أنَّ كلَّ العالم حولَهُ قد سمعَهَا ، يودُّ أنْ يُلقِي بنفسِهِ من نافذةِ الغرفةِ لعلـَّه يستريحُ من هذا الصِّراع المُوجع ، هل كانَ في غيبوبةٍ ؟، ليتَهَا أحسَّت بتلكَ الخيانةِ قبلَ أنْ يتورطَ بهذهِ الصورةِ ، ليتـَهَا .....
هطلـَتْ الدموعُ من عينيْهِ بغزارةٍ بلـَّلتْ صدرَهُ وبنطالَهُ وأحسَّ أنَّهُ لو تركـَهَا ستغرقُ الغرفةَ ، وقفَ في الحجرةِ أطـَلَّ من النافذةِ ، بحلقَ في الفضاءِ الرحبِ ، في المارةِ ، وكأنَّهُ القدرُ أرادَ أنْ ينقذَهُ من الحيرةِ ، عندَما شاهدَ جنديا مدجَّجًا بالسلاح يعترضُ امرأةً مارةً في الطريق وهيَ تحملُ طفلـَها الصغيرَ على صدرِها وتجرُّ الآخرَ بيدِهَا ، يوقِفـُها وهوَ يوجِّه السُومْكي أسفلَ بطنِها ، فيضحكُ الآخرُ المتابعُ وهوَ يلوِّحُ ببندقيتِهِ في الهواءِ فرحا ، على الفورِ يهرولُ مسرعًا ، يهبطُ إلي الشارع ، يقتربُ وهو يخطفُ البندقية من الجندي العابثِ ، ويفرغُ ما فيها في جسدِهِ النتِن ، وسرعانِ ما يفرغ ُالآخرُ في جسدِهِ رصاصاتِهِ ، يسقطُ وهو يبتسمُ ، ووجهُهُ معلقٌ على النافذة ،.
تسمعُ صوتَ الطلقاتِ ، تقومُ من سريرِها وهي تقتربُ من الشبَّاكِ محاولة استكشافِ ما يدورُ ، فقد تعوَّدوا على هذه الأصواتِ ، فهي عادةٌ يومية ، نظرتْ من الشبَّاكِ ، بحلقتْ ، شاهدتْهُ مُلقـَى على ظهرهِ ، والدماءُ حولَهُ تتدفقُ ، وعيناهُ جاحظتانِ على الشبَّاكِ .
تراجَعَتْ وجلستْ على حافَّةِ سريرها ، هل فعلَ ذلكَ ليكفرَ عن ذنبِهِ ؟ ، أم محاولةُ للتخلصِ من حياتِهِ ، المُهمُّ أنْ سيرتَهُ ستبقـَى أمامَ الجميع طاهرةً ، وقد حملَ لقبَ شهيدٍ .



----------------------
نشرت في مجلة " المجلة " المصرية ، عدد فبراير 2015م
قصة : محمود رمضان الطهطاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى