بدر شاكر السياب - الُمخِبر.. شعر

أنا ما تشاء : أنا الحقير.
صبَّاغ أحذية الغزاة ، وبائع الدم والضمير
للظالمين . أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ . أنا الدمار ، أنا الخراب ‍‍‍!
شفة البفيّ أعفّ من قلبي ، وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يديّ . كما تشاء ... أنا الحقير ‍!
لكنَّ لي من مقلتيّ – إذا تتبَّعتا خطاك
وتقرّتا قسمات وجهك وارتعاشك – إبرتينِ
ستنسجان لك الشراكْ
وحواشيَ الكفن الملطَّخ بالدماء ، وجمرتينِ
تروّعان رؤاك إن لم تحرقاكْ ‍!
وتحول دونهما ودونك بين كفيّ الجريده
فتندّ آهتك المديده
وتقول : "أصبح لا يراني" ... بيد أن دمي يراك
إني أحسّك في الهواء وفي عيون القارئين.
لِمَ يقرأون : لأنَّ تونسَ تستفيق على النضال ؟
ولأن ثوّار الجزائر ينسجون من الرمالْ
ومن العواصف والسيول ومن لهاث الجائعين
كفنَ الطغاة ؟ وما تزال قذائف المتطوعين
يصفرن في غسق القنال ؟
لِمَ يقرأون وينظرون إليَّ حيناً بعد حين
كالشامتين ؟
سيعلمون من الذي هو في ضلالْ
ولأيّنا صدأُ القيود ... لأيّنا صدأ القيود ..
لأيّنا ...
نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفرّ ، سأقتفيه إلى السعير.
أنا ما تشاء : أنا اللئيم ، أنا الغبيّ ، أنا الحقود
لكنَّما أنا ما أريد : أنا القويّ ، أنا القدير.
أنا حامل الأغلال في نفسي ، أقيِّد من أشاءُ
بمثلهنّ من الحديد ، واستبيح من الخدود
ومن الجباه أعزُهنَّ . أنا المصير ، أنا القضاء.
الحقد كالتنور فيَّ : إذا تلهَّب بالوقود
- الحبر والقرطاس – أطفأ في وجوه الأمَّهاتْ
تنورهنّ ، وأوقف الدم عن ثديّ المرضعات .
في البدء كان يطيف بي شبَحٌ يقال له : الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع أقدام الخفير .
شبَحٌ تنفَّس ثمّ مات
واللص عاد هو الخفيرْ .
في البدء لم أكُ في الصراع سوى أجير
كالبائعات حليبهنّ ، كما تؤجَّر – للبكاء
ولندب موتى غير موتاهنّ – في الهند النساء .
قد أمعن الباكي على مضضٍ ، فعاد هو البكاء !

ألخوف والدمُ والصغَّار. فأي شيء أرتجيه ؟
فعلى يديَّ دمٌ وفي أذنيْ وهْوهة الدماء
وبمقلتيَّ دمٌ ، وللدّم في فمي طعمٌ كريه !
أثقل ضميرك بالآثام فلا يحاسبك الضمير
وانسَ الجريمة بالجريمة والضحية بالضحايا .
لا تمسح الدم عن يديك فلا تراه وتستطير
لفرط رعبك أو لفرط أساك .. واحتضن الخطايا
بأشدّ ما وسع احتضانٌ تنجُ من وخز الخطايا .

قوتي وقوتُ بنيّ لحمٌ آدمي أو عظام
فليحقدنّ علي كالحمم المتعرّة ، الأنام
كي لا يكونوا إِخوةً لي آنذاك ، ولا أكون
وريث قابيل اللعين سيسألون
عن القتيل فلا أقول :
" أأنا الموكّل ، ويلكم بأخي ؟ " فإن المخبرين
بالآخرين موكّلون !

سحقاً لهذا الكون أجمع وليحلّ به الدمارْ !
مالي وما للناس؟ لست أباً لكل الجائعين
وأريد أن أروي وأشبع من طوىً كالآخرين
فلينزلوا بي ما استطاعوا من سباب واحتقار
لي حفنة القمح التي بيدي ودانية السنين
- خمسٌ وأكثر .. أو أقلّ – هي الربيع من الحياة
فليحلموا هم بالغد الموهوم يبعث في الفلاة
روحَ النماء ، وبالبيادر وانتصار الكادحين
فليحلموا إن كانت الأحلام تشبع من يجوع.
إني سأحيا لا رجاء ولا اشتياق ولا نزوع ،
لا شيء غير الرعب والقلق الممض على المصير
ساء المصير !
ربّاه إن الموت أهون من تَرقُّبهِ المرير
ساء المصير :
لِمَ كنت
أعلى