عبد القدوس التجكاني - ورقة آخر الليل.. قصة قصيرة

بلغ الليل هزيعه دون أن يغمض لها جفن،نغص مضجعها السهاد فاستسلمت وهي تنهض من فراشها، فتحت نافذة غرفتها مرسلة طرفها نحو السماء علها ترمق نجوما تهتدي بها إلى سبيل يخرجها من ضائقتها،أيقنت أن ضالتها ووريت خلف سحب مبعثرة،أدركت أن ما تبحث عنه غير مستطاع،تسرب اليأس إلى كوامنها، فلا النجوم رصعت نحر الكون ولا السماء بكت عيونها، أغلقت النافذة متأففة من سواد ليلتها الليلاء،أنارت الغرفة مبددة شيئا من الظلمة، ضمت ركبتيها إلى صدرها، وضعت عليهما كتابا فوقه ورقة بيضاء ممسكة قلمها وهي تستلهم من أرقها كلمات استحالت بين أناملها حبرا اختلط كل حرف منه بعبرة من عبرها المنساب انسياب عباراتها،ألغت عالمها وهي تغدق ورقتها فصول ماض لم يبرح كيانها،انسحبت روحها من مكانها لتتواجد بين سطور قريحتها تواجد السالك،طهرت صدرها من أوزار ثقيلة،وضعت نقطة النهاية على ورقتها شاهقة شهقة مكروب انفرجت كربته، رفعت رأسها فتفاجأت بأبيها يدنو منها،ارتبكت لرؤيته وهي تحاول إخفاء ورقتها بين أوراق الكتاب،سألها:
-ما بك يا ابنتي؟ أ جافاك النوم؟ لقد قمت لصلاة الفجر واسترعاني النور المنبعث من غرفتك،طرقت الباب فلم تسمعي ففتحته خوفا عليك، أ تحتاجين شيئا يا ابنتي، سفرا أو هاتفا جديدا.
اعتلت وجهها صفرة قاتمة بعد أن اقتحم أبوها خلوتها،تملك لسانه العي فتلعثمت:
لا لا يا أبي شكرا.
-يبدو أنك كنت تكتبين شيئا شاركيني ما كتبت.
تجمد الدم في عورقها واصفر وجهها أكثر، تمنت لو أنها لم تكتب شيئا.
تعجب من ردة فعلها الغريبة، أحس أنها تخفي عنها خطبا عظيما، اقترب نحوها ثم سحب الكتاب وأخذ الورقة رغما عنها، حاولت جاهدة تتوسل إليه باكية إرجاعها فأبى مزمجرا في وجهها،انبعث ضيقها من رماده مرة أخرى لكن وطأته كانت أشد وأنكى،لم تجد حلا غير الهروب نحو غرفة أخرى من بيتهم الفاخر، هرعت إليها وأحكمت إغلاقه ثم ارتمت على أريكة تجهش في البكاء، أما هو فلم يرأف بحالها، وضع نظارته الطبيه ثم مرر أصابعه بين شعرات لحيته الكثة البيضاء، رمى سبحته جانبا و نسي الفجر منقادا لفضوله الجامح و ذكورته السادية ثم فتح الورقة ليقرأ سطورها:

كنت في الثامنة من عمري أستطيب الحياة في حضن أم أفنت حياتها مع رجل استعبده المال والقوة،كان قاسيا عليها يبدع في ممارسة ذكورته ليسلب منها كل إحساس جميل، يتركها أياما وأسابيع وحيدة في البيت دون أن تتبرم يوما لأنها كانت تستلهم من طفولتي بلسما لكلومها الغائرة، نضارةُ محياها كانت تتآكل يوما بعد يوم،لم أستوعب مآسيها التي تعودت طمسها بابتسامتها الشاحبة،أزمعت الإبحار تمخر عباب الحياة و رياح القلق والهلع تتقاذفها بين صدمة وأخرى،لعلعات رصاص عسس بيتنا و طرقات الدرك لبابه كفيلان بقذف الشحوب في وجهها، صرخات أبي يأمر عماله بإيصال شحنة الماريوانا إلى أصحابها في وقتها المحدد كانت طعنات مسمومة تميتها ببطء، لم أكن أدري أن مداعبتها وعناقها لي كلما هم أبي في نظم قوافيه الاعتيادية محاولات يائسة منها لتشتيت انتباهي عن خسة عالمه،لم تستطع تحمل كلام نسوة البلدة صباحا وهن يحملن في أجيادهن حزم الحطب بين جبال شامخة شموخ حزنها، لم يشف غليلهن باغتيابها صباحا فاجتمعن وسط حقل مساء ليضربن على نبتة الكيف حتى تستحيل طحينا قبل أن يضغط على شكل صفائح أغلى من الذهب، كانت ضرباتهن إيقاعا يرددن عليه لازمة (امرأة المفضل الروبيو)، تارة يتحسرن على حالها بقولهن:(الله يكون في عونها دريوشة ما لا يتهلا فيها ما لا يعبيها دفوج غا لهرراااوة واها) ومرة يسردن ما بلغهن من قصصه ومغامراته(سمعتو العايلات قالك المفضل رزا زوج منيول فليلة واحدة هبط لاساكن ديك الأووطيل وسيبم على الشيخات)،هكذا لم ترحم أمي ألسنة حداد أرغمتها على اعتزال الجميع اتقاء جراحاتها.
مرت أيام وهي على هذا الحال تراكم خيباتها في صمت مطبق حتى جاء ذاك اليوم المشؤوم حين أصبحتُ على عتمة حالكة وأنا أبصر شيئا ممددا لُفّ في ثوبٍ أبيضَ، لم أفهم شيئا إلى أن سمعت - رحم الله أمك-، حينها ارتميت على جثتها أنزع عنها ما لَفَّها، ألثمها محاولة إيقاظها وتحريكها دون جدوى، فارقت روحها الطاهرة جسدها، دمدم صوت غريب بين جاونحي، سُلِبت أجمل شيئ في حياتي، عجل الموت برحيلها دون أن تحيا في حياتها.
مر عام على موت أمي ومازال أبي يعربد ويتاجر في المخدرت،لم يكفه بموت أمي واعظا يرشده،انقطعت عن المدرسة بأمر منه لكني اهتممت بقراءة قصص وروايات زودتني بها خالتي التي تقطن في طنجة، أدمنت القراءة متنفسا ينسيني معاناتي داخل بيت تعيس، كان أبي منشغلا عني كل ليلة يجمع رجاله في سرداب البيت لشحن المخدرات ،ليته يعلم أن لياليه تلك قتلتني! ، نعم كانت ليلة دقت آخر مسمار في نعش طموحي، مازل ذلك المشهد اللعين مطبوعا في ذاكرة تمنيت فقدانها،اقتحم رجل من رجاله غرفتي بعد أن تسلل من السرداب في غفلة من أبي السكران، حاولت مقاومة حيوانيته فلم أستطع، كان يردد: بكل فخر الآن سأنتقم من أبيك حتى يتعلم ألا يستبيح أعراض الناس.
الآن وقد زرتَ بيت الله يا أبي و أطلقت لحيتك مرتديا جلبابك القصير،بعدما تركت القرية ورحلت إلى طنجة وبنيت المساجد وفتحت مشاريعك، لا شك أنك تتساءل عن عدم رغبتي في الزواج ورفضي كل من تقدم لخطبتي رغم أني بلغت الثلاثين من عمري؟؟ لقد قررت أن أترهبن في دارك كي لا أظلم رجلا بماضي اللعين، ها أنا أسامر ورقتي وأبللها بدموع أرقي في حياة قتلتني فيها مرتين...
صرخ الأب ينادي ابنتي…!! أسرعت إليه دخلت الغرفة فوجدته مغشيا عليه.
ثم انتحبت وهي تقول ليتني لم أكتب!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى