محمود عبد الوهاب محمود - القبلة.. قصة قصيرة

رأيتها كثيرًا بعد وفاتها، في البدايات كل ما كنت أشعر به هو وجودها فقط في المكان، ثم عند تتالي المرات أخذ الوجود يزداد اقترابًا وكثافةً، لم يكن قد مضى على موتها أكثر من شهر عندما بدأت أراها ثانية، كان هذا عكس ما حدث مع الأقرباء الآخرين، وأقربهن خالاتي.
ظهرت لي كثيرا بعد ذلك، وعقب كل ظهور كنت أفيق على حالة من السعادة غير المكتملة، كأني أريد شيئًا أكثر من مجرد الوجود، وصالًا أكبر يدوم، إلى أن رأيتها مرتين متتاليتين، وبدا لي الأمر كأن إحداهما تسليم للأخرى، ففي البداية رأيتنا خارجين من مكان أشبه بمول ذي باب زجاجي كبير، وما إن تركت يدها لانشغالي بشأن ما، حتى اختلط عليها الأمر، فاتجهت نحو الزجاج ظنًّا منها أنه الباب. أسرعت إليها وأخذت يدها غير أن نتيجة الحركة السريعة أن قدمها التوت.
وفي المنزل أحضرت الماء الساخن وبعض الملح وبدأت أدلك قدمها، ويبدو أني دلكت بطريقة خاطئة مما حدا بها إلى أن تنهرني قائلة:
ده تدليك ده؟
أثر الحلم كان السرور بعد الاستيقاظ، لم يهمني نهرها لي، بل أسعدني أن صوتها كان قويًّا ووعيها كاملًا. رأيتها قوية.

ثم رأيتني ثانية وقد أوصلتها بالسيارة من مكان إلى آخر، ثم فتحت باب السيارة ومددت لها يدي على اتساعها لتمسك بها كيفما ترغب، ثم رفعت يدي بها فقامت، مشينا خطوةً إلى الخلف كي نغلق الباب، نظرت إلى حيث تريد أن تذهب، كان سورٌ ممتدٌّ لنادٍ كبيرٍ، وقد تكاثفت عليه الأشجار بصورة جميلة، أما الشمس فكانت رقيقة إلى درجة أن أشعتها تكاد تبين، خلال الأغصان، كخطوط ذهبية متقطعة.
كانت داخلة وحدها إلى النادي للقاء بعض الأقارب، وطلبت مني ألا أنتظرها لأنهم مَن سيقومون بتوصيلها آخر اليوم، فسألتها:
أوصلك لجوه طيب؟
قالت لي بابتسامة شجاعة:
لا مفيش داعي، أنا عارفة طريقي كويس.
وقبل أن تغادرني، فاجأتني بشيء لم أعهده من قبل، قبَّلتني على عيني، وغادرت، فصحوت أتحسس رطوبة شفتيها، وأبتسم من فرط القرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى