حسام المقدم - رقصة القيامة.. قصة قصيرة

منذ بدء العالم تسقط الأشياء كلها على الأرض، وليس التفاح فقط. هذه حقيقة مثل الشمس، وظلت هكذا لدُهور حتى منحَها "نيوتن" الجَلال العِلمي، وأسماها "الجاذبية". لكن في أزمنة حديثة، مثل الزمن الذي عاش فيه "عبدالله"؛ لم يكن الموضوع على هذا القَدْر من البساطة.
الولد "عبدالله" كان ينظر للأرض كثيرا وهو يمشي. يقفز قفزات مفاجئة بلا مُبرر. في حصص العلوم يدخل في جدل، ينتهي بأن يرمي الأستاذ أي شيء في يده نحو وجه الطالب المُصفَرّ، ابن القرية الصغيرة المرميَّة في آخر الدنيا، الذي تمادى في شطحاته حتى: "وما حكمة الله في تقييدنا بالأرض وجاذبيتها؟ لماذا لا يكون ذلك للبيوت والأشجار والحيوانات أو أي شيء آخر؟ أليس الأفضل لو كُنا بالخِفّة التي تجعلنا نطير في الأعالي، ونرى الحمام والنسور والعصافير تُهفهف من حولنا، نُسابقها ونسبقها"؟ يضحك أستاذه ويرد مُتسائلا: "يا غبي، إذا كانت الأرض لا تتحمل مصائبنا ونحن ثُقَلاء فوقها، فكيف سيكون حالها مع خِفة الشرِّ والإجرام الذي سيصعد ويعبر القارات بسهولة"؟ تعجبَ الولد من المنطق الذي نسي الصواريخ والقنابل الذرية وسُفن الفضاء. رغم ذلك جاءه الخاطر وردَّ بنفس الطريقة: "ولماذا لا يكثُر الخير أيضا"؟ بعد جولات من الجدل، وكلامه مع رفاقه في أمور غريبة؛ قالوا إن مُخّه توالدت فيه كلاب الشوارع والغيطان. القريبون منه، في المقابل، كانوا يستريحون لغزالته التي تسرح بهم في فضاءات ليس فيها طابور الصباح، ولا لسعات العصا الطويلة المُترصّدة طوال اليوم في المدرسة.
تتسع الأعين الصغيرة المجذوبة على وقع حكاياته عن عائلتة العجيبة التي تزوره: أب وأم وإخوة، قادمون من كوكب آخر، وبهيئات غريبة ووجوه ليست كالوجوه. يقول "عبدالله" إنهم يأتون إليه بانتظام لكن في مواعيد غير ثابتة. على الأكثر يتأخرون أسبوعين ثم يجدهم فجأة يُهَفهِفون كالفراشات من حوله بعباءاتهم الملونة وأجسادهم الصغيرة. يتكلمون مثلما يتكلم، وتسكن أصواتهم بَحَّة خافتة حُلوة. إنهم لُطفاء جدا، ويعتبرونه واحدا منهم. فرحَ من قلبه حين وصفوه في مرة أنه: "أمير".
يومها لم يَنَم.
"أمير"؟
إنه يُحب هذه الكلمة من صميم قلبه، لكنّ طعمها جديد على لسانه، وفي حروفها نَغَم مُعَطَّر يتناوب على الأُذن والأنف. هو الذي تعوّدَ عليها كثيرا من الكِبار، حين يرونه على درجة عالية من التأدب في الطبع وفي الكلام: "يا أمير، يا ابن الناس الأُمراء". تغيرت الكلمة تماما، ولم تعد تعني ولدًا يمشي جنب الحائط وينظر في الأرض. الأمير هو هذا الذي يعرفه ويقرؤه، ويشرب ملامحه في كتاب "الأمير الصغير" الموجود في مكتبة المدرسة. كاد أن يحفظ سطورا كاملة بأرقام صفحاتها. تعدَّى الأمر حصص المكتبة، إلى الذهاب في الفسحة لإلقاء نظرة سارحة على غلاف الكتاب، نظرة تجعل عينيه تشفان باللمعان والألق: أمير جميل في مثل سِنِّه، هبط إلى الأرض من كوكبه البعيد بالغ الصغر، والذي لا يوجد عليه سوى زهرة وحيدة كانت تبكي بكبرياء لحظة وداعه، رغم أنها طمأنته على قُدرتها الدِّفاعية، بامتلاكها أربع شَوكات قادرات على رَدّ أي هجوم مُحتمَل ضدها. على الكوكب أيضا ثلاثة براكين صغيرة: اثنان ثائران وواحد خامد إلى حين. يُفكر "عبدالله" في أشياء تشدُّه معها بلا أي فرصة للرجوع: أمير مثل هذا يتنقلُ بحُريَّة بين الكواكب ليرى أنماطًا عجيبة من البشر، حتى يصل أخيرا إلى كوكب الأرض؛ لابد أنه خفيف لدرجة أن جاذبية الكواكب لا تؤثر فيه. ياااه، جميع الكواكب التي مرَّ بها، حتى كوكبه الصغير.. غادره ببساطة مُتعلِّقا بأذيال الطيور البَريَّة المُهاجرة. هل كان يُواصل تنقلاته بمجرد التفكير فيها؟ بمعنى أنه عندما ينتهي من زيارة كوكبٍ ما، ويفكر في مغادرته، أيكفي أن تأتيه الفكرة فيجد نفسه يطير فجأة بسهولة؟ آه، من المؤكد أن صدمته كانت مؤلمة حين اقترب من الأرض، وفُوجِئ بقوة شَفط مهولة تبتلعه بسرعة شديدة، وتدفعه دفعا للهبوط الصاروخي على سطح كوكب يجذب بقسوة غاشمة كلَّ ما ومَنْ يقترب منه. كيف هو الدُّوَار الرهيب الذي أَحَسَّه وهو يقف رغمًا عنه فوق الأرض؟ أمير مسكين، بدلا من أن نذهب إليه لننعم معه بأسفاره وكواكبه الكثيرة؛ جاء هو إلى كوكبنا غير السعيد. يضحك "عبدالله": ما الذي جاء بك إلى هنا يا أميري الجميل؟ لن تقدر على مغادرة كوكبنا كما هو الحال مع الكواكب الأخرى. رأيتك في إحدى اللوحات الجميلة المُصاحبة لسطور الكتاب تجلس على كُرسي تنتظر غروب الشمس في كوكبك. هل الكرسي من ذهب؟ وهل يمكن أن يكون تُراب كوكبك نفسه من ذهب؟ ها، رُدّ عليَّ يا صديقي الذهبي. أعرف أنك تُحب الأسئلة مثلي، ولا تتنازل أبدا عن سؤالك، في انتظار إجابة قد تُرضيك. كما أنك لا تكف عن إظهار دهشتك من هؤلاء الكِبار، الذين يهتمون بأشياء بالغة الغَرابة مثل الأرقام. أنت تعرف أنني أُحبكَ، مثلما أحببتَ أنت الرجل مُشعِل المصباح على أحد الكواكب الصغيرة التي زُرتَها. دَعكَ من الكلام، إذا كُنتَ لا ترغب فيه، وضع يدك في يدي. كُن جامدًا يا بطل، سأُريك بلدتي الصغيرة النائمة في قلب الغيطان. خُذ بالك: أرضها تُراب وليست مُبلَّطة أو مرصُوفة. في وجوه أهلها كُلّ تضاريس الجغرافيا التي دَرَستُها، والتي لم تأخذ اسما حتى الآن. من بيوتها وشوارعها سَتَشُم عُطورا مُمَيزة، هي خليط من اللبن الرائب والرَّوَث والبرسيم الأخضر الطازج. ستراني يوميا بعد العِشاء، أجلسُ مع إخوتي، جَنب أبي، وأمامنا التليفزيون الصغير. لا تَطرُف أعيننا انتظارا للرجل الصَّعيدي الطَّيب الذي سيأخذ بثأره حتمًا، في مُسلسل الثامنة. بعد ذلك تهلُّ نشرة التاسعة، التي تتسبب في نومي دائما فور أن تبدأ كلماتها.
يقول "عبدالله" لأميره الحبيب كلَّ ما يأتي على خاطره، يُعيد ما سبق وخاض فيه مع كائناته الفضائية الحنون. يطول زمان الوصل، وتتناسل الحكايات بأفكار جديدة تكبُر معها الغزالة السارحة، تنعقد الروابط بين رُوح وروح، تنبعث نداءات تُخبره أنه ليس وحده في هذا العالم، وفي مقدوره أن يُشكِّل مجموعة من أصحابه، يمشي وسطهم في تظاهر وصخب مُتعَمَّد، قادر على رَدّ أي نظرة أو كلمة تنتقص من حُلمهم وتشوقهم إلى الصعود. وفعلا، كانوا في الأعالي.. حتى في أشدِّ اللحظات الاستثنائية.
...
شاءت الصُّدفة العجيبة، في تلك الظهيرة الموعودة، أن يضرب البلد كلها زلزال أكتوبر الشهير، بينما "عبدالله" وبعض رفاقه غير موجودين على الأرض! يتذكر التوقيت والتاريخ جيدا: في الثالثة تقريبا من يوم الإثنين 12أكتوبر 1992؛ كانوا هناك، فوق مئذنة الجامع.. تلك التي أدمنَ الصعود إليها. يااااااه. لا ينسى لحظاته مع المئذنة، بداية من الإغواء الأول، حين أغراه آخرون بالطلوع أول مرة، ووقوفه المُفاجئ في منتصف المسافة تقريبا، والنظر للأرض من فوق السُّلم الدائر الحلزوني. تجمدت ساقاه ولفَّت دماغه، ووقعَ دائخا بالدُّوار. أفاقَ وهو بين أيديهم في الأسفل، تحوطه وجوه ضاحكة وألسنة حمراء ممدودة. أعادَ التجربة، واستمعَ للنصيحة: لا تنظر لتحت أبدا. أطاعَ ومشى مُمسِكا باليد المُرشِدة لصاحبه الجريء. وفي النقطة التي تخيلها جنب السماء رأى.. رأى كل شيء في الأسفل صغيرا وعاديا. دارهم ودُور أعمامه في حجم كفِّه إذا مَدَّها أمام إحدى عينيه المفتوحتين. الأروع أن السماء قريبة، والطيور هنا وهناك. هذا أعلى مكان في العالم. هكذا فكَّرَ الولد الذي رأى العمائر العالية في المدينة غير البعيدة، ولم يتخيَّل نفسه فوق قِمم إحداها. لن يصل خياله لهذه الرؤية الباهرة المباشرة التي يرى بها الأرض. يُكرر الصعود مرات ومرات، لوحده أو برفقة آخرين من أحبابه، زَيَّنَ لهم مُلاحقته ليروا بأنفسهم. حدَّثهم عن الخلايا المُضادة للجاذبية، التي تتكاثر وتنقسم في دمه إلى المئات والآلاف، كُلّما انفصلَ عن الأرض، من ذلك الارتفاع الشاهق. هناك ما يأخذ برأسه، جاذبية عكسية تشدُّه إلى فوق. هذا ما يُدوِّخه، وأصبح يُدوخهم بالمثل، ويَجعلهم يُطيلون النظر إلى السماء، حتى تُوجِعهم رقابهم ويعجزوا عن بلعِ الريق. كانت تلك حالتهم الحقيقية في الأعالي؛ حين فُوجِئوا بزلزال الأرض وارتعاش المئذنة، في الظهيرة التي لا تُنسى.
لحظات انطمستْ فيها كُل كلمات اللغة إلا كلمة واحدة: "زلزال". قالتها الأفواه همسا وصُراخا وهرولة وجريا، وعَبَّرتْ بها الأجساد مُندفِعة بملابس البيت أو النوم، أو طاهرة مُطهَّرَة بلا أي ملابس! في الظروف العادية كان الولد "عبدالله" سيستمتع بالمشهد كثيرا؛ لو تفرغ لرؤية هذه القيامة من موقعه الكاشف، والأهم أن يجد فرصته العظيمة في الشماتة بهؤلاء البشر الذين طالما أوجعوه ضحكا وغمزا، الأغبياء المذعورين، والعاجزين عن الارتفاع خطوة واحدة فوق جاذبية أرضهم المُتقلقِلة الغاضبة.. لكن، هو الآخر مع رفاقه قامت قيامتهم. انفردتْ بهم المئذنة المُرتجِفة، فلم يقدروا على الوقوف أمام الارتجاج الشامل للوجود كله. داروا مع سور المئذنة رُبع دورة، مأخوذين مذهولين، ومُتشبثين ببعضهم وبأي شيء. رأوا السماء أيضا ترتجف، تحوَّلَ صفاؤها إلى صورة إناء هائل مقلوب، مليء باللبن المُترجرِج الذي سيندلق حالا فوق المئذنة ويغمرها. طوفان هو ذلك القادم لا محالة. معظمهم أغمضوا عيونهم بشدة. تساندَ "عبدالله" من جديد، ووقف مُغالِبا الرعشة التي أمسكت بكل شيء. هناك، في الأسفل الضبابي، بشر يعرفهم.. هذا جده الكبير غير القادر على الحركة مُنطرح في منتصف الشارع، وهذا أستاذه الجميل جنب جدار الجامع لا يتحرك، وهذه البنت زميلته في المدرسة تجري منكوشة الشعر خلف أمها أو جِدتها. زاغت عيناه من جديد، واستسلمَ لإغماضة عميقة. لا يريد أن يرى شيئا. إنها أطول رعشة يمرُّ بها في حياته، ويبدو أنها لن تتوقف إلا مع خروج روحه. فتح عينيه بتثاقل، رأى رفاقه أشباحا مائية، ومن كل شيء نُسختين: أسطح البيوت والجامع والترعة الصغيرة. المئذنة هي الأخرى انطبعت كصورة طبق الأصل في الجوار، وهناك مَنْ يُشبهه قائم في نفس مكانه. بعينين غائبيتين نظر ناحية نفسه الأخرى، فوجد أميره الذهبي الذي انتظره طويلا، لكنّه مُضطرب، ولا يكف عن الإشارة العصبية من المئذنة الموازية. لم يفهم "عبدالله" المُوشك على الإغماء ما يريده صاحبه. هل يدعوه إلى النزول أم إلى الصعود؟ انتبه للأيادي الكثيرة الممدودة من قلب السحاب، والتي تشير إليه بنفس الطريقة الغامضة المستعجلة. هل هذه أيادي الملائكة؟ بعدها وقع في مكانه ميتا.
على سريره كان لا يزال ميتا، وحين فتَّح عينيه على ضحكات أبيه ووجه أمه الحزينة؛ عرف أنه حي، حي فوق الأرض وليس بعيدا عنها. وبعد فوات أسبوع التقى رفاقه ووجدهم لا يزالون أحياء مثله، لكنّ شيئا ما تغيَّر. ناموا مُتمرِّغين على التراب، وشَمّوا لأول مرَّة الرائحة الخِصبة الثقيلة، بنفس الهدوء الأزلي، بلا أي ارتجاج أو رعشة. الزلزال كان فاصلا لرقصة قصيرة عنيفة، تركتْ صُداعا مُغويا يُولد في الرؤوس كلما لاحت المئذنة. ظل أحدهم يقول، بلا أي تفسير أو إضافة، إنهم لحظة الزلزال كانوا "فوق"، والذي يرى من فوق لا ينسى.
....
ما الذي رآه "عبدالله" وأصحابه في لحظتهم تلك ولم ينسوه؟ يتبقى السؤال الأهم الذي شغلَ دماغ فِئة الباحثين من أهل القرية: كيف تَفرَّقَ مصير هؤلاء الفِتية لهذه الدرجة؟ والحق معهم في استعجابهم مما صار إليه شأن "عبدالله" ورفاقه، لأنه لم يجتمع اثنان منهم في طريق واحد عبر السنوات التالية..
فهذا واحد منهم حدث له ما يُشبه الانخطاف بعد إنزاله من المئذنة. تَبدَّى هذا في ذُهوله التدريجي عمّا حوله، وبينما أكدَّ كثيرون أنها مسألة وقت سيعود بعدها للأفضل؛ إلا أن الأمر طال لشهور، والشهور امتدت.. ولا يزال حتى يومنا طليقا في كل الأماكن، غير قادر على تثبيت عينيه القلقتين نحو جِهة مُحددة.
والثاني لم يصعد مئذنة واحدة بعد ذلك، وطوال سنوات الجامعة والعمل لاحقا؛ كان على حذر من السكن في الأدوار العليا، وبالتالي ظلّ قريبا من الأرض، التي فَسَّرَ جاذبيتها بمعنى الحُب: تَجذِبُنا لأنها تُحبُّنا.
أما الثالث فقد انسحب مُبكرا من السباق، بسبب عربة مجنونة تَكفَّلتْ بإنهاء عُمره بصدمة واحدة.
مع الرابع جرت أحداث: قضى نصف عمره في القرية، ثم غادر في سفر طويل إلى بلاد ثلجية، بها مبانٍ تُشبه قِطع الجاتوه، وأبراج كنائس رائعة، ومآذن قليلة شاهقة مثل أقلام رصاص مبريّة. لا يزال يتنقل بين مِهَن كثيرة نهارا، وفي الليل يدرس مُنتسبًا لإحدى الجامعات، التي زَوَّدته بما يلزمه، من أجل البحث والتقصَّى عن الفضاءات البعيدة والكواكب غير المُكتشَفَة.


حسام المقدم


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى