ميخائيل سعد - الجان وبلوزة زوجتي السماوية

حاولت جاهدا أن أُبعد خلافات المعارضة السورية عن بيتي، لما قد يكون لها من تأثير سلبي على وحدة العائلة وتماسكها في مهجرها، خاصة وأنني عانيت ما عانيت من صعوبات بعد خروجنا من سوريا في أواخر الثمانينيات، فقد تركنا البلد تئن تحت نير استبداد حافظ الاسد، وكنا كعائلة، ممن عانى من ذلك الاستبداد والظلم الذي طال الغالبية العظمى من سكان سوريا، لذلك فقد كانت من أولى الأهداف التي سعيت لتحقيقها أنا وزوجتي هي تجاوز مرحلة الاستبداد الأسدي والتكيف مع أسلوب الحياة الديمقراطية، وقد نجحنا إلى حد معقول في ذلك، إلا أن ممارساتنا الديمقراطية في الغرف المغلقة بقيت هشة، فقد كانت زوجتي في لحظات الانفعال تترك بقعة غامقة على عنقي أو على ذراعي، وقد نصحتها عشرات المرات أن لا تترك أحذيتها الجديدة في خزانة غرفة النوم، المخصصة أصلا لثياب النوم الخفيفة والزاهية الألوان، إلا أن زوجتي، الحريصة على العملية الديمقراطية، كانت تصر على وضع كنادرها الجديدة في هذه الخزانة، وكنت أتحاشى مناقشتها مطولا في هذا الأمر لأنها سرعان ما كانت تتهمني بالعقلية القمعية التي ورثتها عن نظام الأسد، وأن لكنادرها من القيمة المعنوية والمادية ما يجعلها في مصاف الكنادر العظمى في العالم، وعلي احترام هذا الأمر.
وكما قلت لكم في مقدمة هذا المقال، حاولت أن أحجب كل المعلومات المتعلقة بخلافات المعارضة وصراعاتها ونهبها للمال العام تحت مسميات مختلفة، عن جو الأسرة، وخاصة عن زوجتي، التي لا تترك فرصة تفوتها إلا "وتهتني" بفقري، وإذا ما كانت تغفر لي فقري أيام الأسد الأب، الذي نهب أملاكي وأملاك السوريين، فإنها لن تتركني بسلام الآن، وخاصة أنها لا تسمع مني إلا أنني مع المعارضة، فكيف ستسامحني إذا عرفت أن الكثير من المعارضة الخارجية قد اغتنت بينما أنا ما أزال محافظا على فقري الذي ورثته عن الحقبة الأسدية!
كنت قد نجحتُ في ذلك، إلى أن قررتْ صباح أحد الأيام أن ترتدي بلوزتها السماوية، التي اشترتها قبل أيام، مع بنطلونها الجينز الكحلي، فهي حريصة أن ترتدي ثيابا جدية صباح كل يوم عمل، وتقوم بتحضير ما ستلبسه من المساء. في الصباح ارتفع صوتها، ورغم محبتي لنغمات حبالها الصوتية التي جففها الدخان، إلا أن الصوت قد أخذ بالعلو حاملا نوعا من التوتر الذي ينذر بالخطر الوشيك، الذي يشبه توتر الحلبيين من انفجار برميل قد تلقيه إحدى طائرات الأسد في أية لحظة. نهضت من السرير مرعوبا على إثر صرخة تسألني: أين اختفت بلوزتي السماوية التي وضعتها البارحة هنا؟
قلت لها: والله لا أعرف، أنت تعرفين أنني رجل معارض شريف، ولا أمد يدي إلى ما ليس لي.
في المساء، وبعد أن عادت من عملها، بدأت عملية بحث معمق في الخزانة أولا، ثم في غرفة النوم، ثم امتدت رقعة البحث إلى الصالون وغرف الأولاد والحمام والمطبخ، ولما لم تجد بلوزتها السماوية، قلت لها ساخرا "ولكن بجدية كبيرة": لقد رأيت الكلب ينظر إلى البلوزة بإعجاب عندما كنت تجربينها أول مرة! فقالت وقد احمرت عيناها: شو قصدك؟ قلت لها: لا، ولا شي، ولكن من عاداته أنه يمزق بعض الثياب، فهذه طريقته بالتعبير عن حبه، وأنت تعرفين ذلك! فما كان منها إلا أن توجهت إلى قفص الكلب باحثة عن أثر ما، ولما لم تعثر على ما تريد، قالت لي بصوت رقيق: هل تعتقد أن صديقة ابننا قد "لطشت" البلوزة؟ قلت لها: اتق الله يا امرأة، تكادين تدمرين عائلة عمرها ثلاثون عاما من أجل بلوزة، كفانا، أنا غدا سأشتري لك واحدة مثلها!!!!
قالت: أولا لن تجد مثلها، فقد كانت القطعة "الأخيرة" في المركز التجاري، ثانيا أريد أن أعرف أين اختفت. وذكرني إصرارها على أن كل قطعة تشتريها هي وحيدة عصرها وفريدة زمانها، بأقوال رجال المعارضة السورية، وادعاء أغلبهم، أن الله لم يخلق مثلهم، وأن الشعب السوري لا يستطيع الاستغناء عن عبقريتهم، وبدونهم فإن الثورة لا يمكن أن تنتصر، قلت مخاطبا نفسي همسا: يا سبحان الله، وكأن زوجتي عضو في ائتلاف المعارضة السورية، وكل محاولاتي لإبعاد شبح المعارضة عن البيت باءت، على ما يبدو، بالفشل الذريع.
في صباح اليوم الثالث لاختفاء بلوزة زوجتي، قالت لي أثناء توصيلها للعمل: هل يمكن أن يكون الجان قد سرق البلوزة؟
قلت لها: كل شيء ممكن يا حبيبتي، وأفضل حل لهذه المعضلة، أن نفعل كما المعارضة في حل أزماتها، ان نذهب بعد عودتك من العمل إلى أحد الكهنة كي يكتب لك حجابا يبعد بواسطته الجان عن البيت، ومن المستحسن أن نحقق الوحدة الوطنية ونذهب إلى أحد المشايخ، فقد سمعت أن أحدهم يملك قدرات خاصة في طرد الجان واسترداد المسروقات منهم، صحيح أن الحجابين سيكلفان بحدود الخمسين دولارا، ولكن لا خيار عندك إذا كنت تريدين الاستمرار في البحث عن هذا الحلم. في الأسبوع الثاني وجدت زوجتي بلوزتها السماوية مرمية بين أحذيتها.
وهكذا يكون سلوك المعارضة قد دخل بيتنا وخرب استقرارنا الديمقراطي الهش، رغم محاولاتي الفاشلة في إبعاد تأثيرهم عن جو العائلة.
--------

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى