عبدالله البقالي - فطــــام.. قصة قصيرة

أجلس الآن في المقهى نفسه الذي كنت ارتاده قبل ثلاثين سنة، و الذي يحمل اسما كان مناسبا للعمر الذي قضيته فيه. كما يتلاءم مع ما يبثه من اغان روحانية كانت تتجاوب مع الطابع الحزين الذي سكنني باكرا.
صاحب المقهى هو نفسه، و كذلك النادل. لكن حركتيهما فقدتا الكثير من الحيوية. و عيونهما ما عادت تتطلع إلى القادمين بتلك الروح المرحة و الحفاوة المبالغ فيها.
لماذا جئت إلى هذا المكان المفعم بالحزن و الكآبة؟
لا أريد التصريح انها كانت السبب. و لاني فعلا غير متاكد من ذلك. لكن بداخلي إصرار على إنجاز نوع من التوازي بين متطلبات اللحظة، و بين الزمن الذي لا يحفل بالوقائع التي يتركها خلفه. لكن الوجدان يرفض هذا الانضباط القاسي، و يصر ان يكون اكبر من مجرد جزئيات أثثت لحظة ما من حياة الزمن نفسه. و بين هاتين المساحتين أجد الورطة التي احياها. و ارفض الافتراض اني في علاقتي بمن اثثوا حياتي في الماضي، قد فعلت الشئ نفسه الذي تنجزه هي الآن. و لانني لا يمكن ان اكون البديل للحقيقة التي يحياها العالم. و أعجز من ان انشئ لها كونا خاصا بها. و اكثر عجزا من ان اعيش حياة لا يشاركني وجودها فيها. لا اجد امام كل هذا إلا أن اتحامل على الحقيقة المجسدة فيها. و أن أقنع نفسي أن كل الزمن الذي و هبته لها كان مجرد مصادرة لأقساط عمري، تحولت حياتي فيها إلى مجرد تغطية مكنتها من بناء جسور هروبها. و اني الآن في هذا الصحو، لا أفعل اكثر من تقديم اعتذار متاخر لحياتي. تلك الحياة التي تنظر إلي باستغراب، خصوصا و هي تجد مفاعلاتها قد تقادمت و اغلقت كل مسامها التي كانت تسمح لها بالتنفس، وهي بصدد ذلك العدو المسعور كي تفاجئ الازمنة في مهدها.
أعي ان الفاتورة ستكون رهيبة. و انه علي تقديم ضمانات شبه مستحيلة. و ان اول خطوة هي ان اقنع نفسي بأني سأعمد بنفس الإصرار الذي احتضنتها به، أن انتزع غيابي من حضورها الطاغي. و ان اكف عن جعل أيامي مجرد تخوم تتردد فيها اصداؤها.
الوصفة في منتهى القسوة. فلا علاج للحب المفرط سوى الاجتثاث و النسيان الكلي.
يتوجب ان انساها. و علي في سبيل ذلك ان اجتهد في الاقتناع ان مغادرتها لم تكن تطورا طبيعيا لمسار حياة، بقدرما كانت مقتا لعالم صار قديما. و ان إخلاصها لأهوائها الشخصية كان كل عقيدتها التي لم و لن تومن بسواها.و اني و غيري و كل الذين احبوها لم يمثلوا لها سوى مجرد هدنة ظرفية كانت طفولة دعوتها في حاجة إليها قبل ان يشتد عودها. و ان الإجهاز على الجميع سيكون اول إعلان اكتمال النمو لتلك المكنة التي لا تود ان تسمع شيئا غير هدير محركاتها.
الفكرة اجدها مهمة. بل هي تجد صداها بسرعة في نفسي على انها الحقيقة. و عقلي يمدني باول حافز في هذا المسعى و يسائلني: لماذا فرطت بسخاء بكل تلك السنين؟ و لماذا اهدرت كل تلك الطاقات و كل ذلك الحجم من الانفعالات، ولهيب الانتظارات، و ذلك الاصرار الجنوني في ان امضي رفقتها إلى آخر المشاوير التي لم نتنتج في النهاية سوى شخصية لا تخلص و لا تدين لغير طموحها الشخصي؟ هل كانت احلامي الشخصية مجرد ترف يمكن التضحية به؟
معذرة الآن رغم اني ادرك انها لا تحفل بالأعذار. و لا تهتم بما تخلفه و راءها. لكن تلك معركتي الاخيرة. حصيلة الدين الهائل الذي وجدت نفسي ملزمة بالوفاء به. و خيار وحيد بين ان اتمكن من ان استوعب الحزن او يستوعبني هو.
كنت دائما اتساءل عن شكل النهاية التي سنصل إليها ذات يوم. كنت اعرف انها ستكون ملأى بالجنون. لكن رغم ذلك فخيالي دائما كان يعجز على ان يجسد ذلك في فكرة او صورة.
أجدها الآن كطفلة جربت الحبو للتو. رغبتها في مد خطاها هي اكبر من آلام السقوط. و الافاق الفسيحة التي تستدعيها كي تجوب رحابها، هو إغراء يجعل الالم بلا جدوى. غير انه بعد ان تمضي الى البعيد، و بعد ان تتعب من الركض، ستلتفت اخيرا خلفها دون ان تقع عيناها على وجوه بعينها تود رؤيتها. و لان الجميع سيكون قد اختفى خلف الافق الذي اراه الان بعدها. لون مزيج من الاخضر الباهت و الرمادي الداكن.
تعبت كثيرا من قبل كي اتعرف عليه. لكنه يطالعني الآن. بل اتنفسه. إنه ينبعث من منعطف ما قريب. و بعد أن اغوص فيه، لن يصير بإمكاني لا ان احبها و لا ان اكرهها.
سأنزل الستار الآن ليكون اختفاء طيفها في البعيد آخر صورة من مسارها تراه عيناي. و ليبدا عالم جديد خال من وجود احدنا فيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى