عشرون مهمَّشا في "المنسيون ينهضون"

في كتابه المثير للأسى "مراهنات الصبا" رسم الراحل الكبير خيري شلبي بقلمه السيال، بورتريهات لعدد من المبدعين الذين وشت بداياتهم بإمكانات إبداعية كبيرة لكن عجلة الحياة دهستهم بقسوة فانتهوا محبطين دون أن يكملوا طرقا بدأوها.
لم يحك الحكاء القدير عن أسباب الإخفاق، وإنما تعامل مع عدم تحقق هؤلاء كما لو كان قدرا، رأى أن رياح الظروف المعاكسة كانت أقوى من قدرة أي منهم على الصمود، فبدا الكتاب كمرثية جماعية لهم، لكن الرثاء لم يكن هدف الشاعر والناقد شعبان يوسف في كتابه "المنسيون ينهضون" الصادر عن دار بتانة، لذا أشار في تقديمه للكتاب إلى تعريف محمد مندور لمفهوم التأريخ الأدبي، الذي يعتبره أحد الأسس التي تنبني عليها ثقافة الأجيال المتعاقبة، وخلص في المقدمة إلى أهمية دراسة الملابسات التاريخية التي أحاطت بالكاتب، كذلك ضرورة البحث في الهامش والمستبعد والمهجور والمغضوب عليه والمضطهد.
وفق هذا الفهم للتأريخ الادبي ودوره يقوم مشروع الناقد المنصف شعبان يوسف الذي بدأه في "لماذا تموت الكاتبات كمدا؟" ثم "ضحايا يوسف إدريس وعصره"، وفيهما هز الكثير من الثوابت الأدبية والثقافية، وها هو يخطو خطوة ثالثة واثقة لترسيخ مشروعه النقدي والتأريخي بكتاب "المنسيون ينهضون" حيث ينفض فيه الغبار عن عشرين قامة إبداعية كبيرة تعرضت للتهميش وطالها النسيان، وهم: محمود دياب وبدر الديب ومحمد كامل حسن المحامي وسيد خميس وأنور المعداوي وعلي شلش ومحمد يوسف وحسن فتح الباب ومحمد مهران السيد ونعمات أحمد فؤاد والطاهر أحمد مكي وعادل كامل وعباس علّام وزهير الشايب وضياء الشرقاوي ووحيد النقاش وعباس خضر ومحمد خليل قاسم وحسين شفيق المصري وصلاح الدين ذهني، كل هؤلاء تم إسقاطهم عمدا وبفعل فاعل غشوم من متون التأريخ الأدبي المعاصر.
الاقصاء أنواع
إن كان خيري شلبي كتب "مراهنات الصبا" عن مواهب مبشرة جافاها التحقق فإن شعبان يوسف في "المنسيون ينهضون" يؤكد أن من تناول سيرهم في كتابه ليسوا من المغمورين بل أنهم أصحاب قضايا حقيقية ومواقف سياسية أو ثقافية، وتم اقصاؤهم تبعا لتلك المواقف.
ذلك قد يوحي بأن التهميش والإقصاء تم كنوع من العقاب استحقه هؤلاء من وجهة نظر السلطة التي قامت بالتهميش سواء كانت ثقافية كموقف العقاد من عباس خضر، وربما كان فؤاد دوارة الناقد الوحيد الذي التفت لقيمة ما يكتب، وربما كان لابتعاده عن الأضواء وعدم إجادته تسويق أعماله دور أساسى فى نسيانه.
يقول شعبان يوسف "كان يكتب فقط دون أن يروج لكتاباته”. وهو لم ينتم لفريق يؤازره إذ كان "يمينيا بين اليساريين، ويساريا بين اليمينيين"، ويذكر الكتاب أن عباس محمود العقاد وإثر معركة مع عباس خضر، طلب من أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرِّسالة أن يُبعد خضر عن الكتابة في المجلة، وهدد بألا يكتب فيها "مادام هذا الولد الهلفوت يكتب فيها" إلا أنّ الزيات لم يستجب له، ولم يقص الهلفوت، لكن غيره فعلوها وتم تهميش واحد "من أبدع مَن كتبوا السيرة الأدبية".
وكذلك الناقد أنور المعداوي، الذي يصفه الكتاب بالناقد الضرورة، والناقد العاصفة، ففي أول عشر سنوات في حياته الأدبية (من 1945 وحتى 1955) أحدث حراكا ثقافيا واسعا وعميقا، ثم تراجع وتوقف حتى رحيله في 1965، فيوسف السباعي كان له بالمرصاد واستغل سلطاته في استبعاد المعداوي لأنه انتقد رواياته، واضطهده لدرجة أنه أصيب فى صيف 1963 بأزمة نفسية، سافر بعدها إلى قريته بكفر الشيخ، حيث "اختفى ما يقرب من تسعة أشهر كاملة، لا يقرأ ولا يتابع أى أحداث ثقافية، ولم ينتبه أحد إلى ذلك الغياب وربما استحسنه آخرون".
ومثلهما المبدع والمترجم زهير الشايب الذي ترجم موسوعة "وصف مصر" ولو توقف إنجازه عندها لكفته، لكنه ترجم كتبا أخرى مهمة، ونشر مجموعات قصصية مميزة، كما أن روايته "السماء تمطر ماء جافا". وهي تجربة شاهد عيان على مرحلتي الوحدة ثم الانفصال بين مصر وسوريا ويعدها شعبان يوسف من عيون الأدب السياسي، هذا الرجل اضطهده أنيس منصور وهمشه في مجلة أكتوبر، وحال دون انضمامه لنقابة الصحفيين، وأصدر قرارا بفصله، وفي نفس أسبوع فصله حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة، بعدها سافر إلى قطر للمشاركة في إصدار جريدة لكن إثر حديث لم تغب عنه الصراحة مع وزير الإعلام القطري يومها تم ترحيله إلى مصر، ولم يكن قد أمضي شهرين في قطر، فأصيب بذبحة صدرية توفي على أثرها في مايو/آيار 1982.
ضحايا عامر
يستعيد الكتاب سيرة محمد كامل حسن المحامي رائد القصة البوليسية وأول من كتب مسلسلات إذاعية، وقد وصفه صلاح عيسى بأنه "الرجل الذي اخترع الدراما الإذاعية"، لسوء حظ هذا الرجل كانت زوجته الثانية الممثلة صديقة مقربة لبرلنتي عبدالحميد، لذا نشأت علاقة ما مع عبدالحكيم عامر، وكان محمد كامل حسن ثرثارا، يتحدث كثيرا عن علاقة عامر وبرلنتي، فأودعوه مستشفي المجانين ولم يغادرها إلا بتدخل من جمال عبدالناصر شخصيا، وبعد خروجه سافر إلى بيروت ثم الكويت التي بقي فيها حتى مات منسيا، مأساة عبثية حدثت لرجل ثرثار، والأكثر عبثا منها حكاية ثاني ضحايا عامر من بين المنسيين، وهو القاص ضياء الشرقاوي، وكان واحدا من أبرز قصاصي جيل الستينات في مصر، فبالصدفة اختار لمجموعته الثانية عنوان "سقوط رجل جاد"، وبالصدفة تزامن خروجها من المطبعة من سلسلة "الكتاب الماسي" مع نشر خبر انتحار المشير عامر، فتقرر عدم طرح الكتاب حتى لا يربط القارىء بين العنوان والحدث الذي تزامن معه.
وأخيرا فقد يقول قائل إن المنسيين يستحقون قدرهم، وأنهم لم يكونوا بقامات الكبار الذين تصدروا المشهد، لكن ذلك قد يصدق على البعض، فمثلا محمود دياب وإن لم تطاول قامته ككاتب مسرحي قامة توفيق الحكيم، إلا أنه بالرغم من ذلك كاتب كبير ومهم، لم ينل حقه، وكذلك الطاهر أحمد مكي وعلى شلش وضياء الشرقاوي ونعمات أحمد فؤاد، وكثيرين ممن تذكرهم الكتاب وممن نسيهم.
وكما يقول شعبان يوسف في ثنايا كتابه "ليس كل تجاهل يجىء عن عمد، لكن المؤسسات التي تنسي، والباحثون الذين ينشغلون بالظواهر السطحية، هم مسئولون بدرجة كبيرة عن كل هذا التهميش والاستبعاد المستمرين دائما في حياتنا".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى