زكريا تامر - ظلمات فوق ظلمات

زكريا.jpg

لمحنا جارنا يطلّ من شرفة بيته في الطابق السابع من المبنى الضخم الذي نسكن في أقبيته، فأغرانا ما نعرفه عنه بأن نلوّح له بأيدينا مطلقين الصيحــات التي تناديه وترجوه أن يهبــــــط من أعلى إلـــى أسفل لأمر مهمّ للغاية لا يحتمل التأجيـل، ولم ندهش عندما سارع إلى تلبية ندائنا، وقلنا له : ماذا تفعل وحدك فوق ؟ ألم تضجر ؟
فقال لنا متسائلاً بمرح : وأنتم ماذا تفعلون تحت ؟
فقلنا له : ما رأيك في أن نتســــكع قليلاً لتــرى ما لم تكن يوماً تتوقـع أن تراه ؟
فقال لنا إنّ ما نقترحه عليه لا يثير فضوله، فلا وجود لشيء لم يره أو لــم يعلــم به، فقلنا له : جرّب ، وسترى أنّنا لا نكذب.
وسرنا معاً في الأرض تلاحقنا الصيحات المستغيثة وتطوقنا .
رأينا رجالاً يحفرون قبوراً لنساء لن يحبّوا غيرهنّ ..
رأينا أروع نساء يتحوّلن دمى من شمع وحرير ..
رأينا مشانق يتدلى منها أطفال وعصافير ..
رأينا ورداً أبيض تحوّله الدماء المسفوكة ورداً أحمر ..
رأينا أنهاراً تستجدي الماء من الرمال ..
رأينا جبالاً شاهقة تستحيل غباراً ..
رأينا أمهات يرمين أطفالهن في صناديق القمامة ..
رأينا أبناء يركلون آباءهم وأمهاتهم ضاحكين ..
رأينا رجالاً يبترون أقدامهم غير آسفين لتحقّ لهم الإقامة بملاجــىء العجزة ..
رأينا رجالاً يُعرضون للبيع ، ويغتمّون حين لا يجدون مشتريّاً ..
رأينا أوثاناً تُعبد وتُطاع ويُلقى بمن يعصى في نار الدنيا ..
رأينا نجوماّ تبتهل إلى الناس المحنيّة رؤوســـهم أن يوّدعوها قبل أن يتواروا ..
رأينا طيوراً نسيت كيف تطير ..
رأينا أفيالاً جنّت وتتوسل إلى أرانب مذعورة أن تؤجل افتراسها ..
رأينا جرذاناً تطارد قططاً تجري بأقصـــى سرعة وتموء مرعوبة باحثة عن حماية ..
رأينا أجمل كلمات تُخنق ..
رأينا صخراً يبكي ..
رأينا قمراً يبزغ على مدن ليس فيها سوى المنتحرين طلباً للنجاة مما هوّ أشدّ هولاً من الموت ..
رأينا مدناً تنتحب طوال الليل، وتمسـح دموعها في النهار مطلقة الضحكات..
رأينا سجناء يكرهون يوم خروجهم من السجون ..
رأينا أمماً تولد في القبور وتموت في القبور ..
رأينا أطفالاً لم يعرفوا الضحك ولا البكاء ..
رأينا شعوباً معصوبة العيون تنتظر لحظة إعدامها، ويتأخر جلادوها في التنفيذ حتّى يتمتعوا برؤية رعبها .
فنظرنا بفضول إلى جارنا العليم بكلّ شيء، فإذا هوّ واجم غاضب كأنّ الذين رآهم يتعذّبون هم أبناؤه العاجز عن نجدتهم، ولم يحاول في أيّ يوم الرجوع إلى حيث كان يقيم، وازداد عدد المعذبين.

من كتاب ( سنضحك ) 1998

Voir la traduction

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى