زكريا تامر ـ المتهم

دخل شرطي بدين إلى المقبرة، ومشى بضع خطى مترددة بين الأضرحة البيض، ثم وقف حائرًا لحظة، صاح بعدها بصوت ممطوط: (عمر الخيام).
لم يجب أحد، فأخرج من جيبه منديلاً أبيض وسخًا، وتمخط في طياته ثم كوّره وأعاده إلى جيبه، وصاح بصوت حانق: (عمر الخيام.. عمر الخيام.. أنت مطلوب للمحاكمة).
فلم يجب أحد، فغادر الشرطي المقبرة عائدًا إلى مخفره، وهناك كتب تقريرًا وصف فيه ما حدث مؤكدًا أن عمر الخيام رفض حضور المحاكمة. وقدّم تقريره إلى رؤسائه الذين تجهمت وجوههم استنكارًا ودهشة، وبادروا إلى إصدار أوامرهم، فانطلق حالاً إلى المقبرة عدد من رجال الشرطة يحملون المعاول والرفوش، فنبشوا قبر عمر الخيام، وأخرجوه من تحت التراب متهدلاً مغبرًا مهترئ اللحم، وحملوه إلى قاعة المحكمة حيث مثل أمام القاضي.
ولقد قال القاضي بلهجة وديعة وقور: (أنت يا عمر الخيام متهم بكتابة شعر يمجد الخمرة ويدعو إلى شربها. وبما أن بلادنا تطمح إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وقوانينها تمنع استيراد البضائع الأجنبية، وبما أن بلادنا تفتقر إلى معامل تصنع الخمرة، فإن شِعرَك يُعَدُّ تحريضًا على المطالبة باستيراد البضائع الأجنبية، يعاقب عليه القانون دون هوادة، فهل تقرّ وتعترف بذنبك? لماذا لا تجيب? تكلم. السكوت مؤذ. حسنًا. سكوتك يدلّ على إنكارك للتهمة. إذن سنحاول الآن أن نعرف إن كنت بريئًا أو مذنبًا، فالعدالة هي غايتنا. أولاً.. من يكتب الشعر لا بد من أن يتقن الكتابة والقراءة. هل تجيد القراءة والكتابة? أنت تنكر?! إذن سنستدعي الشهود).
الشاهد الأول (صاحب مكتبة): (المتهم كان يشتري من مكتبتي كتبًا كثيرة العدد).
القاضي: (أي نوع من الكتب كان يشتري?).
الشاهد الأول: (كان يشتري كتبًا متنوعة الموضوعات، ولكنه كان يفضّل الكتب التي تتحدث عن الحب).
القاضي: (ها ها.. إذن كان يحب الكتب الجنسية! رحمة الله على الأخلاق الحميدة. قل لي: ألم يكن يشتري كتبًا سياسية).
الشاهد الأول: (الكتب السياسية?! أقسم أن يدي لم تمسَّ يومًا كتابًا سياسيا.. وربما كان يشتريها من مكتبة أخرى).
القاضي: (إذن كان يشتري كتبًا?!).
الشاهد الأول: (وكان يشتري أيضًا ورقًا أبيض وأقلامًا).
القاضي: (الله أكبر! لقد زهق الباطل وانتصر الحق. المتهم لو لم يكن يعرف القراءة والكتابة لما أنفق ماله على شراء الكتب والورق والأقلام).
الشاهد الثاني (امرأة هرمة): (كل ما أعرفه هو أن المتهم لا يحب سوى الكلمات. وقد أخبرتني امرأة كانت تحبه أنه اعترف لها أنه يحب الكلمات أكثر من حبه لأجمل امرأة في الدنيا).
القاضي: (يحب الكلمات?! يا له من شذوذ! المواطن الصالح يحب أمه والحكومة فقط).
الشاهد الثالث (صحفي): (اطلعت على أشعار المتهم، فوجدتها تخلو من أي مديح لمحاسن الحكومة).
القاضي: (هذا برهان قاطع على أن المتهم لا يحب الشعب).
الشاهد الرابع (رجل له لحية طويلة): (أقسم بالله أني سمعت بأذني اللتين سيأكلهما الدود بعد موتي، سمعت المتهم يقول: إن الخمرة تهزم الحزن).
القاضي: (هذا كلام يصبح خطيرًا جدّا إذا ثبت للمحكمة أن الحزن متفش بين الناس).
الشاهد الخامس (رئيس مخفر شرطة): (وردتنا تقارير كثيرة حول النشاط الهدام الذي يقوم به المدعو الحزن، ولكننا لم نتمكن حتى الآن من اعتقاله، ولا يزال البحث عنه جاريا).
الشاهد السابع (سجين): (الحزن أرغمني على شتم الحكومة).
الشاهد الثامن (سجين): (الحزن هو الذي دفعني إلى الاشتراك في تظاهرة).
الشاهد التاسع (سجين): (الحزن هو الذي حرّضني على أن أحاول الهرب من السجن).
الشاهد العاشر (سجين): (الحزن وحده جعلني أكره رجال الشرطة).
القاضي: (لقد أثبتت إفادات الشهود أن أشعار عمر الخيام ليست إلاّ دعاية صريحة للخمرة، ودعوة سافرة إلى استيراد البضائع الأجنبية، وتنفيذًا لمخطط مشبوه يهدف إلى إثارة الشغب. كما أن إفادات الشهود أثبتت أيضًا تعاون عمر الخيام مع الحزن الذي تبين للمحكمة أنه ليس سوى جاسوس من جواسيس الطابور الخامس، يستخدمه أعداؤنا من أجل تعكير الأمن وبثّ الاضطراب).
وسكت القاضي هنيهة متنهدًا بارتياح وغبطة، ثم استأنف كلامه، فحكم على عمر الخيام بمنعه من كتابة الأشعار منعًا باتّا.
وتولى رجال الشرطة نقل عمر الخيام إلى المقبرة، وأعادوه إلى حفرته، وأهالوا فوقه التراب بعد أن أتلفوا ما يملك من أوراق وأقلام. غير أن الحزن ظل طليقًا يتابع نشاطه الهدام .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى