أنس مصطفى - التَّفتِيشُ الأَخِير

مِن هُنا التَّرقُّبُ الأبديُّ لمطَالعِ سِرِّها، مِن هُنا في وسعِ البَصَرِ الممتدِّ بالبصِيرَةِ أنْ يرَى تُخُومَهَا المنتظَرَة طَوَالَ أزمنةٍ وقَدَرْ، طَوَالَ عُمْرٍ مُهْدَرٍ ودُرُوبْ.

التَّفتيشُ الأخِيرْ،القِرْبَةْ، الكُبْري العَتيِقْ، النَّهرُ هادئٌ وَعَميقْ، كما أحَبَّ دائماً أنْ يكونْ، السُّهُوبُ في بَداءتِهَا، المنحنياتُ الخضرَاءْ، أعَالِي الرُّوحْ، آخِرُ العَسَاكِرُ في السِّكةِ يتناولونَ جرائدَ الصَّباحِ من كماسِرَةٍ ومُسَافِرينْ، الشَّاحِنَاتُ تحتَ رواكيبِ قيلولتِها تحتسي قَهوةَ الطَّرِيقْ، تَلُوحُ بدَاياَتُ المدينَةِ في الأُفُقِ المُمتَدّ، الأُفُقِ الطيِّبِ الرَّحِيمْ، هُناكَ شَرقَاً سَتلَوحُ غافِرَةً ورحيمةْ، كما كانت دائماً، وكما ستكونُ أبداً، تغفِرُ النِّسْيَانْ، الجُّروحَ والهَدْر، كنتُ أُحْصِي الأيَّامَ بِهَا، أُسمِّي ببيوتِهَا الغُربةْ، أقطعُ نحوها الشَّوارعَ والنَّاسْ؛ مَحَطَّاتِ السِكَّةْ؛ الفقدْ؛ والأيَّامَ الغَادِرَةْ، انتظرتهَا يا سيِّدي منذُ آمادْ، منذُ الأَزَلْ، انتظرتها بكلِّ أحوَاليْ، انتظرتُها تأخذنِي إليكْ، انتظرتُكَ تأخذني إليها، تمسحُ أزمَاناً وغُربَةْ،

ولا زِلتُ مُنتظِراً،

فمتى المواقيتُ إذنْ؟

مَوَاقيتُها..
مَوَاقيتُكْ..
..
..


في زمانٍ ما سآتي إليها، عَارِياً من النَّاسْ، مسروقاً بالحُزنِ والأَسَفْ، ستأتِي المدينَةُ صَافِيةً وطيِّبةْ، تأتي حُلوةً وبَشُوشَةْ، في الخامِسَةْ، كما كانت دَائِماً، أوقاتُ إيابِنَا المعتادَةْ، بعد قليلْ، بعد قليلٍ ننعَطِفُ شرقاً، لحظةُ الحُلمْ، لحظةُ القلبِ في تمامِ نورِهْ، حينها تُومِضُ الرُّوحْ، تنمو البيوتُ رويداً رويداً على جَانبي الطَّريقْ، مَغمُورَةٌ بالشَّجَرِوالنَّاسْ، بالأُغنياتِ القَدِيمَةْ، بالصَّباحَاتِ والحَكَايَا.


شرقُ النَّهرْ، السِّكَّة حَدِيدْ، ينبتُ أخضرُ جميلٌ بطولِ الغُربةْ، ينزِلُ النُّورُ قريباً إلى سماءِ المدينةْ، قريباً كما كانَ في أزمنةٍ سَافرَتْ، يهبِطُ العِبءُ كلُّهُ، كأنَّهُ محضُ حُلمٍ مَرّ، وتُطِلُّ حياةٌ بأكملِها، رَقرَاقةٌ وعَاليَةْ.
..
..


منذُ العبورِ لنوَاحِي الفَاوْ، منذُ قهَاوِيها بِمُحاذاةِ السِّكَّةْ، منذُ جِبَالِها الخضرَاءْ، منذُ سُمرةِ النَّاسِ والقطَاطِي، تتغيَّرُ الأكوانُ رُويدَاً رُويدَاً، تغدو المَلامِحُ أكثر دقَّةٍ، تلقائيةً ونحِيلَةْ، لَونُ الأرضِ غَامِقٌ مثل حنانْ، نقطعُ المسافَةَ والسُّهوبْ، نعبرُ النَّهرَ بفرحٍ وأملْ، الرَّهَدْ، حَريرَةْ، الشُّوَكْ، كلَّما عُدتُ هنا أيقنتُ أكثرْ، الأيَّامُ مُبكِّرةٌ مثلَ طُيورِ الجنَّةْ، مثلَ أفنِيةِ مَدَارسَ ريفيَّةْ، مثل سنابلْ، أُلامِسُ فرحةَ أنَّ الصَّباحَ لا يزالُ قيدَ شوارعهَا، لطيفَاً وآسراً مثلما كانْ، هنا لكلِّ لحظةٍ مذاقها المفرَدْ، حضورُها المكتملْ، لها مُطلَقُ ضَحكَتها وَعمرهَا الأخَّاذْ..
..
..


السَّوَاقِي، أويْتِلا،
للمَدِينةِ رائِحةُ ليمونٍ وبَخُورْ، ولها بيوتٌ طيَّبةْ.
كلَّما أخَّرَتْنِي دروبٌ أعَادَنِي الحَنِينُ إليها، للمدينةِ ما لا يمَّحي أبداً، لها رُوحُهَا البيضَاءْ، لها ما هُوَ باقٍ كوَمضٍ في نواحي العُمرِ الدَّاكِنةْ.

نعبرُ النَّهرْ، السّورِيبَةْ، شوارِعُ الزَّلطِ العتِيقَةْ، نَفْسُ الدَّكاكينِ إلا قليلا، البيوتُ الحكوميَّةْ، السَّحْنَاتُ الأليفةْ، الوُدعاءْ، كلُّهم أدركُوا السِّرَ فآثروا البَقاءْ؛

وحدي تَأخَّرتْ؛
وحدي تَأخَّرتُ يا سيِّديْ..
..
..


الحَافِلاتُ في مَوقِفِ المدِينَةْ، صغيرةٌ وَحَنُونةْ، الملامحُ النَّحيلةُ بصمتها الأخَّاذِ تمنحُ الأرجَاءَ سُكُونَاً وتأمُّلْ، أكشاكُ البارِدْ، الأغنياتُ البجاويَّةْ، حَافِلاتُ الختميَّةْ، تكاسي البِيْجُو الزَّرقَاءْ، القَهوة ُكما خُلقتْ لأوَّلِ مرَّةْ، التَّاكا آخِرُ السَّفرْ، تحتضِنُ البيوتَ كأُمّ، تمنحُ النَّظرةَ أمَانَها، تَدُلُّكَ أينما الغَيابْ، الخطواتُ طَاعِمَةْ، أتذوَّقُ المدينةَ شَارِعاً شَارِعاً، ملمحَاً إثرَ آخرْ، المحطَّةُ الأولى، الأسْكِلَةْ، المُربَّعاتْ، الكنِيسةْ، السِّلكُ الشَّائِكُ للحاميَةْ، العَسَاكِرُ على عَجَلاتِهم بشرائطِهَا الملوَّنةْ، بِأخضرِ سُترَاتِهمِ الباهِتْ، لهم أُلْفةٌ هناكْ، مدرسةُ المزادْ، فوَّال أبو خالدْ، الفَسَحَةْ، أشجارُ النِّيمِ اليانِعةْ، دكَّان فَكِي، مَسْطَبَاتُ الغُرُوبْ، الغُرفةُ الحميمَةْ، شَجَرُ القِريبْ، حبوبة مَريَم تُعِدُّ قهوتَها في أوَّلِ النَّهَارْ، كنَّا صغَاراً نترقَّبُ فَناجِينَها، تطلبُ انتظارَنا، تمنحنا البَرَكَةْ، الفِنجانُ الثَّالِثُ وحدهُ يناسبُ الصِّغارْ، قهوتُها لا تشبهُ القَهوةَ هُنا؛ قَهوَتُهَا حنونةٌ وطيِّبةْ، يَؤُمُّها الأطفالُ والمَلائِكةْ..
..
..


المغارِبُ تبدأُ من هُنَاكْ، من الختميَّةِ القَدِيمةْ، الجبَل يَكْسُوهُ لَونٌ غَامِقْ، تَلوحُ البيوتُ في السَّفْحِ منثورَةً كفَوانيسٍ في الأُفُقِ الغَارِبْ، ألوانُها البُرتقاليَّةُ ممزوجةٌ بالسَّنواتِ والمطَرْ، شجرُ ليَمونها، عَبَقُ لُطفِهَا، تمتزجُ عوالمُ المُلْكِ بالملكوتْ، يتصاعدُ دُخَانُ الشَّايِ باللَّبنْ، وقتُ المغَارِبْ، الرَّتَايِنُ في دكَاكينِ الهدندوةْ، قُرْبَ رَوَاكِيْبِهِم الصَّغيرَةْ، الرَّباباتْ، رائِحَةُ الحِنَّاءْ، رَملُ الشَّوارِع البَيضَاءَ يتَذكَّرُ الخطواتْ، يعرِفُها، يعودُ الناسُ إلى بيوتهم تامِّينَ كَمَا غَادَرُوها، لا ينقصُ الإنسانُ هُنَاكْ، مبكِّرَاً إلى حيشَانِنَا مثل كُلِّ الطُّيُورْ..
..
..


ليليَّةُ الخميسْ، تُنصِتُ الدُّنيا لعذوبةِ الصَّوْتْ، يبدأُ من السَّفحِ هادئٌ ورقيقْ، ثمَّ يغمرُ المدينةَ كُلَّها بأمانٍ وعُذوبةْ.
يُحرَّكُ الهواءُ الرَّاياتِ القديمةَ بأدَبٍ ولُطفْ، يتجلَّى سُكُونٌ وإدراكٌ في الملامحِ الُمنصِتَةْ، تعلُو الأكوانُ والنَّاسْ، الهواءُ صَافٍ ورقيقْ، ثمَّة نورٌ وحقِيقَةْ، هنا بقعةٌ رحيمةٌ في الدُّنيا لا تزالْ، هنا أرضٌ مستورةٌ من كثافةِ الدُّنيا..

هُنَا..
يطيبُ بها كلُّ الوجودِ ويتلألأُ.



سَنَواتٌ قَدِيمةٌ تتفتَّقُ من شِقُوقِ العمرْ، كانَ الوَقتُ قُبَيْلَ غُربَةْ، العمرُ في بِدَاياتهِ النَّاصِعَةْ، قبلَ رَحيلٍ وضَنَى، كلَّمَا عَاوَدَتنيِ المدينةُ غَمَرَتْنِي رائِحةُ مطَرْ،
دُخَانُ قَهوةْ،
أُغنياتٌ فجريَّةْ،
ونَوَاحٍ بيضاءْ..



شَيْ لله..
..
..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى