رمضان الصباغ - مضمون العمل الفنى..

يقول ارنست فيشر

" ولنناقش أولا مفهوم المضمون فى الأدب والفن، فهل يشوب هذا التعبير شئ من الغموض؟ هل يقصد به فكرة العمل الفنى أو موضوعه؟ أو يقصد به معناه ورسالته؟
ولكن ربما كان تعبير ( رسالة) يوحى بنوع من الدعاية، وينبغى أن نكتفى بالحديث عن معنى العمل الفنى، ذلك المعنى الذى لا يظهر فى تفاصيل العمل الفنى، بل يظهر فى مجموعه "(1).
فالمحتوى أو المضمون هو ما يقدمه العمل الفنى من معنى، أو يريد أن يوصّله من أفكار. وهذا المحتوى هو بالضرورة تاريخى اجتماعى، يعكس الظروف الاجتماعية والسياسية وغيرها فى ظرف تاريخى محدّد، وهذا الانعكاس ليس انعكاساً ميكانيكيا، بل هو بمثابة علاقه جدلية بين الواقع المعيـش والعمل الفنى، ويحتاج إلى وسائط كثيرة حتى تتضح الصلة بين الفن والواقع، فالعلاقة ليست علاقة مباشرة أبدا.
والجدير بالذكر أن محتوى أى عمل فنى يجب أن يتم تحليله بطريقة منهجية لكشف جميع جوانبه، لأنه متعدد القيمة، ثرى. وله جوانبه الاجتماعية والأيديولوجية والبيولوجية والسيكولوجية، هذا إلى جانب أساسه الجمالى.
وقد جعل "جورج لوكاش" الإنسان مركز الفن وجوهره، بما يعنى أن المحتوى المركزى Central Content للفن هو الإنسان، وعندما يتحدث "لوكاش" عن الإنسان فإنه يميل إلى معنى الجنس البشرى Man Kind، أو الإنسان كفـرد من الإنسانيـة والمجتمع والجمهور.. الخ لأنه كان يعتقد - أى لوكاش - أن وجود الإنسان لا يمكن فصله أو تمييزه عن بيئته الاجتماعية والتاريخية. بصفة عامة، فإن محتوى الفن هو الانسان كحيوان اجتماعى Man As Social Animal. فالهدف، والسؤال الأساسى فى العمل الفنى هو: ما الانسان What Is Man"(2).
فإذا كان الإنسان هو مركز الفن وجوهره ومحتواه الرئيسى، فإن المحتوى يتحدّد بتعبيره عن حياة الناس، وقيمهم وآمالهم، والدفاع عن حريتهم، وإضفاء الطابع الجمالى على حياتهم.
وتأكيداً لأهمية المحتوى أو المضمون فإننا نجد "هيجل" يقول "لكى تمارس الموسيقى التأثير الذى بوسعها أن تمارسه. فإن محض التعاقب المجرد لا يكفى. إذْ لابد أيضا من المضمون، أى أن الموسيقى لابد لها أن توقـظ فى النفس شعوراً حياّ، أن تكون هى نفسها عين هذا المضمون، تعبيره الصوتى"(3).
فالموسيقى - وهى الفن الذى يتحوّل فيه الشكل إلى مضمون، أو يتضـافر المضمون مع الشكل إلى أبعد حد، والذى يكون البحث عن مضمون له من الصعوبة بمكان. يرى "هيجل" – ردّا على أنصار الشكل الغلاة – أنه لابد أن نكون الموسيقى، لا مجرد أصوات منسجمة متوافقة وجميلة، بل يجب أن توقظ فى النفس شعوراً حيّا، أى أن تعبر عن انفعالات ومشاعر إنسانية.
ووفقًا لرؤية "هيجل" المثالية، فإننا نراه يضع شروطا ثلاثة، يجدها ضرورية لكى يتحقق الفن على نحو سليم - على حد تعبيره - وهى:
"الشرط الأول: أن يكون المضمون قابلاً للتعبير عنه بواسطة الفن، وبدون ذلك فإننا نحصل على فن ردئ….
الشرط الثانى: هو أن مضمون الفن يجب ألا يكون فيه شئ مجرد، ولا يجب فقط أن يكون هذا المضمون محسوساً وعينيا، فى مقابل ما يشارك فى الروح والفكرة، بل أيضا فى مقابل المجرد والبسيط فى ذاته. ذلك لأن كل ما يوجد فى الروح وفى الطبيعة هو عينى، وعلى الرغم من كل عمومية فإنه ذاتى وجزئى.
الشرط الثالث: أنه من أجل أن يناظر شكل محسوس مضموناً حقيقياً، وبالتالى عينيا فلا بد أن يكون هذا الشكل فرديا وعينيا فى جوهره. وذلك لأن الصفة العينية لكلا جانبى الفن: المضمون والتصوير. هى التى تكون نقطة الالتقاء بهما ونقطة التناظر"(4).
وهكذا رأى "هيجل" ضرورة أن يكون "مضمون" الفن مما يمكن التعبير عنه، ذلك أنه حين يكون المضمون محدودا أو غير ذى أهمية فى ذاتـه فإنه لن يجد التعبير المناسب له. أو إذا أردنا أن نقف صورة معينة على مضمون غير صالح للتعبير العينى الخارجى فإن ذلك يؤدّى إلى فساد الفن. كما اشترط أيضا أن يكون المضمون محسوساً وعينيا، وذلك على أساس أن الفن ذاتى وجزئى رغم عموميته أو شموله.
كما اشترط أيضا التواؤم بين المضمون العينى المحسوس، وبين الشكل الذى يوجد فيه الفن، كأن يكون أيضا شكلا عينيا ومحسوساً.
وإذا كان الفن جزئيا وذاتيا، فإن مضمونه أيضا يجب أن يكون (عاكسا) للحياة عكساً تأليفيا. أى يشمل جوانب الواقع وتأثيرها فى عقل الإنسان وعواطفه. والفن مشروط بحاجات الممارسة الاجتماعية(5).
المحتوى الأيدلوجى
ومضمون الفن ليس مجرد إسقاط الفنان لعواطفه وعالمه الروحى على الموضـوع، بل الفن يعطى معرفة بالموضوع صحيحة، ومعيشة. وحين تصبح الطبيعة بالنسبة للفنان موضوع نسخ أعمى، وحين ( تذوب) فى نزوات العـواطف الذاتية يبدأ الفن فى الانحطاط. فالموضوع الرئيسى للفن بكل أنـواعه وأشكاله هو الإنسان فى علاقاته وصلاته بالواقع. وبقدر ما تكون هذه العلاقات والصلات متنوعة، يدخل فى دائرة الفن كل تنوع العالم المادى. فالفن يعطينا لوحة كاملة للحياة الاجتماعية. إذْ يرينا الإنسان فى انتاجه وفى حياتـه اليومية، فى معاناته الصحيحة وتصرفاته الاجتماعية كما يرسم الطبيعة التى تحيط به(6).
ان المضمون هنا - ومن هذا المننظور الماركسى - وثيق الصلة بالواقع الاجتماعى، ومعاناة الإنسان اليومية. وهو مضمون اجتماعى، لافردى، أى لا يخضع لنزوات الفرد الذاتية، وإلا كان الانحطاط والتدهور مصيره.
ولقد كتب بليخا نوف
" لقد قلت بانه لا يوجد إنتاج فنى يخلو تماما من الأفكار Ideas وأضفتُ بأنـه ليس فى وسع كل فكرة أن تؤسس عملاً فنيا. فإن ما يساعد على تقارب البشر هو فحسب القادر على الإلهام الحقيقى للفنان. وأن الحدود الممكنة لمثل هذا التقارب The Possible-limit-s of Such Intercourse لا تتحدد من جهـة الفنان، بل بمستوى الثقافة التى وصلت إليه المجتمعات التى ينتمى إليها. But by The Level of Culture Attained By The Social Society To Which He Belonge. ولكن بالنسبة للمجتمعات المنقسمة إلى طبقات فإن القضية تعتمد أيضا على العلاقات المتبادلة بين هذه الطبقات ومرحلة التطور التى بلغتها كل منها فى فترة معينة"(7).
فالمضمون هو القاسم المشترك لجميع أنواع الإنتاج الفنى، وإن كان الفن لا يقوم على الفكرة فحسب أبدا، أى أن المضمون ليس وحده هو الذى ينهـض على أساسه الفن. وإن ما يحدد هذا المضمون هو مستوى الثقافة التى وصلت إليها المجتمعات التى ينتمى إليها الفنان، فالمضمون اجتماعى وتاريخى. كما أن المضمون يعتبر حاملا للأيدولوجيا. ولذا فإن كل "سلطة سياسية تفضل دائما النظرة النفعية للفن Utilitarian View Of Art. وهذا مفهوم لأن من مصلحتها توجيه سائر الأيديولوجيات نحو خدمة القضية التى تراها فى خدمتها(8).
ونظراً لأن المضمون الواضح يكون فى متناول الكثيرين، لذا فإن الفن - اعتماداً على مضمونه قد استخدم كأداة فى يد الساسة ورجال الدين واعتبروه موصلاً للأفكار أو حاملاً للأفكار، وقد أدى ذلك فى أحيان كثيرة إلى ابتذال الفن وتسطيحه وتحوّله إلى مجرد أداة، وإلى تذويب الفوارق بين المبدعين فى الفن وبين غيرهم. ولكن الفهم الصحيح للتناقضات التى تبرز فى مضمون الأعمال الفنية "يقتضى منا أن نفرّق بين شكلين من أشكال التفكير: الشكل المنطقى والشكل التصويرى. وهما شكلان مترابطان ترابطا وثيقا ودائما. والشكل الأول هو الغالب لدى الفلاسفة والعلماء، أما الفنانون فيغلب عندهم الشكل الثانى. يقول غوسيف: "إن نظرة الفنان إلى العالم لا تقتصر على الآراء النظرية، بل تتعدى ذلك، بحكم خصوصية تفكيره، لتشمل منظومة أو جملة تصوراته الصورية، ولذلك فهى تتجلّى فى الأعمال التى يبدعها. وبما أن التفكير التصويرى هو الغالب لدى الفنان، فإن نظرته إلى العالم تتجلى كأكمل ما يكون التجلّى، وبأكبر قدر من الفعالية فى إبداعه الفنى"(9).
إن نظرة الفنان إلى العالم تختلف عن نظرة الفيلسوف، فهى إلى جانب رؤيته التى تعتمد على منظومة الأفكار التى يعتنقها، تشمل أيضا تصوراته الصورية، ومشاعره، وخصوصية علاقته بالعالم الواقعى.
ولكن هذا لا ينفى العلاقة الوثيقة بين الفن والأيديولوجيا، "فانفعالية الفن تنبثق من توجهه الأيديولوجى"(10). كما أن "مضمون الفن لا ينطوى على عكس لطابعية الحياة الاجتماعية فحسب، بل وعلى فهم ايديولوجى وتقويم انفعالى، لها. وهذه العناصر الفعالة فى مضمون الفن المتولدة من تناقضات الحياة الاجتماعية والمحفورة بالمثل الاجتماعية العليا التى يحملها الفنان هى التى تشكل توجّه الأعمال الفنية الاجتماعى ونزعتها الأيديولوجية"(11). فكل فن يحتوى على عناصر أيديولوجية،" أفكار صاحب العمل الفنى، أفكار زمنه، وطبقته (الممزوجة فى أغلب الأحيان، بأفكار أزمنة أخرى وطبقات أخرى وأفكار أفراد آخرين). ويدخل فى الايديولوجيا بنسبة قابلة للاختلاف ( وهى نسبة يفصل بين عنصريها مبلغ ما توصّل إليه العلم فى السابق من نموّ) عنصر مزدوج: عنصر المعرفة وعنصر الوهم أو السحر: لقد امتزجت تفسيرات الحياة والطبيعة بالمعارف الحقيقية ( التى هى نفسها نسبية) وذلك بنسب مختلفة تبعا للظروف، والطبقة الاجتماعية وطابع هذه الطبقة وتطورها"(12).
وهنا يلوح سؤال: ما هى العلاقة بين مضمون الفن وبين المعرفة؟
وإذا كان صحيحا - على حد تعبير "هنرى لوفافر"(13) أنه تدخل فى الفن منذ العصور القديمة أوهام وأساطير، وتدخل فيه المعارف كذلك، فما هو العنصر المخصّب فى الفن، أهو الوهم الأيديولوجى أم المعرفة؟.
لقد كانت الرومانتيكية ترى أن الفن يرتبط بالحلم، وأنها ترى أن المصوّر يستكشف عالما صوريا، و الموسيقىّ يرتاد عالما من الموسيقى.. وأن هذه العوالم تتباين بعضها عن بعض، وهى مكونة خارج المعرفة. والعمل الفنى لأنه يتحرك فى عالم مستقل قائم بذاته فهو يستعصى على التحليل وعلى المعرفة. فالنقد والتاريخ والنظرية لا تستطيع بلوغه إلا من الخارج، محاولة وصف تراكيبه على نحو تقريبى، غير كامل. وهذه الرؤية مناقضة للرؤية الكلاسيكية. فقد كان التعريف الأرسطى القائل "بأن الفن محاكاة "يرد الفن إلى المعرفة. وكان "هيجل" حين نسب. إلى الفن وظيفة محددة - وهى الوصول إلى الفكرة العليا - قد وضع الفن على صعيد المعرفة، وإن كانت أدنى من الفلسفة"(14).
إن الفن هو بمثابة بناء فوقى، كالدين والفلسفة واللوائح .. ولكنه يتميز عنها بخصائص يمكن تحديدها. ففى "الفن يختلط اللهو، والهوى والتصوير الذى يستخدم التخيّلات تارة ليخرج من الواقع، وتارة ليدخل ثانية إلى الواقع دخولا عميقا. وهو بمعنى من المعانى له أساس عميق من المعرفة والأيديولوجيا، بما أنه يجهد ليلتقط محتوى الحياة الكامل، فى كل غنـاه، فى ظرف معين، بما فيه المعرفة والوعى الواضحان، وبما فيه أيضا ما يظل، عهدئذ فى حالة اللاوعى"(15).
إن ارتباط العمل الفنى والفنان بالواقع. ووجوده كفنان منخرط فى الحياة هو الذى يجعله يرتبط بالمعرفة والأيدولوجيا فى عصره، ولكن الفن - فى مضمونه - ليس كما يرى "ديدرو" معرفة مشوشة واختلاط الفن بالعناصر الأيديولوجية (لطبقة مقضى عليها بالانهيار) هو ما يعبر عنه بالجانب العابر والمتخلف فى مضمون. ولذا يجب التمييز بين العناصر الأيديولوجية المختلفة فى مضمون الفن، وبين ما يعكسه هذا الفن - فى مضمونه - من عناصر تعبرّ تعبيراً عميقا عما يجول فى عصره.
" والفن يتضمن فى آن واحد ثروات أقل أو اكثر مما تتضمنه المعرفة. ولكن بقدر ما يتطلب صياغة واعية للمحتوى، يتطلب أفكاراً، وتصوّرات ومعارف، وأيديولوجيا، والفن بقدر ما يعبر عن الشئ الذى مازالت المعرفة عاجزة عن بلوغه يختلف عن المعرفة، بل انه يستطيع من هذه الزاوية أن يتخطى المعرفة.. الفن لا يعبر عن المكتمل فحسب، إنه يستطيـع الاقتراح ( الأشخاص - النماذج - القدرات - الأمثلة) وهكذا يرتبط الفن إذن بالمعرفة"(16).
إن مصدر مضمون الفن هو نظرة الفنان التأملية، الأيديولوجية إلى العالم بصفتها وعيا انفعاليا، موجها اجتماعيا ومكونا فى غمرة الممارسة الحيّة للعـلاقات الاجتمـاعية. أما بالنسبة للمعتقدات والمفاهيم فكل ما فى وسعها أن تفعلـه هو أن تكون مصدراً لمضمون الفن، أو تكون حافزاً للإبداع الفنى. فالفن إطار آخر غير الأطر النظرية الفكرية، وإن كان ليس بمعزل عنها تماما. فهو يتأثر بها، وتلعب هذه الأطردوراً بارزاً فى التأثير على الفنــان، والعلاقة عادة ما تكـون بين هذه الأطر النظرية والفن علاقة غير مباشرة. وإذا كان للمضمون الأيديولوجى للفن أهمية كبرى، فإن "خصوصية مضمونه هذه تنبثق من خصوصيته الإبداعية التى تعبر عن نفسها بإنشاء الصور الفنية"(17).


المحتوى البيولوجى
يتساءل "لوفافر": كيف يتعين هذا المحتوى؟
ويجيب: ان المحرك الجنسى، بخاصة، يحمل إلى كثير من الآثار الفنية عنصراً حيّاً لاغنى لها عنه. فنحن نتأمل فى التمثال، ونقرأ الـرواية..بكائننا كله (وليس بالروح كلها كما يقول أفلاطون). إن الأثر الفنى، وهو الشئ الحسـاس المشرع للحساسية ينطوى على مستلزمات حتمية معقدة طبيعية، من فيزيولوجية وبيولوجية، وهى تنبعث من طبيعة الكائن الحىّ الطبيعية وتخاطب الطبيعة الحيّة فى الإنسان الذى يتأمل فيها. ومن هنا كان هذا التأمل، فى تلك المرحلة اكتشـافا فعليا ناشطا... إن نظرتى تستمد من الرغبة اكتمالها وامتلاءها. وهذا الشكل الفنى العارى يتلقى من الرغبة حضوره القوى، ولكن الدفعة الشهوية الحسّية تلقّت هنا معنى عاما. أو دلالة كونية شاملة. فالحّس الشهوى الذى عُمّق، وركّزت وضُوعفت قوته، وفى الوقت نفسـه صفّى من بعض العناصر أو المناسبات المباشرة، هذا الحّس الشهوى لا يزول فى الفن. فهو يندمج بالمحتوى اندماجاً عضوياً حيّا. وبالطريقة التى يتخـذ فيها هذا المحتوى شكله. وهو يحمل إلى الأثر الفنى الحياة التى ما كان ببالغها أبدا إلا إذا خاطب الكائن البشرى بكاملة(18).
ولكن ليس معنى ذلك أن الحسّ الجنسى يؤلف الحتمية الوحيدة العفوية المباشرة (البيولوجية) للمحتوى - كما يرى لوفافر(19) - بل إن شعور القوة والمقدرة والشفقة على المعذبين والمتألمين، أو الخشية من فظاعة الموت، تشكل أيضا جزءاً من هذا المحتوى. وهى موجودة شأنها شأن الغريزة الجنسية بين المعطيات البدائية الأولية للحياة العفوية المباشرة.
ويرى "لوفافر" أيضا أن التجريد ِAbstraction فى الفن صادر عن قولنا إن الفنان يرفض النداء المباشر أو غير المباشر للطاقات الجسدية الشهوية والحياتية. ويضرب مثلا للوحة تمثل شكلا نسائياً، مع تحريف وانحراف فى الخطوط مقصودين. إن هذا الانحراف يمكن أن يكون له معنى شكلى صورى. ولكنه - من وجهة نظره - على القماشة يحدّ من انطلاق الإثارة الحيوية أو يخيبها. ان عينى تتعرف على المرأة، وتفكيرى أيضا. ولكن الشكل يظل جامدا بارداً، جافا، خاليا من الحياة، حتى ولو كانت النسب والمقاييس على القماشة تتمتع بمعنى صورى(20).
إن جمال الجسد الإنسانى، وتصويره بما فيه من حيوية وتألق، وجعله يخاطب الإنسان بأكمله، عقله وجسده، يستثير جوانب من المتعة الجمالية أكبر بكثير من الوقوف على مخاطبة حاسة واحدة أو جانب واحد من جوانب الإنسان. ولكن النقد الذى يوجهه "لوفافر" للتجريد من هذا المنطلق ليس إلا نقداً محدوداً. ذلك لأن التجريد هو محاولة لتقديم المعنى أو الفكرة فى أكثر حالاتها صفاء، والطريقة التى تقدم بها قد تكون مقصودة لذاتها، لكى تحرف التفكير عن مسارات ليست مقصودة فى العمل الفنى.
ولقد كانت الحاجة الجنسية - ليس فى أفقها الضيق - ولكن فى ارتباطها بالحب والعواطف الإنسانية، هى التى قدمت العديد من الموضوعات لأثار فنية عظيمـة. فالعبرة ليست بالإثارة أو عدمها وإنما دمج هذا المضمون البيولوجى فى إطار العمل الفنى فى توافق وانسجام مع كافة العناصر الأخرى.
يقول برتيلمى
"إن من شأن الكبت الذى تمارسه رقابة الضمير على اللاّشعور أن يدفع بالنشاط العزيزى إلى السير قدما.. ليتخذ صوره فى الأحلام، ويستطيع هـذا النشاط الغـريزى - كما يقول "فرويد" - إن صح هذا التعبير - أن يهرب من أعلى ليتحول إلى نشاط مرتفع يعبر عن نفسه تمثيليا فى العلم والدين والأخلاق، وبوجه خاص، فى الفن. هذا الهروب هو ما يطلق عليه "فـرويد" تعبير إعلاء أو رفع. وما دامت الغريزة التى نتحدث عنها هى شهوة جنسية قبل أن تكون شيئا آخر - هكذا يرى فرويد أيضا - فإن الفن يصبح إعلاء للشهوة الجنسية للوصول بها إلى درجة السمو. وهكذا فإن الإثارات الجنسية المفرطة التى تنبع من مختلف مصادر الحياة الجنسية تجد لنفسها تحوّلا واستخداماً فى مجالات أخرى.. وتصبح هذه الإثارات مصدرا لإنتاج الفن"(21).
ان المحتوى الجنسى للعمل الفنى ليس غريبا عن الفن بل هو جزء جوهرى منه، وذلك على اعتبار أن الإنسان هو الموضوع الأساسى والهام للفن، فالجنس ليس عنصراً ضئيل الأهمية بالنسبة له، وإن كان ليس من الضرورى أن يكون هو الوحيد.
لقد ذكر "أفلاطون" فى "المأدبة شارحاً أن الحب الذى ينبع من الجمال، والذى ينتج من الأعمال الفنية لا يشبه أنواع الحب العادية التى تخضع للناحية الجسدية"(22). وقد أثر هذا الميراث الثقيل من "أفلاطون" إلى الآن مروراً بالعصـور الوسطى، وكانت سطوة آراء "أفلاطون" الأخلاقية فى الفن والأكثر ذيوعاً كبيرة بالنسبة لبعض آرائه التى جاءت عرضاً فى بعض محاوراته - فايدروس أو المأدبة. وقد ظل النظر- ومازال إلى حد بعيد- إلى المحتوى البيولوجى، وخاصة ( الجنس ) يتخذ نفس الاطار الأفلاطونى الأخلاقى. "فقد بقيت سياسة أفلاطون النموذج المحتذى لكل سياسة عقلية، لأن الهيمنة متطابقة للمرة الأولى فى هذا العمل مع الفكر(23). ويبدو أن الانعتاق من الأفلاطونية إحتاج إلى جهود كبيرة.


المحتوى الانفعالى أو العاطفى
يتخذ الأدب والفن من مشاعر الإنسان الطبيعى وغرائزه وعواطفه مادة له. وان "الفن، والشعر بوجه خاص - يمارس على المشاعر أثرا، يعتبر ظـاهرة معترفاً بها منذ زمن طويل، ويسمى هذا الأثر منذ "أرسطو"، تنقية، أو تطهيراً من العواطف الجارفة - (كاثارزيس)" (24).
ولا يقتصر المحتوى الانفعالى أو العاطفى للأعمال الفنّية - كما يرى "هّنرى لوفافر" على السلوك الجنسى، أو على ما ينبع من الحسّ الجنسى، ومن تحمـس الفعالية والحواس ومن الرعب إزاء الموت والعذاب، بل إن هذا المحتوى الانفعالى والعاطفى أكثر اتّساعاً، ومن جملة أجزائه المكونة مالا يحصى من ألون الحنان وملاحنه، وجميع أجواء الأسى والكآبة والذكرى والأمل والشجاعة(25).
و"المحتوى الانفعالى أو العاطفى يمكن أن يحللّ، يعنى يمكن يعرّف. بيد أنه رغم ذلك يتخطّى التحليل، ويفيض عن جنباته. إن نسبة التحليل -نسبة المعرفة - إلى العاطفة المعبّر عنها فى الأثر الفنى إنما هى مماثلة لنسبة الفكر إلى الكائن. ولهذا السبب تماما كان من الممكن أن ينتقل هذا المحتوى مباشرة، دون أن يمرّ بالمعرفة، وبالمفردات اللفظية التحليلية:عبر التعبير المحسوس(الموسيقى مثلا) . إن المبدع يخاطب قوة معينــة فى كائن بشرى آخر (يخاطبها مباشرة دون حاجة إلى المدرك، وإن كان الأثر الفنى يتضمن مدركات وأفكاراً) وتلك القوة مماثلة للقوة التى تحيا فى ذات الفنان والتى جرى التعبير عنها"(26).
وقد رأى "فيرون" أن "الفن مظهر الانفعال، ويعبرّ عنه بطريقة خارجية، عن طريق تنظيم الخط والشكل واللون حينا، وعن طريق سلسلة من الحركات أو الأصوات أو الكلمات حينا آخر"(27).
والمحتوى الانفعالى أو العاطفى حين يتخذ شكلا، فتنمو العاطفة وتكتسب دقة وسموا، وتتغير خلال التعبير، بالتعبير وفى نطاقة. ويحاول المتلقى أو المتأمل أن يدرك الأثر الفنى حسّيا، ويجهد نفسه فى محاولة الوصول إلى مستوى انفعال المبدع. وتكون العلاقة بين الأطراف الثلاثة (الأثر الفنى، المبدع، المتلقى) عبر المحتوى الانفعالى، وتكون محاولة الوصول إلى المحتوى الانفعالى الذى بثّه المبدع من قبل المتلقى صعبة المنال(28).
والمحتوى الانفعالى فى انتقاله من المبدع إلى المتلقى يكون قد صار محتوى اجتماعيا، وطبقيا، وارتبط بظروف تاريخية محددة، "وغنى هذا المحتوى إنما هو مرتبط بغنى العلاقات الاجتماعية وبطابعها المباشر، وهو يندمج اندماجاً عضويا فى غنى الآثار الفنية، وغنى وسائل الاتصال. وحيث يضـؤل المحتوى العاطفى (الاجتماعى)، وحين تنعزل الضمائر داخل ذواتها، وحين لاتجرى العلاقات إلا عبر الأوثان Les Fétiches (المال..)، هناك يفتقر المحتوى، وكذلك وسائله التعبيرية"(29).
ان غنى المحتوى الانفعالى محكوم بثراء وغنى الظروف الاجتماعية، كما أنه - أى المحتوى الانفعالى - إنما يمثل التعبير المباشر أو غير المباشر عن جملة من الحالات والألوان والتى يكون فيها الإنسان بمثابة المركز. إنه التعبير عن الحب والجنس، والحزن والفرح، عن الشقاء، والعذاب، والخوف، والقلق، والتردد..إلخ.
وإذا كان التعبير عن الانفعال لا يماثل وصف الانفعال. فالتعبير الفنى يكشف عما فيه من وعى باستخدامه وسيطا موضوعيا معينا. "فالانفعال لا يقتصـر على الانطلاق فى العالم، كالشخص الغاضب الذى يصبّ جام غضبـه على جروه. بل ان الفنان يشكل الوسيط ويضفى عليه قالباً كيما يجسد انفعالاته. وقد يستخدم فى هذا الغرض السلم الموسيقى، أو جسمه هو ذاته، كمـا فى حالة الرقص أو التمثيل. ولكن ينبغى عليه عندئذ أن يخضع انفعالاته لمقتضيات الوسيط وحدوده. فإذا فاض الانفعال وتجاوز ما يستطيع الوسيط تقبله وتشكيله، فعندئذ لا يسفر ذلك عن أى إنتاج فنى، بل يكون الأمر كان شخصاً يعمـل على تصريف انفعاله بأن يضرب لوحة البيانو بقبضة يده عشوائيا. وهو سلوك لا يمكن أن يؤدى إلى خلق قطعة موسيقية"(30).
فالانفعال لابد أن يجد تنظيمه، لكى يستطاع التعبير عنه، ويجب أن يعمل الفنان ما فى وسعه لكى يجد المعادل الفنى لهذا الانفعال، بالغوص داخل الشخصيـة (إذا كان العمل مسرحيا أو روائيا مثلا) ورسم الصورة المعبرة عن ذلك. أو إيجاد الإيقاعات والنغمات المعبرّة عن هذا الانفعال أو ذاك، أو المعادل اللّونى وتحويل مسطح اللوحة إلى مجال تتكامل فيه الخطوط والألوان والأشكال لتفصح عن انفعال محدد وذلك حتى يتسنى للمتلقى الاقتراب من التجربة الانفعالية للمبدع حين يتأمل العمل الفنى. هذا، وإن كانت حالة كل من المبدع والمتلقى النفسية إنما تضفى على العمل الفنى أبعاداً قد تختلف لو أن الحلالة النفسية كانت مغايرة، سواء عند الإبداع أو التلقى. فالتعبير عن الانفعـال قد يلتقى - فى لحظة ما - مع انفعال المتلقى، وقد يتضاد مع انفعاله فى لحظة أخرى.
وهكذا فإن المحتوى العاطفى أو الانفعالى يعد مجالا واسعا من مجالات التعبير الفنى، ويرتبط بالظروف الاجتماعية أو الحالات النفسية التى أنتجته.


المحتوى التطبيقى
"الأثر الفنى، هو نتيجة عمل، له دائما علاقات بالوسائل الفنية والتقنيات Les Techniques المستخدمة فى عصر معين فى مستوى معين للقوى المنتجة. والفن مرتبط بتقسيم العمل. فنحن نستطيع مثلا التحدث عن فن حـرفى ( فن يرتكز على الصناعة اليدوية) بيدأن الفنان الحرفى لم ينعزل أبدا فى التطبيقات التى لها طابع عملى تطبيقى مباشر والخاصة بالوسائل الفنية والتقنيات والنشاطات المنتجة التى يستخدمها. وفى هذا الاتجاه يرتبط فنه بالبراكسيـس ( الانتاج الاجتماعى) فى عهد ما أكثر من ارتباطه بنمط محدود معين للعمل: إنه يرتبط بالحرفة. وحين كان الحرفى يصنع إناءً أو ينقش قطعة رياش، لم يكن انتاجة منصّباً فقط على انتاج وعاء لاحتواء السائل أو صنع مقعـد. أنه كان يريد التعبير عن شئ أرحب. وكان يريد تجميل أكثر ساعات الحياة تواضعا"(31).
لقد كان الشكل الأول للفن - كما يرى "سيدنى فنكلشتين" - "هو شكل موضوعات النفع المادى مثل الأدوات والأسلحة"(32). وكان ارتباط الفن بالعمل ارتباطا وثيقا فقد كانت الحدود بين النافع والجميل أقل وضوحاً. وقد تطور الفن فى إطار أدوات التقنية، وعبر الممارسة العملية، ووفقا للحاجات الإنسـانية، ومحاولة الإنسان تملك الطبيعة. "والعمل كان أحد الينابيع
المباشـرة وعنصر رئيسى من عناصر فنون الحركة، فى الشعر وفى الموسيقى، عنصر الإيقاع والوزن"(33).
وقد كان الجميل والنافع يسيران معا، فى كل من فن المعمار والأثاث بسهولة أكثر منها فى الفنون الأخرى، فبين معبد وقصر ومقعد خشبى وجرّة، بينها جميعا طبيعة مزدوجة، لأنها فى وقت واحد أشياء فنية وأشياء ذات فائدة(34).
لقد كان تأثير العمل على الفن تأثيراً كبيراً، وبذلك نجد أن المحتوى المراسى أو التطبيقى للفن من الأهمية بمكان، خاصة فى العصور السابقة، وكذلك فى الفنون التى لا تزال تجمع بين الجمال والمنفعة، كالفنون التطبيقية.
يقول "شارل لالو"
"إن تأثير العمل مباشرة على الفن ينطوى على تمايز متواكب لأشكال الفن عن أشكال الحرف. ولابد من أن تقابل سيادة عمل من الأعمال فى الحياة الاقتصادية لشعب سيادة بعض أشكال الفن التى تلازم حياته الجمالية"(35).
إن العلاقة وثيقة إذن بين العمل الفنى، وأشكال العمل الأخرى التى ترتبط ارتباطا وثيقا بحياة شعب من الشعوب الاجتماعية والاقتصادية. فإذا كان العمل - فى مجالات غير مجالات الفن - يلبى حاجات ضرورية، وملحة، نافعة ومفيدة، فإنه بالتوازى معها يلبى الفن حاجات جمالية هامة بالنسبة للإنسان.
وفى دراسة لـ (كروس) ذهب إلى أن نمط الإنتاج عنصر مميز للفن البدائى. وقد درس (كروس) الشعوب التى تعيش على الصيد من البر والبحر، مـن غير أن تحيا حياة المزارعين أو الرعاة، مثال ذلك شعوب (الاسكيمو)، و (البوشمان) فى صحراء (كلارى) فى افريقية الجنوبية و(الفوجين) و (البـوتوكودوس) Botocudos فى أمريكا الجنوبية. وفيما يجاوز الفوارق العرقية والإقليمية التى تفصل هذه الشعوب بعضها عن بعض، تظل على الأقل سمتان مشتركتان بينهما: موهبة الرسم، وترجيح شبه تام لتصوير البشر ولتصوير الحيوانات. ان شعوباً من المزارعين، وهم أكثر تمـدينا، لا يتميزون بأى تفوق فى الرسم، وهم يختارون طوعاً مواضيع رسومهم الزخرفية من عالم النبات(36).
فالممارسة العملية للحياة، تؤثر تأثيراً كبيراً فى الفن، وعلاقة العمل اليدوى، وطور التطور الاجتماعى بالفن علاقة وثيقة. فالفنان عندما يبدع عملا فنيا، إنما هو يستقى موضوعاته من عالمه الذى يعيشه ( الرعى - الصيد - الزراعة….الخ) ومضمونه يكون محكوما بالتطور الاجتماعى ونظرته إلى العالم عبر نسيج معقد من المؤثرات والعلاقات.
وإذا كانت للمنفعة أهمية - فى فنون محددة، وفى عصور محددة، اختلـط فيها الجميل بالنافع – فى ارتباطها بالجمال، "فإن للنفعية حدوداً تضعها فى سبيل الهوى الزخرفى، حدوداً يصعب تعيينها لأنها تتبع الذوق الخاص، ومع ذلك فمن الممكن على ما يلوح تطبيق القاعدة التى تقول إن علـى الشئ فى فن المساكن أن يقوم بمهمتـه، بشرط ألا تعمل الزخرفة على تحويله عن هذا الهدف، بمعنى أنه من الضرورى أن يتمكن الإنسان من أن يقيم فى منزل ما، وأن يصلىّ فى كنيسة ما، وأن يشرب فى الكوب ويجلس على المقعد. لكن لا يعنى هذا أن أجمل المنازل هو أكثرها توفيراً للراحة، باعتبار أن الشئ المريح غالبا ما يكون عدواً للجمال"(37). وقد انفصل الجميل عن النافع فى فنون التصـوير والنحت والأدب والموسيقى بشكل أكبر. ويمكننا أن نقول إن نظرية الفن للفن "كانت تصبح غامضة غير مفهومة لو أنهـا كانت قد عرضت على "هوميروس" أو "فرجيل" أو سوفكليس أو بندار".. وكانت تبعث الدهشة لدى مصوّرى العصور الوسطى فى الغرب. فقد كانوا جميعا يعملون ليضمنوا للموتى انتقالا سعيدا إلى الآخرة، أو ليحيوا ذكرى الآلهة أو يتغنوا بفضائل المسيح والعذراء والقديسين"(38). فقد كانت الغاية واضحة تماماً أمام أعينهم، وكان القول بأن الفن منزهّ عن الغرض - الفن للفـن - يعدّ ضربا من الهذيان أو الهزل.
وإذا كان فهمنا لفن عصر من العصور يصبح مستحيلا إن لم ندرس الآلات والمنازل، والرياش، وشكل الأسرة، والأذواق والأزياء التى كانت سائدة فى ذلك العصر، وذلك لأن الفنان يحتوى كل هذه الأمور، "وبفاعليته الخلاّقة يركز ويكثّف جميع الدلالات فى شئ واحد يبدو ضروريا، وغير متوقع، فى وقت معا. وهو يضيف شيئا جديداً، فريداً محملا بالدلالة والمعنى، إلى طائفة الأشياء الجديدة، بيد أن هذا الشئ الجديد يجرى إنتاجه فى اتجاه معين، فى (وجهة) معينة. وهذا يدلنا على مدى تعقد هذا المحتوى التطبيقى العملى"(39).
ان العامل أو الفنان الذى يصنع آنية بوسعه أن يصنع آنية خزفية جميلـة ومفيدة فى نفس الوقت، مع مراعاة دقيقة لأواصر العلاقة بين الجانبين، ووظيفـة المنتَج فى النهاية، ولكن عندما يكون الصانع لا يهدف إلا لإنـتاج شئ مفيـد أو نافع فقط، فإنه فى هذه الحالة يكفّ عن أن يكون مبدعاً - إذ ينتج وفقا لنمط محدد سلفا - ويكف المنُتج عن أن يكون جميلا، ويصبح مجرد أداة أو آنية تستعمل لغرض محدد.
إن العلاقة بين التمرس العملى والعمل الاجتماعى من جهة والفن من جهة أخرى علاقة معقدة تتغير بتغير أساليب الإنتاج والظروف التاريخية، والعلاقات الطبقية. وطبيعة علاقة الإنسان بالعمل، وتطور الوعى البشرى.
ومع تطور المجتمعات، وتقدم وسائل التقنية، وتعقّد الحاجات الإنسانية نجد أن هناك اتّجاها يرى أن الانفصال بين المنفعة والجمال أو بين الحرفة والفـن لامفر منها، بل ويقرّرون أن كل شئ نافع، هو غير جميل ذلك أن العمل الفنى - هو بالضرورة - منفصل عن كل منفعة، ومتجرد عن كل فائدة، إنه عمل حرّ، مجانى. وقد تأتى منفعة الفن عبر فعالياته الجمالية وأساليبه الفنية، وذلك بشكل غير مباشر، إذْ تقدّم المتعة الجمالية للإنسان، مالا يمكن أن تقدمه الأشياء النافعة التى تشبع حاجات ضرورية وملحة ويومية.
ولكن هناك رأى آخر يرى أنه إذا كان الفن فى عصرنا الحالى، ولـدى أكثر مدارس الفن انتشاراً وعمقا، وفى أكثر الفنون ارتباطا بالانسان لا يتقرّر بالمنفعة، فإنه ليس بالضرورة استبعاد المنفعة نهائيا، لأنها تثرى العمل الفنى وتجعله أكثر تحديداً، وذلك بإدراجه فى الحياة اليومية(40).
يقول "هنرى لوفافر"
"ولكن ينبغى أيضا إغناء فكرة المنفعة (أو المحتوى التطبيقى العملى). فالمنفعة كانت دائما أوسع مما يظنّ المراقبون السطحيون. فقد كانت الأوانى فى الماضى (تخدم) فى الحياة اليومية، وكذلك فى المآدب، وكثيرا ما كانت تخدم فى الأعياد الدينية بوصفها أشياءً طقوسية وسحرية والأثر الفنى (الحديث) يمكن أن يخدم، بمعنى أنه يأتى بعنصر جديد لوعى الأفراد للحياة الاجتماعية والظرف التاريخى. فالمنفعة السياسية تثرى محتوى الفن وتسْهم
فى الصياغة العميقة لشكله، اليوم كما فى الماضى، بيد أن عملية التطور هذه، وهذا العنصر ينبغى أن يصيـرا واعيين. وبصيرورتهما واعيين، موحدّى الأجزاء، ومنسقين مع مفهوم عام عن العالم، يغدوان حرّين، ولا يجرى الأمر خلاف ذلك"(41).
ان ارتباط الفن بالمعرفة وارتباطه أيضا بالعمل. وبالعمل وبالمعرفة، (كما يحدث فى الفن) تتحول الأشياء (فى ذاتها) إلى اشياء (لنا)، وتظهر الأشيـاء كما هى فى موضوعيتها، خلال جهد ضخم يمدّ حقل نشاطية الإنسان وقدرته على هذه الأشياء. إن الفصل الحاد بين المنفعة والجمال، أو القيمة الجمالية والقيمة الاستعمالية - فى رأى "لوفافر" - يعتبر مجافاة للواقع. فإن كاتدرائية ما من كاتدرائيات العصور الوسطى لا تفهم إلا بوصفها واقعا (متعدد جوانب القوى)، فهى شئ سحرى ودينى، ومركز الجماعة الفلاحى والريفى، ومكان للتجمع، ومختصر يوجز العالم، وشئ كونى، وصلة اجتماعية، ورمز سياسى. لقد كانت واقعا اجتماعيا وأيديولوجيا وسياسيا فى آن واحد، وقد عرف المطارنة والبارونات والأمراء، كيف يستولون على كيفيات الحياة الشعبية ويستخدمونها لمصلحتهم، وما كان بوسعهم أن يخلقوها(42).
ان العمل الفنى يبدع بالضرورة وفقا لشروط الجمال التى تشرطها أمور أخرى أكثر تعقيداً، والفنان المبدع عندما ينتج عملا قد يكون مشغولا بالإضـافة إلى العمل فى ذاته بأمور شتى، لكى تقويمنا للعمل جماليا إنما ينصـب على صفاته ومكوناتها، ورؤيتنا له، وتتباين الأحكام بتباين الاتجاهات، ودرجات الوعى، وغيرها. وقد تدخل المنفعة لدى البعض من ثقب صغير إلى مجال التقويم، وقد يراها البعض الآخر ذات شأن كبير
(كرجال الدين والأخلاق والسياسة….ألخ) وإن كان تقويم هؤلاء ليس تقويما جمـاليا بالضرورة. وقد تكون المنفعة غير واردة إطلاقا فى تقويم أولئك الذين يُعلـون من راية الجمال، ويحكمون على العمل الفنى عبر تحليله ووصفه جماليا.
وحقيقة إننا نرى أن العمل الفنى العظيم لا يدين بجماله لنفعيته فالقصيدة الشعرية واللوحة والتمثال والسيمفونية عديمة النفعية عمليا، اللهم إلا بالنسبة لأولئك الذين يجدون من ورائها كسبا، كالطابع والمنفذ والناشر والتاجر(43).
ويتساءل "برتيلمى" قائلا: هلى يعنى هذا أنها لا تخدم فى شئ؟
ويجيب قائلا: "ألف مرة:لا.. إذا فسّرنا كلمة "تخدم"، بمعنى أرفع وأوسع نطاقا يصل إلى درجة العالمية. أليست وظيفة الفن بالضبط هى القضاء على السراب القائل إن ما من شئ له قيمة وكان مفيدا وفعالاً. وان هناك أشياء تلوح كما لو لم تكن ذات أية فائدة وبدونها لا يمكن أن نعيش؟ نقصد أشياء صنعت لمجرد اللذة ومع ذلك فهى تعادل فى أهميتها تلك التى صنعها عمال ومهندسون هناك إذن نفعية للاّنفعية، وهى ليست أقل أنواع النفعية لأنها - قبل غيرها أو بدونه - تفهم عالم الفن نفسه"(44).
ان المحتوى التطبيقى للفن، أى علاقته بالمنفعة تعد من الأمور الشائكة والتى نوقشت كثيراً، وقد سادت منذ العصور القديمة إلى أن جاء "كانط" ورأى أن الفن منزه عن الغرض، ولعب حرّ، وتابعه فى ذلك "فردريك شيلر"، وهريرت سبنسر" ثم اتجاه الفن للفن، فكان انفصال الفن النافـع عن الفن الجميل. ولكن مازالت الآراء حول علاقة الفن بالمنفعة تترددّ حتى الآن - فنجدها لدى "جون ديوى" والبراجماتية، وأيضا لدى الاتجاهات الأخلاقية والدينية، والاشتراكية.
هذه العلاقة الشائكة قد لا تكون بنفس الصيغة التى يراها هذا الطرف أو ذاك - سواء من أصحاب الفصل، أو أصحاب الربط بين الفن والمنفعة. ولكن الفن هو فى الأساس وجد للمتعة، أى بعيداً عن الأغراض النفعية المباشرة ( الدعوة الأخلاقية أو الدينية، الدعاية السياسية، أو الوظيفة الاستعمالية المباشرة).
وإن كان ليس بالضرورة لابد أن يكون منبتّ الصلة بهذه الأغراض، فقد يفيد الفن المؤرخ والسياسى والأخلاقى، ولكن لا يتقوم الفن بما فيه من سيـاسة أو أخلاق أو تاريخ..الخ. بل وفقا لشروط الجمال، وتأتى فائدته بشكـل غير مباشر، أو لكون المتعة تشكل عنصراً ذا أهمية فى العصر الحاضر.
*****
وهكذا نجد أننا فى دراستنا للمحتوى، معناه، وأهمية، ثم الدراسة التفصيلية للمحتوى (الأيديولوجى - البيولوجى - الانفعالى أو العاطفى - التطبيقـى) - والذى كان عبارة عن مناقشة وإلقاء الضوء على آراء "لوفافر"، والاتجاهات الأخرى المختلفة - نجد أننا قد وصلنا إلى أن أهمية المحتوى، فى أنه يقدم الفنان إلى العالم، ويكشف علاقاته المتشابكة بواقعه وعصره، ووعيه وردود افعاله تجاه كل ما يعتمل فى الواقع، وموقعه على خريطة الإبداع الفنى. كما أنه يمكن أن يؤدى دوراً إيجابيا، أو سلبيا من وجهة نظر البعض، أو البعض الآخر تجاه الحياة الإنسانية.. وأن هذا المحتوى (المضمون) Content - رغم كل شئ لا تستقيم دراسته إلا، ونحن نضع فى ذهننا العناصر الأخرى للعمل الفنى، التى لا تنفصل إلا ذهنيا من أجل عدم إعاقة عملية التحليل والدراسة فحسب.
الموضوع والمضمون
"لاقت الفكرة التى تقول إن موضوع الفن الأساسى، بل الوحيد هو الإنسان رواجاً كبيراً، وطبقت على نطاق واسع، منذ وقت طويل. وفى هذا القول شئ من الحقيقة، إلا أنه مغرق فى التجريد وفضفاض جدا. لذا يتعين علينا تمحيصه. إن لحياة الإنسان جوانب كثيرة. فهو يعيش، قبل كل شئ، حياته الطبيعية العضوية، وعلى أساسها يعيش من ثمّ حياة اجتماعية"(45).
وفى نفس الوقت أكد "تشير نيشفسكى" على أن "جمال الفن هو كل ما يهم الإنسان فى الحياة أو الطبيعة"(46). كما أكد العديد من الفنانين البارزين ومنظرى الفن بأن الفن الحقيقى يضع الإنسان فى مركز اهتمامه. ورأى أيضا "تشير نيشفسكى" أن مجال الفن يشمل كل ما يهم الإنسان فى الواقع (الطبيعة والحيـاة - لا كعـالم، بل كإنسان فحسب)، وان موضوع الفن هو ماله أهمية فى حياة الناس"(47).
ولكن "بوسبيلوف" يرى أن فضفاضية هذا التعريف تجعله يفقد قيمته، فكثير من الناس يشتغلون بالعلم كاختصاص غالبا ما يبدون ميلا شديدا نحو المعرفة يشمل مختلف مناحى الحياة، ونجد أولئك الذين يمتلكون قدرات ذهنية متطوّرة وفعالة يهتمون بهذه أو تلك من المعارف التقنية والعلمية الطبيعية، بل وبمعلومات من تاريخ الانسانية المدنى، ومن تاريخ الثقافة المادية والروحيّة لدى مختلف الشعوب.. الخ.. ولو أخذ الفن على عاتقه تلبية جميع هذه الطلبات الفعلية لدى الناس لتحوّلت مؤلفاته فورا إلى مؤلفات علمية مبسطة، مؤلفات توضيحية، ولفقدت كل خصوصيتها، وكل ما يتسم به مضمونها من خصائص تاريخية(48).
وإذا كان الفن - من حيث الأساس - يمثل نوعاً من أنواع الأيديولوجيا - لذا "فإن موضوع المعرفة فى الفن لابد وأن يكون مرتبطاً بشكل أو بآخر بحياة الناس الاجتماعية"(49). وعلى هذا فإن القول بأن الإنسان هو موضوع الفن على قدر ما يحمل من الحقيقة، يحمل أيضا نوعاً من التعميم والتجريد.
والموضوع الذى تحتله اللوحة أو التمثال أو القصيدة أو الرواية.. يجعل العمل الفنى يشير إلى شئ، حقيقة أو ظاهرة، أو واقعة أو…الخ(50).
ولكن هل الفنون جميعا ذات طابع تمثيلى؟
أى هل لابد من وجود موضوع للفن؟
توجد بعض الفنون، والأعمال الفنية "لا تنطوى على موضوع كما هو الحال فى المعمار والموسيقى، وإلا فما الذى يمثله المعبد أو هذه الآنية الخزفية أو تلك السيمفونية؟ بل اننا لو نظرنا إلى بعض النزعات الفنية المعاصرة فى مضمار التصوير أو النحت لوجدنا أن هناك تصويراً مجرداً يكاد يختفى منه عنصر التمثيل أو الموضوع"(51).
وهل يعنى ذلك - على حد تعبير "زكريا إبراهيم" أنه لم يعد للموضـوع أى دور يمكن أن يضطلع به فى صميم العمل الفنى. أو هل يكـون فى وسعنا أن نقول ان الفنون جميعا قد أخذت تحذو حذو الموسيقى فى الاستغناء عن الموضوع أو المعنى أو المضمون. هذا ما يرد عليه البعض بالنفى. فإن الموسيقى نفسها قد تعمد إلى المحاكاة، فتحاول أن تقحم نفسها على الفنون التمثيلية، هذا إلى أن ثمة فنوناً لا يمكن أن تقوم بدون (الموضوع) كالنثر، والرواية أو التمثيلية، ما دام من المستحيل على اللفظ أن يفقد وظيفة الأصلية بوصفه حاملا لمدلول أو معنى(52).
أن القول بأن الموسيقى تخلو من المضمون ومن الموضوع يعوزه الكثير، فإذا كانت الموسيقى تمثل حالة خاصة. لا يبدو فيها المضمون واضحاً تماما وضوحه فى فنون أخرى، فإننا نرى أن خواء الموسيقى من المدلول يجعلهـا كما يقول "هيجل" مما لا يمكن تصنيفه فى عداد الفنون بحصر المعنى. ولكن عندما يفيد عنصر الأصوات الحسّى فى التعبير عن الروحى تعبيراً مطابقاً بقدر أو بآخر، ترقى الموسيقى إلى مستوى فن حقيقى، سواء أصيغ هذا المضمون فى ألفاظ أم أمكن استخلاصه بصورة أقل وضوحاً من الأصوات وعلاقاتها التناغمية وحيويتها اللحنية"(53).
وقد جاء فى الفقرة التى صاغها "زكريا إبراهيم" خلط بين الموضوع والمضمون (المحتوى)، وهو شائع فى كثير من الكتابات الجمالية.
يقول ارنست فيشر
"ان المضمون يعنى شيئا أكثر بكثير من مجرد الموضوع أو الفكرة. وإنه مهما يكن من أهمية اختيار الموضوع، فإن مضمون العمل الفنى لا يتحدد بما يتناوله بقدر ما يتحدّد بأسلوب تناوله"(54).
ومن الصعب استنتاج المضمون من الموضوع. فانعكاس الواقع فى الفن ليس فعلا ميّتا كانعكاس الصورة فى المرآة، بل عملية معقدة تتضمن نشاط الفنان، ورؤيته للعالم، ووعيه. و"إذا كان الموضوع والمعنى يقدّمان دائمـا مترابطين، إلا أنها مع ذلك لا يعبران عن شئ واحد، إذْ يمكن أن يعالـج أو يفسّر إثنان من الفنانين أو الكتاب موضوعاً واحداً تفسيرين مختلفين إلى حدّ يجعل عمل كلٍّ منهما مختلفا تماما عن الآخر. ولاشك فى أن لاختيار الموضوع أهميته الكبرى، ونحن نستطيع أن نحدّد عن طريق هذا الاختيار بالإضافة إلى أشياء أخرى موقف الفنان أو الكاتب"(55).
فاختيار الموضوع تحدده اهتمامات الناس واجتهاداتهم، وحالاتهم النفسية، ورغم أن معالجة موضوع واحد من قبل فنانين أو كاتبين قد يكون بينهمـا بون شاسع، إلا أن اختيار الموضوع فى أحيان كثيرة يكون تعبيراً عن نظـرته إلى العالم التى جعلته يركز اهتمامه على موضوعات بعينها. فقد يرتفع الموضوع إلى مستوى المضمون وذلك من خلال موقف الفنان، لأن المضمون ليس مجرد ما يقدمه الفنان، بل أيضا كيف يقدمه، وفى أى سياق وبأى درجة من الوعى الاجتماعى. وعلى سبيل المثال، فإن موضوعاً مثل "(الحصاد) يمكن أن يعالج كأنشودة شجّية أو كلوحة مائية تقليدية، أو كجهد إنسانى مرهق، أو كانتصار للإنسان على الطبيعة: فكل شئ يتوقف على وجهة نظر الفنان، وما إذا كان يتحدث باسم الطبقة الحاكمة، ومعتذراً عنها، أو كسائح عاطفى يقضى يوم عطلة، أو كفلاح متذمّر، أو كثورى اشتراكى"(56).
وقد رأى "جون ديوى"(57) أن موضوع العمل الفنى قد لا ينطوى على أية دلالة اللّهم إلا تلك التى تتضمنها أغراض التعرف العملى.
والموضوعات تتغير وتتبدل وفقا للظروف الاجتماعية والتاريخية، "فالموضوع الذى كان يعنى فى نظر المواطن الأثينى فى القرن الرابع قبل الميلاد الشئ الكثير، لا يكاد يعدو اليوم أن يكون مجرد حدث تاريخى. والمواطن الإنجليزى البروتستانتى الذى كان يتذوق إلى أبعد الحدود فى القرن السابع عشر موضوع ملحمة "ملتون"، ربما كان أعجز من ان يتعاطف مع موضـوع أو تركيب (الكوميديا الإلهية) "لدانتى" لدرجة أنه ربما لم يستطع أن يقدر قيمتها الفنية. واليوم قد يكون الملحد أرهف حساسية من الناحية الجمالية لأمثال هذه القصائد، نظراً لأنه يلْقى موضوعاتها القديمة بعدم الاكتراث. ومن جهة أخرى يلاحظ أن كثيراً من مشاهدى اللوحات فى
عصـرنا الحاضر يعجزون عن إدراك قيمة فن "يوسان" التصويرى فى كيفيتـه التشكيلية الباطنة، نظراً لأن موضوعاته الكلاسيكية قد اصبحت غريبة عليهم تماما"(58).
فعندما تنتزع الألفة بين المتلقى والموضوع، تكون الصعوبة فى الاستمتاع به، وتقديره جماليا. فالعلاقة الوثيقة بين الموضوع والأوضاع والظروف المحيطة، والظرف التاريخى، تجعل بعض الموضوعات خارج دائرة اهتمام الناس (أو المتلقين) بصفة عامة، فى حين تضع فى مركز اهتمامهم موضوعات بعينها. فالقصيدة العصماء التى كتبها "حافظ إبراهيم" عـن القطار - وأى قطار، إنه القطار الذى كان يسير الهوينى مستخدماً الفحم وقوداً له - يصبح موضوعها الآن خارج دائرة الاهتمام فى عصر التقدم المذهل للعلم وغزو الفضاء، وثورة المعرفة.
وإن تطور الموضوعات فى الأدب والفن ليستحق دراسة جادة متأنية، فالتحول من نمط معين من الموضوعات إلى نمط آخر، إنما يعبر تعبيراً دقيقا عن تحول فى حياة الناس على مستوى الوعى، والممارسة. "فالتحول من الموضوعات الأسطورية إلى الموضوعات المدنّسة، واقتحام الناس العاديين عوالم الملوك والنبلاء، وفرض العلمانية على الموضوعات المقدسة عن طـريق تصوير الحياة اليومية فى المدينة والريف، واكتشاف الكائنات البشرية أثناء عملها كموضوع صالح للأعمال الفنية، والتخلّى عن دراما النبـلاء، لصالح تراجيديا البورجوازيين..هذه الموضوعات الجديدة تكشف عن مضمون جديد وتتطلب أشكالا جديدة كشكل الرواية الفنى"(59).
العمل كموضوع
لقد فُرضتْ صورة الفلاحين فى مصر القديمة من وجهة نظر سادتهم فعين السيد تستقر راضية على جموع الرجال الذين يعملون لصالحه، ولم يكن الفلاح سيداً لنشاطه، بل موضوعاً للناظر إليه الذى يعرف أن المحصول عائد إلى مخازنه. وهذا الأسلوب فى النظر هو الذى خلق تلك الموضوعية الظاهرة فى الفن المصرى القديم(60).
وقد تطور هذا الأسلوب - فى الفن المصرى القديم - فظهر الفلاحون والعمال فى الرسوم والنقوش وقد اكتسبوا ملامح المعاناة الفردية والإرهاق. فقد تراجع الأسلوب التقليدى المحايد، وظهر أسلوب يعبر عن الواقع بشكل أكثر دقة وحيوية. وقد تكرر موضوع العمل كثيراً فى مصر القديمة، ولكن معناه اختلف بين الموضوعية التقليدية، والتعبير الذاتى. ولكن فى العصور الكلاسيكية لم يكن موضوع العمل من الموضوعات الجديرة بالاهتمام. ولكنه تسلل إلى منمنمات العصور الوسطى. وظهر كذلك فى عصر النهضة ولكن بشكل غير رئيسى. وقد جاء التغير الجذرى " فى موضوع العمل الزراعى فى رسوم "ميليه"، فهذا الفنان الذى نشأ من أصل فلاحى، وكان من مويدى ثورة 1848 يصوّر عمل الفلاح والعامل الرأسمالى على أنه شكل جديد من أشكال الاستعباد وعلى أنه امتهان بغيض للانسانية"(61).
فمع تطور المجتمعات تغيرت الموضوعات، وتطور الموضوع، فبعد أن كان العمل (عمل الفلاح - او العامل) منظوراً إليه من وجهة نظر السادة، أصبحت النظرة ذاتية، تصور معاناة العامل والفلاح تحت نير الرأسمالية، وتوضح إرهاقه، وإجهاده، وتبدو ملامحه غير راضية، ومكفهرة، بعد أن كانت تصوّره بشكل محايد بلا ملامح، أو بملامح مزّيفة تزيّف السعادة والفرح.
ولقد تناول الفنان المكسيكى "ديجوا ريفيرا" موضوعات تظهر الفلاحيـن والعمال وقد أذُلوا وامتهنوا، واحْدودبتْ ظهورهم ونكّستْ رءوسهـم، كما صور ممتهنيهم ومذلّيهم بصورة تحمل كراهية منتقمـة أشبه بتلك التـى أوحت إلى "دومييه" برسومه القاسية، قصور الحكام الأسبان القساة و"مأدبة الرجل الغنى" وعصابات البترول الأمريكية، وملوك الدولار، ورجال البنوك يتظاهـرون بحمل الكتاب المقدس. وعاهرات الطبقة العليا يرجرجن أثداءهن. فالعدو فى لوحاته لم يعدّ قوّة خفية تحنى الظهور وتنكس الرءوس، بل أصبح عدوا واقعيا ملموساً، عدوا يمكن مواجهته وهزيمته(62).
لقد كان لتطور الموضوعات أثراً بالغا، فكان الانتقال من مجرد الإشارة إلى القهر او الاحتجاج السلبى، إلى النقد العنيف والمواجهة، بل إلى الدعوة إلى التغيير، وتصوّر العالم الآتى بعد قهر المستغليِّن والمتسلِّطين.
وهكذا كان العمل كموضوع شاهداً على تطور الموضوعات فى إطارها الاجتماعى والتاريخى، نظرا لتطور النظرة إلى العالم من قبل الفنان، هذا الفنان الذى تغيّر موقعه، من مجرد حرفى Craft Man يعمل فى البلاط فى خدمة السلطان، أو من شخص منحدر من الطبقات الأرستقراطية، أو يعمل على إرضائها والبيع لها (سواء كان عمله تصويراً، أو نحتا، أو أدباً..) إلى شخـص يحمل رؤيا، وينحاز (سواء بحكم موضعه الاجتماعى، أو وعيه) إلى المستغَلين، والمقهورين.
وقد تطور موضوع العمل الفنى فى أطر مختلفة، وإن كان موضوع العمل يقدم شهادة واضحة على هذا التطور.
ومن خلال الموضوع يمكننا أن نتعرف على شخصية المبدع، و"ذلك لأن تكرار موضوعات بعينها لدى فنان بعينه لابد من أن تكون لها دلالتها فى نظر الباحث السيكولوجى الذى يهتم بدراسة عوامل الإبداع الفنى. فليس من قبيل الصدفة أن يكون "رمبرانت" قد اختار المسيح موضوعاً للكثير من لوحاته، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يكون "بيكاسو" قد اختار "جرنيكا" مـوضوعاً لعدد غير قليل من لوحاته"(63). ولا يكشف فقط تكرار موضوعات محددة لدى فنان محدد عن حالاته النفسية، بل أيضا يكشف هذا التكرار عن وعى اجتماعى، وموقف من العالم، وعن خبرة محددة بمجال محدد. فالفنان الحقيقى هو الذى يستقى موضوعاته من عالم هو خبير به، وقادر على نقله من صورته فى الواقع، إلى مجال الإبداع الفنى (شعرا.. وموسيقى.. وتصويرا.. الخ) واختياره للموضوعات يكشف عن شخصيته ككل.
وهكذا نجد أن ( موضوع العمل الفنى) وإن اختلف عن المضمون أو المحتوى Content إلا أنه لا يقل عنه أهمية، كما أنه - كموضوع - ليس خلوا تماما من الدلالات.



الهوامش

1- فيشر، ارنست: ضرورة الفن - ترجمة أسعد حليم - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1971 ص 172.
2- Kiralyflyl, B: The Aesthetics of Georgy Lucas - Brinceton University Press, Brinceton and London 1975, P. 109
3- هيجل، فردريك: فن الموسيقى - ترجمة جورج طرابيشى - دار الطليعة - الطبعة الأولى - بيروت - 1980 - ص 32.
4- بدوى، عبد الرحمن: فلسفة الجمال والفن عند هيجل - دار الشروق - الطبعة الأولى - القاهرة - 1996 - ص ص 43، 44.
5- يغوروف، أ.غ.: المحتوى والشكل فى الفن - ضمن (أسس علم الجمال الماركسى اللينينى) - باشراف (بيرستينيف، ف. ف) تعريب يوسف حلاق - تدقيق عدنان جاموس (دار الفارابى - دار الجماهير) ط 2 - (بيروت - دمشق) - 1978 ص 39.
6- أنظر المصدر السابق - ص 42.
7- Plekhanov, G.: Art And Social Life, Translated by A. Finebery - Progress Publishers, Second --print--ing, Moscow - 1974, P. 36.
8- I bid: p. 18.
9- انظر: بوسبيلوف، غينادى: الجمال الفنى - ترجمة عدنان جاموس - منشورات وزارة الثقافة السورية - دمشق - 1991 - ص 264.
10- المصدر السابق - ص 316.
11- نفس المصدر - ص 320.
12- لوفافر، هنرى: فى علم الجمال - ترجمة محمد عيتانى - دار المعجم العربى - الطبعة الأولى - بيروت - 1954 - ص 98.
13- نفس المصدر - ص 98.
14- نفس المصدر - ص ص 98، 99.
15- نفس المصدر ص 100.
16- نفس المصدر ص 101.
17- بوسبيلوف، غ: مصدر سابق - ص 344.
18- راجع لوفافر، هنرى: مصدر سابق - ص ص 73، 74.
19- نفس المصدر - ص 75.
20- انظر نفس المصدر - ص ص 74، 75.
21- برتيلمى، جان: بحث فى علم الجمال - ترجمة أنور عبد العزيز - مراجعة نظمى لوقا - دار نهضة مصر بالاشتراك مع مرسسة فرنكلين للطباعة والنشر - ( القاهرة نيويورك ) يوليو - 1971 - ص 108.
22- نفس المصدر - ص 110.
23- ديرميه، ميشال: الفن والحسّ - ترجمة وجيه البعينى - دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع - الطبعة الأولى - بيروت - 1988 - ص 280.
24- انظر: برتيلمى، جان: مصدر سابق ص ص 500، 501.
25- لوفافر، هنرى: مصدر سابق - ص 78.
26- نفس المصدر - ص ص 78، 79.
27- Véron, Eugéne: Aesthetics, Trans. Armstrong, Londen, Chapman,
Hall, 1979, P.89.
عن ستولنيتز، ج: مصدر سابق - ص 247.
28- راجع: لوفافر، هنرى - مصدر سابق - ص 79.
29- المصدر السابق - ص 80.
30- ستولنيتز، ج: مصدر سابق - ص 248.
( لمزيد من التفاصيل حول الفرق بين الوصف والتعبير يراجع الفصل الخاص بالتعبير) - الفصل الخامس.
31- لوفافر، هنرى: مصدر سابق ص 81.
32- فنكشلتين، سيدنى: الواقعية فى الفن - ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد - مراجعة يحيى هويدى - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - الطبعة الثانية - بيروت - 1986 - ص20.
33- لالو، شارل: الفن والحياة الاجتماعية - تعريب عادل العوا - دار الأنوار - الطبعة الأولى - بيروت - كانون الأول - 1986 - ص 19.
34- برتيلمى، جان: مصدر سابق - ص 390.
35- لالو، شارل: مصدر سابق - ص 27.
36- انظر نفس المصدر - ص ص 27، 28.
37- برتيلمى، جان: مصدر سابق - ص 391.
38- نفس المصدر - ص 392.
39- لوفافر، هنرى: مصدر سابق - ص 84.
40- لدراسة أصول وجود المنفعة فى علاقتها بالفن - يرجع إلى كتابنا: الأحكام التقويمية فى الجمال والأخلاق - ط1 - دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر - الإسكندرية - 1998 الفصل الرابع وهامش 12 بنفس الفصل ص ص 275 - 285 ، 351 - 353.
41- لوفافر، هنرى: مصدر سابق - ص 88.
42- انظر المصدر السابق ص ص 91، 97.
43- راجع، برتيلمى، جان: مصدر سابق - ص 393.
44- نفس المصدر - ص 393.
45- بوسبيلوف، غينادى: مصدر سابق - ص 286.
46- انظر يغوروف، أ.غ: مصدر سابق - ص 39.
47- بوسبيلوف، غ: مصدر سابق - ص 287.
48- نفس المصدر - ص 287.
49- نفس المصدر - ص 286.
50- أبراهيم، زكريا، مشكلة الفن - مصدر سابق - ص ص 37، 38.
51- نفس المصدر - ص 38.
52- نفس المصدر - ص ص 38، 39.
53- هيجل، فردريك: فن الموسيقى - ترجمة جورج طرابيشى - دار الطليعة - الطبعة الأولى - بيروت - 1980 - ص 24.
54- فيشر، ارنست: مصدر سابق - ص 182.
55- نفس المصدر: ص 172.
56- نفس المصدر: ص 173.
57- ديوى جون: الفن خبرة، ترجمة زكريا إبراهيم، مراجعة زكى نجيب محمود - (دار النهضة العربية بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين) - ( القاهرة - بيروت) - سبتمبر - 1963 - ص 188.
58- نفس المصدر - ص 186.
59- فيشر، ارنست: مصدر سابق - ص ص 186، 187.
60- انظر المصدر السابق - ص 173.
61- نفس المصدر: ص ص 177، 178.
62- نفس المصدر - ص 181.
63- ابراهيم، زكريا: مشكلة الفن - مصدر سابق - ص 41.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى