محمد عبدالوكيل جازم - الضباب أتى.. الضباب رحل..

إنها قريتي" قالها وعيناه تسبحان في النور، ثم أردف:
"المكان الوحيد في هذا العالم الذي أستطيع أن أدخله نائماً.. المكان الوحيد الذي أستطيع أن انساب بين طرقاته مغمضاً.. ملتحماً في الجدران إلى أن أصل حجر أمي.. المكان الوحيد الذي أستطيع أن أتحسسه فأعرف أن هذا الجدار لصاحبه فلان، وتلك الشجرة لصاحبها فلان وذلك التراب الممزوج بنكهة خاصة جاء من ذلك الحقل، أعرف ذلك وأنا في قلب العتمة، في سعير الضباب.. نعم الضباب الذي يجيء ويذهب وأنا بين مجيئه وبين ذهابه منتبه.. بين يقظته وغفوته أرقب الأشياء.. ها هو ذا الآن يذهب تأمُه أسراب الفراشات الملونة والأنوار الصافية تركض خلفه في كل مكان، روائحها مثل أنفاس حبيبــتي:
تكويني شائعات الحلم
وخيالات اليقظة
هل أنا متناثر مثل ندف الضباب
أم الضباب أكثر تماسكاً مني
لأنه منذ ملايين السنين
يجيء ويذهب حاضناً أمانيه

خرج منه الطفل الذي كانه- هو- الطفل الذي كان يمتلك مملكة يحكمها بأقدامه الحافية وصباحاته الباردة وعينيه المحلَّقتين مع العصافير، ويديه اللتين تقعان دون قصد على زهور الياسمين ونباتات"السنب" الجبلية العطرة وأزهار الفُل.
(آهـ.. من تلك اليدين! لقد وقعتا على القذارات كلها، وقبضتا على الشوك، وتحسستا أذيال القطط والكلاب والأغنام والديكة ومؤخرات الدجاج بحثاً عن البيض الساخن).
جلس تحت إحدى الشجيرات يبكي طيور الأمس.. الذكريات التائهة.. الأحلام المغمسة بأقواس قزحية.. يبكي تفاصيل طفولته، ثم تفاصيل أيامه التي أضاعها مع أولاد يشبهون فقاعات الصابون، ونساء يشبهن الخنازير في تلك المدينة التي ترك أحذيته فيها لأنها ربما نكأت قداسة القرية.
الضباب أتي.. الضباب رحل
وهو بينهما يصرخ.. يهتف:
"بلقيس!
بلقيـــ يـــ ـيـ ـيــ ـس
أحبك يا بلقيس".
وبلقيس ملكة نائمة منذ دهور.

نظر إلى الآفاق.. الجبال تهيم مثل العشاق، نظر إلى قلبه وجده يبكي من شرور البشر. قال له: لا تبك.. انظر إلى العالم البريء! اغتسل من الحزن بصوت العصافير! هذا العصفور الذي يحارب قبح العالم بالرفرفة القريبة من رؤوس الناس، انظر إليه!"إنه الدوار"..؟ هل ترى ما الذي يصنعه؟ انظر جيداً، ليتك تدري ما الذي يفعله هذا المجنون! هل ترى عشه الذي أقامه على ثقب جدار؟ ها هو ذا الآن يقف ويلتفت، ثم يلتفت ويقف.. لا يستقر على حال أبداً، يغادر عشه باحثاً عن القش والغذاء والحرية، ويعود محمَّلاً بقشة صغيرة واحدة يدخلها في معمار العش بإحكام، ويذهب في رحلة جديدة إلى أن تنسد جميع فتحات العش
- لعل البرد اشتد عليه بالأمس!
ما الذي يفعله هذا العصفور القلق في طريق العباد، والأطفال، والثعابين، والسحالي والحرادين؟ أهو حكيم؟ أم أنه بليد؛ لا يستفيد من تجاربه..؟ ألا يرى أنه كلما صنع عشاً جاء من يدمره..؟ هل أجنحته صغيرة وضعيفة فلا تساعدناه على العلو أم إنه شغوف بعلاقاته الحميمة مع الفلاحين والطرقات والجدران الواطئة؟ أهو كذلك أم ماذا.. يا لطرافة سماحته!

(2)
وهو يمشي في الطرقات الضيقة عرج إلى طريق السيارات التي عبرتها البلدوزرات قبل شهور لتوسيعها. أدى ذلك التوسيع إلى خفض الطريق، وتعليق سواقي الحقول عالياً في الجدران. استوقفته إحداها، فتريث يحادثها:
أيتها الساقية كأنك القريـــــة
أو كأن القرية أنت
عندما علقتك الجرافة
وهي تطيح بالزرع والماء،
والطين
ظللت كما أنت
متبتلة.. زاهدة.. قوية
تسرِّبين الضوء،
وتجرجرين الأنسام النقية
إلى رئة الحقل.
الضباب أتى، الضباب أشتد وأنت تعرف كل شيء:
على رأس هذه القرية سقط رأس أمك
وفوق ربيع صخورها حط جبين أبيك
ومثل ذلك فعلت أقدام الأجداد،
وجباه الأمنيات:
أنحني أمامك أيها التراب الأخضر.. لأني جئتك دون أطفالي الذين غابوا خلف جدران العالم الكبير، العالم الديناصوري المتوحش. يمكنني الآن أن أختبىء هنا، بين ذراتك المندَّاة؛ هنا يمكنني أن أحزن، لقد غدرتني المدن وضيعني الأهل وشيِّعني الأصدقاء.
الضباب تفرق، وزعته الريح. والتراب المبلل يخبَّىء شوقه للجفاف. ولا شيء أمامه إلا شجرة تحاول رفع رأسها من تحت الأنقاض التي خلَّفها مرور البلدوزر"قاسي القلب".
هو الآن عند (الجاب) والجاب: مرتفع يطل على رؤوس الجبال وقلوبها..
أراد أن يواسي الشجرة التي ستنفض بزندها الصخور الجاثمة عما قريب:
مخذولون
أدموا سواعدها
هشموا ضلوعها
ردموها بالأحجار الكبيرة
سلطوا على هذه النبية الطيبة:
الليل والبرد والأشواك
والأيدي الرعناء
لكنها صعَّدت غصونها ثانيـة
اخضرت.. مدت فروعها
ثم علت
.. علت ..

(3)
الضباب تلاشى تماماً..حلقت العصافير.. فتحت مواويلها، كأنها الآن صحت من النوم

(الإفاقة من النوم في القرى تختلف عن الإفاقة في المدن..)

هكذا حدثته نفسه وهي تتداخل في محادثـة تراسلت مع عوالمها:

في المدينـة إذا صحوت، تصحو صورة وجهي الغاضبة، المشوهة– كما هي– في كل بيت.. هناك لا تصحو وحدك، لأنهم جميعاً قلقون ينهضون معك.. جميعهم يتوجهون إلى المرآة في وقت واحد، وجميعهم يدخلون الحمام في الوقت نفسه وفي الوقت نفسه ينيخون أحمالهم، وينظِّفون أسنانهم وفي الغالب– معاً يخرجون من أبواب العمارات، لكنهم مثخنون بالكسل والحيرة.. طعم الخيبة يتحرك فوق ألسنتهم.. إنهم يتجهون إلى مكان واحد وإن تعددت الطرقات، يفكرون بفكرة واحدة وإن تعددت العبارات والجمل. في القرية لا تستطيع إلا أن تستسلم لمناداة العصافير، التي تظل تشدو طوال الدقائق المصاحبة لما بعد الفجر، تغني وترقص وتتوازن فوق الغصون.. تطير وتعود.. تحلِّق ثانية.. تتحسس الأشياء بمناقيرها ثم تعود لتحك ريشها.


(4)

الضباب ذهب.. هيا يا قدماي نتجول في الطريق القديم حيث كان المسافرون، ينحدرون إلى المهاوي، المؤدية إلى عدن.

في ذلك المكان الذي انطمرت فيه سواقي الحنين، تحنطت ذكريات جميلة وحزينة لرجال ونساء غادروا القرية صوب بحر العرب.. وصوب"دكة المُعلا" التي سحرت سكان الجبال منذ مئات السنين.. فارتحلوا ملبين نداءات الأمواج، فإذا وصلوا، شرعوا يتقافزون عليها وسط مشاعر فقد غامضة وكأنهم ينتحرون طائعين..
في الطريق القديم"طريق الخُليفا" شاهدت طفولتي الكثير من اللقطات المنكسرة، وفي كل مرة كنت أجد نساءً يحملن حقائب أزواجهن أو أقاربهن، وفي أحايين كثيرة كنت أجد رجالاً يحملون حقائب نسائهم.
ما إن يأخذ المسافرون حقائبهم، ويهرولون في الطريق المحفورة على صدر الجبل.. ما إن يحدث ذلك حتى يتعالى صوت جماعي لبكاء معلن، بكاء شديد الجرأة، يخفت مع مرور الوقت ليصبح أنيناً مكتوماً كأنه الشعور بالغدر.
مرة ودعت امرأة زوجها في هذه الطريق وراحت تنظر إلى صحراء خبت"الرجاع" المتاخمة لـِ"باب المندب"، تخيلت أن حبيبها سيمر في تلك القفار الملتهبة.. بكت.. ظلت تبكي إلى أن أصيبت بالهلوسة، وكذلك جنت امرأة وهي تودع أبناءها الثلاثة في المكان نفسه، ويحكى أن شاباً تزوج بامرأة جميلة وعندما حان موعد سفره للعمل في ميناء عدن، مر بالخليفة:- الطريق القديم، ولأن فرحته ما تزال طرية!- تردد ، هل يعود إلى امرأته الجميلة أم يذهب..؟ وبعد حيرة شديدة عاد.
في كل مرة يزمع فيها الرحيل يذهبان (هو وهي) معاً إلى نفس المكان وعندما ينظر إلى وجه حبيبته الباكي يعود أسبوعاً. وهكذا كلما جاء موعد سفره، يذهب معها إلى نفس المكان، ثم يعود.
في المرة الأخيرة تركته يذهب وحيداً على أمل أنه سيذهب إلا أنه لم يرحل ظل يراوح هناك إلى أن هام في الجبل المقابل.

(5)
قبل ساعات وصل القرية لم يدر هل وصل محمولاً على الغيوم أم الغيوم هي المحمولة عليه؟. تقرحت عيونهم (هو والدموع والضباب) على قبر أبيه، مثل زجاجة عطر معبأة بالحيرة.
وحده أخذ يشكو للنائم تحت سقف الأحجار المدفونة:

لم أعد أمتلك شيئاً.. صرت ملكاً لها"أي الأشياء". نعم، قبل مجيء الضباب الكثيف وقفت على النافذة.. شاهدت شجرة"اثآب" طالما رافقت طفولتي.. أغمضت الشجرة جفونها. وكذلك فعلت أنا.. وقتها تقافزت الأغنام تأكل اللا شيء من الحقول القاحلة، ثم رفعت ثغاءاتها المنكسرة إلى الله.

قال (جده) الذي كان يعمل سابقاً في وزارة التربية وأصبح الآن متقاعداً يتألب تحت البطانيات.. قال:

عُمال الكهرباء جاءوا لتثبيت الأعمدة، ثم ذهبوا دون توصيل الإنارة. ومثلهم قبل سنوات فعل عمال المياه، الذين أوصلوا المواسير دون أن يتركوا في حلوقها ما يبل. ومثلهم فعل عمال الطرقات: أوجعوا القرية باختراقاتهم المتكررة لحقولها، ولم ينتبهوا للدمار الذي حدث بعد ذلك خاصة مع هطول المطر.

في تلك اللحظات كان الأطفال يجوبون الطرقات قافلين إلى بيوتهم.. هالات من الغيوم القطنية تتناثر في الأمكنة.. ثمة نساء مسربلات بالسواد. سأل أمه:

منذ متى والنساء يلبسن الحجاب ويتسربلن بالجلابيب؟ ويمشين في الطرقات مثل العضاريط؟

ردت متذمرة: يمكن منذ سنتين!

إذاً لقد وصلت سموم المتدينين الجدد إلى هذه القرية البعيدة.


(6)
الليل أتى حاملاً في قفته الظلام والضباب المضيء والهمسات البريئة والحكايات الشفافة والصحو أحياناً..
والليل حب والليل حزن، والليل شوق، وحلم، ولوعة، وشجن، وأمل وتأمل. والآن جميعهم ناموا: الرجال المتعبون من الوساوس البريئة، والنساء المثخنات من الفلاحة، والأشجار المتأملة لدموع المساكين، والطيور الليلية، والقمر المتأبط كل قلب، ما عداه هو، المرمي في صحراء التيه، المتشظي ألماً.. أقسم ألا ينام وحيداً، وألا يبكي وحيداً وألا يغني وحيداً في هذه القرية، التي يراقصها الضباب، وتهدهدها عيون القطط الزرقاء، وتناهيد العشاق.
اشتد الضباب..انعدمت الرؤية، وهو في نقطة الارتكاز وسط القرية، تمر أمامه الكلاب الشاردة؛ مثقلة بالحزن وتلتقط أذناه أصواتا صادرة من البيوت المغلفة بالفتور. ولا تطل من شرفة الحلم إلا الأيام البعيدة، التي أدخلته إلى الفرح المريب كما أدخلته إلى الضياع العارم. جلس فوق جدار مهمل، وذكريات طفولته قعدت أمامه: مر على تفاصيل الحقول، والطرقات والشعاب.. تفاصيل الأعشاب والزهور الصغيرة والأنداء المعطرة دائماً للأمكنة.
ها هو ذا بعد عقدين من الزمن يتخبط بين الظل والضوء، الظلام والنور، السفر والقعود.. الخروج والعودة. لا يدري أين تكمن راحته؟ وكيف تمكن مغازلة الطمأنينة! والى أي مدى يمكن مد الصوت وعروق الحيرة؟. هل الطمأنينة تكمن في الحياة، أم في الموت، في البقاء بين الإضاءات البيضاء، والسوداء والإضاءات المفتعلة، أم في اللاشيء؟. أين تكمن الراحة..؟ أهي في الذهاب إلى الزوايا المسكونة بالجن، أم في الأمكنة العامرة بالأرواح والملائكة والقديسين..؟ أم أنها تكمن في مناداة بلقيس، الملكة التي ضاعت بين جبال اليمن وصحراء الربع الخالي..؟ ها هو ذا الضباب يلتف، ومعه تلتف الأيام التي عاشته دون أن يعي، لكنه فيها حلم وأحب وغنى ولعب. زاوج بين تلك الأيام التي تهيأ فيها للحياة، والحلم، وبين هذه الأيام التي تحتشد فيها الآلام وتتصارع في أعماقها المواجع ويزداد فيها الحنين.. الحنين إلى شيء لا يدرك كنهه.. الحنين.. الحنين إلى شيء غامض.. دفين.. ما يكاد يعثر عليه حتى يفقده. شيء ضائع معلَّق بين دفتي سحابتين.. لا.."ضبابتين".. ترى هل القرية منتهى المحطات.. آخر الأمكنة.. وهل هي الزاوية التي تخبىء الكنز..؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى